في الإسكندرية .. التدهور العمراني يَقتُل

استيقظنا صباح الأحد 25 تشرين الأول/ أكتوبر على بداية شتاء هذا العام مصحوباً ببعض الأمطار في القاهرة. ولكن فجر اليوم ذاته في الإسكندرية بدأ بنوة "رياح الصليبية" وأمطار ثلجية وعواصف رعدية. في ساعات قليلة تراكمت الأمطار ومياهها في شوارع المدينة وملئت المنازل بارتفاعات غير مسبوقة مما تسبب بانقطاع التيار الكهربائي وشلل تام في حركة المرور. كما توفي تسعة مواطنين غرقاً بسبب سقوط كابلات
2015-11-08

أمنية خليل

باحثة أنثروبولوجيا في شؤون العمران من مصر


شارك

استيقظنا صباح الأحد 25 تشرين الأول/ أكتوبر على بداية شتاء هذا العام مصحوباً ببعض الأمطار في القاهرة. ولكن فجر اليوم ذاته في الإسكندرية بدأ بنوة "رياح الصليبية" وأمطار ثلجية وعواصف رعدية. في ساعات قليلة تراكمت الأمطار ومياهها في شوارع المدينة وملئت المنازل بارتفاعات غير مسبوقة مما تسبب بانقطاع التيار الكهربائي وشلل تام في حركة المرور. كما توفي تسعة مواطنين غرقاً بسبب سقوط كابلات الكهرباء في المياه، ويقال إنّ عدد الموتى أكثر من ذلك وقد يصل لعشرات. وعلى خلفية الأحداث، تقدم محافظ الإسكندرية باستقالته، كما استقال رئيس هيئة الصرف الصحي بالإسكندرية. جاءت الصور من الإسكندرية تظهر أشخاصاً يطفون في المياه وقد ماتوا جراء سقوط شيء عليهم، أو حصاناً ميتاً بينما ما زال معلقاً بالعربة الخشبية التي يجرها، وأخرى لشخص داخل منزله يقف في المياه والتي وصل ارتفاعها لمتر بينما تناثرت جميع المحتويات طافية على المياه حوله، أو لأثاث في الشارع تجره السيول.. وهناك صور أخرى لعدد من السيارات الغارقة تماماً في المياه ولا يظهر غير سقفها، كما انهار عقار وانهارت عدد من الشرفات المنزلية جراء العاصفة.

الحكومة

ارتفعت المطالبات بإقالة المسئولين عما حدث، وصاح آخرون متسائلين عما يفعله المسئولون وما الذي بأيديهم، إذ لا ذنب لهم فيما حدث. فعلى حد قول محافظ الإسكندرية المستقيل في منتصف اليوم أن ما حدث "كارثة بيئية" وأخلى مسئوليته قائلا: "خلال زيارة المهندس شريف إسماعيل رئيس مجلس الوزراء للإسكندرية، عرضت مشكلة الصرف الصحي والتي تحتاج إلى مبلغ 75 مليون جنيه لإصلاح المحطات المختلفة والمعدات وإدخال شبكة جديدة تتناسب مع حجم الزيادة السكانية للمحافظة، ووعد رئيس الوزراء بتوفير المبالغ المطلوبة وحل المشكلة قبل الشتاء القادم 2016". لا تهم كثيراً هذه الاستقالات 
أو الإقالات، ولكن اختلاف المسئولين في تعريف المشكلة والمسئولية يكشف تسيبهم. فقد صرح رئيس الشركة القابضة للمياه والصرف الصحي أن ما حدث ليست مسئولية الشركة لأنها غير مكلفة الاهتمام بتصريف الأمطار. فلماذا إذاً استقال أو أقيل رئيس هيئة الصرف الصحي بالإسكندرية؟ ولماذا تفاجأ الجميع بهذا الوضع، وماذا عن هيئة الأرصاد الجوية التي تعلم بإمكان حدوث ما حدث، فتلك النوة حدث سنوي متكرر. ولو صح أن الأمطار هذا العام جاءت بمعدلات أعلى بستة أضعاف ما تأتي به.. فلماذا لم يُعلن اليوم كإجازة مسبقة؟ ولماذا لا تمتلك الحكومة أي وسائل لمواجهة تلك "الكوارث" على حد قولها؟

