"قرطاج" تطرد أبناءها وتلقي بهم في البحر

تؤكد الدراسات ان أكثر من نصف الشباب التونسي يرغب في الهجرة! أبناء الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى هم الأكثر اقبالاً على "الحرقة"، يليهم أبناء الطبقات الفقيرة والمعدمة. أهمية البعد الاقتصادي لا تعني انه الدافع الوحيد للحرقة، بل هناك عوامل ثقافية ونفسية مؤثرة أيضاً.
2018-10-29

شارك
| en
سمعان خوام - سوريا

تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

استقبلت الدولة التونسية في أواخر أيلول/ سبتمبر 2018 ماتيو سالفيني وزير الداخلية الإيطالي، اليميني الشعبوي والمعروف بمواقفه العنصرية والمعادية للمهاجرين. التقى نظيره التونسي وعقدا ندوة صحافية في مقر الوزارة. كانت هناك في الخلفية جدارية تصور عبور جيوش القائد القرطاجي حنبعل (أو هنيبعل) جبال الألب باتجاه روما. هذه "الرسالة المشفرة" أعجبت العديد من التونسيين وجعلتهم للحظة يحسون بالفخر. لكن المجد التليد لا يشبه في شيء الحاضر المُذل. فأحفاد حنبعل ما زالوا يتمنون الوصول إلى روما، ليس كغزاة بل كمهاجرين غير نظاميين يركبون قوارب بالية عوضا عن الخيول والفيلة. "قرطاج" أصبحت تطرد أبناءها وتلقيهم في البحر. إنهم "الحراقة" الذين تركوا كل عزيز في البر الجنوبي وولوا وجوههم شطر البر الشمالي، أوروبا. وكمثل كل التغريبات، توجد أغانٍ وملاحم تحكي عذابات وأحلام المغادرين أوطانهم نحو المجهول. مئات من أغاني "المزود" (جنس غنائي شعبي تونسي) والراب الغاضبة والراي الحزينة تتحدث عن يأس الشباب من أوضاع بلادهم وركوبهم البحر الغدّار لكي يودعوا البؤس و"الحقرة" (الاحتقار) وعن حزن وحيرة "لميمة" (الأم) وأهوال "الشقف" (القارب). الحرقة أصبحت "تيمة" أساسية في الإنتاج الثقافي الشعبي، ليس في تونس فقط بل في كامل انحاء المغرب العربي. حتى أن أغنية "يا البابور يا مونامور، خرجني من لاميزار" (حبيبي القارب، انقذني من البؤس) للجزائري "رضا الطلياني" أصبحت بمثابة "نشيد وطني" مغاربي شبابي.

ظاهرة "الحرقة" أو الهجرة غير النظامية لا تخص الشباب فقط، بل هي شأن عام يمس العائلة التونسية ومعضلة أمنية / سياسية لها تأثير على "الأمن القومي" للبلاد وعلاقاتها الدولية. يكاد لا يمر أسبوع دون أن تتحدث وسائل الإعلام التونسية عن إجهاض الأجهزة الأمنية لعملية "حرقة" أو عن وصول مهاجرين تونسيين جدد إلى السواحل الإيطالية. وكل بضعة أشهر تقريباً، هناك حادثة غرق مأساوية تخلف عشرات الموتى والمفقودين. التناول الإعلامي للمسألة في أغلب الأحيان سطحي وغني بالكليشيهات حول "الحراقة"، وغالباً ما يتم استعمال عبارات مثل "الهجرة غير الشرعية" أو "اجتياز الحدود خلسة" مع كل ما تحمله من دلالات سلبية. من هم هؤلاء "الحراقة"؟ ما الذي يدفعهم إلى المخاطرة بحياتهم في بحر ابتلع عشرات آلاف المهاجرين في اقل من ثلاثة عقود من الزمن؟ كيف ينظر إليهم المجتمع، وكيف تتعامل معهم الدولة؟

