ازدادت في الآونة الأخيرة ظاهرة إرغام الفتيات على الزواج بسن مبكِّرة، وأخذت منحى جديداً من حيث الأسباب وصيغ الإرغام. فمنذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وحتى بداية السبعينيات، كانت الفتاة عرضة للزواج من رجل غريب أو من المقربين للعائلة، لأن ولي أمرها ارتأى أن يمنحها لهذا الرجل كأي سلعة تُهدى، من دون أن يكون لها حق الاعتراض أو مجرد إبداء الرأي. كما أنها كانت تمنح لرجل من قبيلة أخرى كجزء من «دية» تتَّفق عليها العشيرتان لحلِّ خلافاتٍ ناشبة بينهما، وتسمَّى «فَصْليَّة». والفتاتان، المهداة والفَصْليَّة، ليس لهما حقّ المطالبة بالتفريق أو الطلاق، لأنَّهما مجرَّدتان من حقوقهما وفقاً للأعراف العشائريَّة. ولذلك فإنَّ «الحوليَّة الديموغرافيَّة» التي تصدرها الأمم المتَّحدة نشرت عام 1968 جدولاً لحالات الطلاق في تسع دول عربيّة خلال الأعوام 1963-1967 وبيّنت حينها أن نسبة العراق في معدلات الطلاق هي الأقل في الجدول، بينما جاءت مصر في مقدمتها.
أما في منتصف سبعينيات القرن الماضي، فقد أصدرت حكومة الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر قراراً مُنع بموجبه تزويج الفتيات وفق أعراف الدية أو الهدية. ومثَّل القرار خطوة أولى في توجه المجتمع نحو المدنيّة، وعزوفاً واضحاً عن ترسبات المجتمع القبلي أو البدوي، وجاء ضمن حزمة قرارات فرضتها الثّقافة المجتمعيَّة الجديدة التي ساعد على نشرها التحالف الجبهوي بين حزب البعث الحاكم آنذاك والحزب الشيوعي العراقي وأحزاب كردية، تحت لافتة «الجبهة الوطنية والقومية التقدمية». وهذه استهدفها صدام حسين فشنِّ حملة شرسة على التنظيمات المنضوية في الجبهة، وقتل وشرد قياداتها وكوادرها وقواعدها. وكان هذا من بين أسباب أخرى لعودة القيم والأعراف العشائريَّة والبدويَّة الى الانتعاش، وهي التي تشكِّل المرأة إحدى أهم ضحاياها، على حساب قيم الدولة المدنيَّة.
من اللهو الطفولي إلى هودج العرس
شهدت سنوات الحصارالذي فرضه مجلس الأمن الدولي على العراق، والتي امتدت من عام 1990 لغاية عام 2003، تراجعاً كبيراً في الوضع المعيشي للفرد العراقي. وقدَّرت منظَّمة الغذاء والزراعة الدوليَّة أن الفقر اتسع بين عامي 1995 1996 ليشمل 71 في المئة من السكان. وإثر هذا، أصبح العراقيون يعيشون في ضائقة مالية كبيرة عجزوا خلالها عن توفير أبسط مقوِّمات الحياة، مما دفع ببعض الآباء إلى تزويج بناتهم بأعمار مبكِّرة ليحقِّقوا هدفين في آن واحد، أوَّلهما التخلَّص من عبء أحد أفراد العائلة، وثانيهما الاستفادة من المهر المقدَّم للعروس، وهو في أغلب هذه الزيجات عبارة عن مبلغ مالي يتسلمه الأب كـ«ثمن» لتلك الفتاة المسفوحة على اعتاب حياة تجهل كل تفاصيلها.
وبعد التغيير الذي حصل عام 2003 ، بإطاحة نظام صدام حسين واحتلال القوات الاميركية للعراق، ازدادت حالات الفقر. وجاءت مصحوبة بظاهرة التأجيج الطائفي الذي شرّد مئات الآلاف من العوائل العراقية داخل البلاد وخارجها، مما زاد في حالات الزواج المبكِّر، بعيداً عن رقابة القانون وأجهزة الدولة ومنظَّمات المجتمع المدني، على الرغم من أن هذا الزواج يمثَّل انتهاكاً لحقوق الإنسان، وخرقاً لمواثيق ومعاهدات دولية وقَّع عليها العراق. وقد أخذ الخط البياني لهذه الظاهرة بالتصاعد خلال السنوات العشرة من عمر الدولة العراقية «الديمقراطية» التي تشكلت بعد عام 2003.