التدهور العمراني

لا يخفى على أحد مظاهر التدهور العمراني في مصر، والتي جاءت بعض من شعارات يناير 2011 تعترض عليها. طالب الجميع بتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية ومن أبسط مبادئها توفير الخدمات الأساسية التي تدخل ضمن نطاق الحق في السكن والحق في المدينة. ويتضمن مفهوم الحق في السكن تبعا لإتفاقية لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1991 عدداً من المعايير، منها تحقيق الخدمات الأساسية من مرافق، أي المياه والصرف الصحي والكهرباء والطرق. كما طالب الملايين من المصريين بتوفير أدنى من الحقوق، وهي الواجبات الأساسية الواقعة على عاتق الحكومة التي تُدير البلاد. فكيف لنوة الإسكندرية أن تتسبب في موت هذا العدد؟ ليست زلزالاً مفاجئاً حتى نُطلق عليه كارثة.. وحتى إن كانت كارثة فأين التعامل معها؟ هل يوجد نظام صرف صحي للأمطار، وهل الشوارع والأرصفة مصممة لتصريف مياه الأمطار. وأما شبكات الكهرباء وبعض الكابلات الرئيسية القاتلة فمتروكة مكشوفة. أحد مواطني الإسكندرية قرر تقاضي جنيهين مصريين ليحمل المارة لعبور الطريق، والذي ارتفعت المياه فيه لمتر تقريباً. يجري تداول تلك المواقف على أنّها مضحكة بينما هي في الواقع تعبر عن وضع بائس يتعامل معه الجميع كأنه النشاط اليومي لهم.

مشاريع الدولة 

المشاريع العملاقة التي تعمل الحكومة جاهدة على تنفيذها، تقدمها كعنوان لنهضة مصر وتطلب من شعب مصر أن يتبرع من أمواله الخاصة حتى يتم تنفيذها. ومن أهمها مشروع قناة السويس الجديدة ومشروع العاصمة الإدارية الجديدة. 4 مليار دولار هي تكلفة مشروع قناة السويس و45 مليار دولار تكلفة العاصمة الجديدة، التي تقع شمال شرق محافظة القاهرة والتي ستصبح حسب وصف الحكومة العاصمة الإدارية والمالية الجديدة لمصر، ومقر الإدارات الحكومية والوزارات الرئيسية، وكذلك السفارات الأجنبية. وعلى مساحة 700 كيلومتر مربع ستستوعب خمسة ملايين شخص. جاء مشروع العاصمة ليحتل كل الصحف والمجلات المعروفة تأكيدا إن مصر تسير في درب التطور والاستثمار. وهذا على الرغم من نقد العديد من الباحثين العمرانيين والمهندسين المعماريين لهذا المشروع ومقارنته بمشاريع المدن الجديدة والتي فشلا حتى الآن، وتعتبر أوجه الإنفاق عليها هدراً للمال العام لإنها لا تحقق المطلوب منها ولا ينتقل إليها السكان. 
ولكن لماذا تتبع الحكومة مبدأ "إنسف حمامك القديم" في العمران؟ لماذا لا تهتم الدولة بإصلاح وتطوير العواصم والمدن والقرى القائمة بالفعل، ويقطنها الملايين من المواطنين والمواطنات، ويموتون يومياً جراء مظاهر التدهور العمراني مثلما حدث في الإسكندرية. لماذا تتعامل السلطة مع الامر وفق أخلاق الرجل الذكوري الذي لم يعد يفضل زوجته الحالية، ويقرر التعامل معها على إنها قديمة ويسعى للزواج من أخرى صغيرة في السن وجميلة؟ 
لن تحدث فرقاً استقالة المحافظ أو أحد المسئولين، لأن المسؤولية الحقيقية في التخطيط لتطوير وتحسين حياة المواطنين والمواطنات ليست ضمن الأولويات المطروحة في خطط القائمين على إدارة البلد.

 

للكاتب نفسه

القاهرة في عشر سنوات... هل نعرفها؟ (2/2)

أمنية خليل 2021-02-01

لم تكتفِ الأجندة العمرانية للسلطة بالمشاريع الكبرى والاستثمار في الصحراء، بل اشتملت "خطة التنمية المستدامة لمصر 2030" على مشاريعَ يتم فيها تحويل القاهرة إلى عاصمة تراثية وتجارية واستثمارية. وهذه التحولات...