معطيات عامة

"الحرقة" هي الابن الطبيعي لاتفاقية شنغن المنظِّمة لمسألة اجتياز الحدود الأوروبية الداخلية والخارجية. مع دخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ في آذار/ مارس 1995 أصبح المواطنون التونسيون مطالَبين بتقديم طلب للحصول على تأشيرة دخول للدول الأوروبية المعنية بالأمر. تأشيرة لا تمنح إلا بجملة من الشروط القاسية التي ما انفكت تتزايد عبر السنين، مما جعل الكثير من التونسيين يصرفون النظر عنها ويجربون حظهم بوسائل أخرى: الزواج لمن استطاع اليه سبيلا بسائحة أجنبية أو ببنات المهاجرين اللواتي يحملن جنسيات أوروبية، أو الهجرة غير النظامية في أغلب الحالات. الهجرة ذات الطابع الاقتصادي هي "ضرورة حياتية" بالنسبة للشباب التونسي، لذا فإن سياسة غلق الأبواب التي تتبناها أوروبا لم توقف الهجرة بل جعلتها مكلفة أكثر مادياً وبشرياً، كما انها فتحت باباً جديداً للإثراء أمام عصابات الجريمة المنظمة في ضفتي المتوسط.

يمكن تقسيم تاريخ الهجرة غير النظامية في تونس إلى ثلاثة مراحل كبرى. المرحلة الأولى من اواسط العقد الاخير من القرن الماضي إلى 2003، أي قبل ان تسن تونس قوانين تجرم الظاهرة وتنخرط بحماس في الاستراتيجية الأوروبية الموضوعة للتصدي لها. خلال هذه المرحلة وصل قرابة 30 ألف تونسي إلى السواحل الإيطالية. المرحلة الثانية تمتد من 2004 إلى أواخر 2010، وتميزت بتشدد كبير من نظام بن علي تجاه الظاهرة، الحلول الأمنية والزجرية خفضت أعداد "الحراقة" إلى بضعة مئات كل سنة لكنها لم تسعَ إلى معالجة الأسباب العميقة للظاهرة. أما المرحلة الثالثة فبدأت مع الثورة التونسية في كانون الثاني / يناير 2011 وما زالت مستمرة إلى اليوم. سنة 2011 التي شهدت ارتباكاً كبيراً للأجهزة الأمنية التونسية وسجلت ارتفاعاً تاريخياً في عدد "الحراقة" الذي تجاوز 25 ألف شخص حسب السلطات الإيطالية. ثم بدأت الأرقام في الانخفاض في السنوات التي تلتها، نظراً لبداية استقرار الأمور السياسية والأمنية في البلاد. بداية من 2016 بدأت الأعداد ترتفع من جديد لتدهور الوضع الاقتصادي في تونس، ليصبح المعدل السنوي في حدود 4000 أو5000 مهاجر غير نظامي. في المحصلة هناك أكثر من 38 ألف مهاجر تونسي غير نظامي وصلوا إلى إيطاليا خلال الفترة الممتدة من مطلع 2011 إلى مطلع 2017 يضاف لهم قرابة ألفي مهاجر في الأشهر الأربعة الأولى من سنة 2018. يعني خلال عقدين من الزمن وصل أكثر من 80 ألف مهاجر تونسي غير نظامي إلى السواحل الإيطالية. و اذا ما احتسبنا الآلاف الذين يتم ايقافهم قبل بداية الرحلة أو خلالها والمئات الذين ابتلعهم البحر، فإننا سنجد أن أكثر من مئة ألف تونسي لجأوا إلى الهجرة غير النظامية.

صحيح ان تونس أصبحت نوعاً ما أرض عبور للحراقة الأجانب (خصوصا الأفارقة)، لكن أبناء البلد ما زالوا يمثلون الأغلبية الساحقة من جملة المهاجرين، وبما نسبته أكثر من 80 بالمئة منهم.