ويؤكد مسح أجراه الجهاز المركزي للإحصاء، التابع لوزارة التخطيط العراقية بشأن «معارف وسلوكيات وطموحات الفتاة المراهقة»، بالتعاون مع هيئة إحصاء إقليم كردستان، ووزارتي الصّحة والمرأة، إن التقديرات السكانيَّة تشير إلى أن عدد الفتيات في العراق ضمن الفئات العمريَّة (10 14) سنة بلغ 1.9 مليون فتاة. ووفقاً لهذه التقديرات، فإنِّهن يمثِّلن تقريباً 6 في المئة من إجمالي السكان. وبحسب نتائج المسح فان الفتيات من هذه الفئة العمريَّة يتوزَّعن بواقع 65.4 في المئة في المناطق الحضرية و34.6 في المئة في الأرياف.
وتلفت نتائج المسح إلى أن أغلب الفتيات في هذه المرحلة العمرية على مقاعد الدراسة، إذ بلغت نسبة الملتحقات بالتعليم 82.4 في المئة، وترتفع هذه النسبة في إقليم كردستان لتصل الى 92.9 في المئة.
وقد أظهر المسح الاجتماعي والاقتصادي للأسرة في العراق الصادر عام 2007 أن 21 في المئة من الفتيات تزوجّن قبل بلوغهن سن الـ19سنة، مقارنة بـ15 في المئة في أعوام 1997 و2004، فيما يظهر الجهاز المركزي للإحصاء عام 2011 أن 5 في المئة من الفتيات العراقيات تزوَّجن بعمر دون 15 سنة، ونحو 22 في المئة دون 18 سنة. ويأتي تصاعد الخطوط البيانيَّة في نسب الزواج المبكِّر، على الرغم من تحذير وزارة المرأة في عام 2010 من أن «النساء بين أعمار 15 إلى 18 سنة هنّ أكثر عرضة للوفاة أثناء الحمل أو الولادة بمرتين بالقياس إلى النساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 20 و24 سنة». وهذه الإحصائيات تفتح الأبواب مشرَّعة أمام حقوق القاصرات، اللواتي يتعرَّضن أكثر للوفاة أثناء الحمل أو اثناء الولادة.
شرعية خارج المحاكم
ومع أن قانون الأحوال الشخصيَّة في العراق رقم 188 لسنة 1959 يُعدُّ متوافقاً إلى حد ما مع القوانين الدولية التي تدعو إلى أن يكون الحدّ الأدنى للزواج عند اكمال الـ18 عاماً، (إذ يمنع القانون زواج الفتاة دون الـ15 عاماً، ويعطي التقدير للقاضي وبرضا الوالدين في تزويج الفتاة بين الـ15 والـ18 عاماً)، إلا أن الشرعيَّة التي تسبغ على العقود المكتوبة خارج إطار المحاكم ولاسيما تلك التي تعقدها مكاتب رجال الدين من سادة ومشايخ، تعتبر ملاذاً لمن يريد تزويج ابنته دون السن القانوني، ولمن يريد أن يتزوج فتاة دون هذا السن. وعقد «السيّد»، أصبح في المجتمع العراقي الحالي ضرورة لا يستقيم العقد الشرعي المعقود في محاكم الاحوال الشخصية بدونها.
وطلاق على ورقة زواج
شكَّلت ظاهرة الزواج المبكر من ناحية، واستقلال المرأة العاملة الاقتصادي من ناحية أخرى، (والذي شهد بعد عام 2003 طفرة كبيرة في المرتبات والامتيازات المالية كالمنح والقروض)، إضافة الى اتساع حجم البطالة وصعوبة الحصول على سكن منفرد للزوجين خارج إطار بيت العائلة... شكلت هذه الظواهر حاضنة أساسيَّة لتصاعد نسب الطلاق في العراق، التي بلغت أعداداً كبيرة، حيث أظهرت دراسة ميدانية للباحثة سجى عبد الرضا، بتوجيه من قاضي الأحوال الشخصية في محكمة الشعب في بغداد، أن الشهر الأول من سنة 2010 شهد حالات زواج للقاصرات، راح يتزايد منذ الشهر الأوَّل ولغاية الشهر الخامس من تلك السنة. وبيَّنت الدراسة أن بداية الشهر الأوَّل شهدت عشر حالات زواج للقاصرات من أصل 46 حالة زواج، وفي الشهر الثاني لاحظت تزايداً وصل إلى 47 حالة من أصل 132 حالة، ثم تزايد أكبر في شهر آذار/مارس وصل إلى 87 حالة من أصل 281 حالة، وفي شهر نيسان/أبريل وصل إلى 100 حالة من أصل 297 حالة، أما الشهر الخامس، من السنة ذاتها، فقد شهد تصاعداً واضحاً في معدَّل تلك الزيجات، إذ تشير الدراسة إلى أنها بلغت 36 حالة من أصل 50 حالة خلال الايام الاربعة الأولى منه.
وأوضحت الدراسة أن أغلبيَّة أفراد العينة تقع أعمارهن ما بين الـ15-17 سنة، حيث بلغ عددهن تقريباً خلال الأشهر الخمسة 244 من أصل 746 من الزيجات الحاصلة في محكمة الأحوال الشخصية في منطقة الشعب (شرقي بغداد)، مشدَّدة على أن هذا يوضح ارتفاعاً مستمراً في عدد حالات زواج القاصرات للأعمار المبينة آنفاً والتي تمثِّل ما يقارب 30 في المئة من إجمالي عقود الزواج.
بمقابل هذا، تشير الأرقام الصادرة من مجلس القضاء الأعلى إلى أن حالات الطلاق تتزايد بشكل مطرد منذ عام 2004 الذي شهد 28690 حالة طلاق. وفي عام 2005، أصبح عدد الحالات 33384 حالة، ثم 35627 حالة في عام 2006، وليستمر في الارتفاع مع سنة الاحتقان الطائفي عام 2007، فيبلغ 41560 حالة. أما في عام 2008، فكانت زيادة نسبة الطلاق ملحوظة حيث بلغت 44116 حالة، وتوَّجت في العام 2009 بنسبة كبيرة بلغت 61466 حالة. إلا أن العام الذي تلاه شهد تراجعاً طفيفاً، ولكنه لم يستمر، فجاء عام 2011 ليستعيد النسبة الأسبق.
بالرغم من تشخيص المشكلة من قبل الوزارات ولجان مجلس النوّاب المختصة بالقضايا الاجتماعية، فلا وجود لحلول جذريَّة لها. وتلخِّص تلك الهيئات أسباب الطلاق المتزايد بعوامل رئيسة ثلاثة هي «الزواج المبكَّر بسبب التأثيرات العشائرية»، و«البطالة»، و«أزمة السكن».
إدراك ولكن لا حلول
وتبدو هذه العوامل الثلاثة عصيَّة على الحل، إذ لا يزال السياسيون يهرعون إلى شيوخ العشائر لتحشيدهم من أجل الحصول على أصوات أبناء عشائرهم في الانتخابات، ما يعطي لهؤلاء قوَّة تتعدَّى حدود القانون في الكثير من الأحيان. أما البطالة، التي بلغت 11 في المئة بحسب احصائية لوزارة التخطيط، فإنها لا تبدو متناغمة مع نسبة الفقر في البلاد التي بلغت 38 في المئة بحسب «اللجنة العليا للتخفيف من الفقر». أما أزمة السكن، فقد أصبح حلَّها الحلقة الأصعب في تاريخ العراق الحديث. ما يعني، وفق كلَّ هذه الاحصائيات، إن العراق سيحلُّ في طليعة الدول في قائمة الزواج المبكِّر لإحصائيات الأمم المتحدة التي تتوقَّع فيها أن تبلغ حالات زواج القاصرات نحو 50 مليون حالة في العالم بحلول عام 2020، وأن هذا العدد سيصبح 100 مليون بحلول عام 2030، في حال استمرت الأمور على ما هي عليه.