مئات من أغاني "المزود" (جنس غنائي شعبي تونسي) والراب الغاضبة والراي الحزينة تتحدث عن يأس الشباب من أوضاع بلادهم وركوبهم البحر الغدّار لكي يودعوا البؤس و"الحقرة" (الاحتقار)، وعن حزن وحيرة "لميمة" (الأم).. أغنية "يا البابور يا مونامور، خرجني من لاميزار" (حبيبي القارب، أنقذني من البؤس) أصبحت بمثابة "نشيد وطني" مغاربي شبابي.

وسائل الإبحار المستعملة هي أساساً قوارب ومراكب الصيد والزوارق السريعة، وبدرجة أقل المراكب التجارية واليخوت والقوارب المطاطية ونصف الصلبة (زودياك). تنطلق رحلات الهجرة غير النظامية من مختلف السواحل التونسية، لكن هناك محافظات يفضلها المهربون أكثر من غيرها: صفاقس، المنستير، المهدية، بنزرت، نابل، مدنين. هذا ما نستنتجه من احصائيات وزارة الداخلية حول العمليات التي اجهضتها حسب المناطق. تستأثر محافظة صفاقس بالمرتبة الأولى بأكثر من ثلث العمليات (37 في المئة سنة 2016 و42 في المئة سنة 2017) ربما نظراً لطول سواحلها (الأطول في تونس)، ووجود عدة موانئ صغيرة وقرى صيادين، كما انها مدينة كبيرة يسهل الاختباء فيها والانتظار دون لفت أنظار الأجهزة الأمنية و"الوشاة". جرجيس (محافظة مدنين) والشابة (محافظة المهدية) والبقالطة (محافظة المنستير) وكاب زبيب (محافظة بنزرت) وقليبية (محافظة نابل) تعتبر أيضاً من "منصات" الحرقة النشيطة والمعروفة.

من هم "الحراقة" التونسيون ولماذا "يحرقون"؟

الشريحة العمرية المعنية أساساً بالهجرة هم الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و35 سنة، الأغلبية الساحقة هم ذكور غير متزوجين. هجرة العائلات شبه منعدمة ويندر أن نسمع عن مثل هذه الحالات. حضور النساء في قوارب الهجرة غير النظامية ضعيف ولا يتجاوز نسبة 2 أو 3 في المئة لكنه في تطور، ويُتوقع أن يصبح محسوساً بشكل كبير في السنوات القادمة. يأتي الحراقة من كل مناطق البلاد لكن بعضها معني أكثر من مناطق أخرى: أحواز المدن الكبرى وأحيائها الشعبية (إقليم تونس الكبرى ومحافظة صفاقس ومحافظات جهة الساحل)، وبدرجة اقل أبناء المدن الداخلية الأكثر فقراً خصوصاً من الوسط والجنوب الغربيين. أبناء الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى هم الأكثر اقبالاً على "الحرقة"، يليهم بالطبع أبناء الطبقات الفقيرة والمعدمة.

الحرقة هي قبل كل شيء هجرة بدافع اقتصادي أي انها امتداد للتقاليد الهجرية التونسية التي ترسخت منذ أواخر ستينيات القرن الماضي. الأسباب التي تدفع الشباب التونسي للحرقة حالياً تكاد تكون نفس الأسباب التي دفعت أجيالاً من التونسيين للهجرة سابقاً علاوة على فرض أوروبا التأشيرة بشروط تعجيزية.

الهجرة ذات الطابع الاقتصادي هي "ضرورة حياتية" بالنسبة للشباب التونسي، لذا فإن سياسة غلق الأبواب التي تتبناها أوروبا لم توقف الهجرة بل جعلتها مكلفة أكثر مادياً وبشرياً، كما انها فتحت باباً جديداً للإثراء أمام عصابات الجريمة المنظمة في ضفتي المتوسط.

أوروبا - خصوصا الدول الاستعمارية منها - تتحمل جزءا كبيرا من مسؤولية ما يحدث حالياً عند حدودها الجنوبية. ليس في هذا الكلام تحامل: عقود من إستعمار الدول المغاربية واستنزاف مواردها ودعم النخب المحلية المستبدة والفاسدة بعد الاستقلال، جعل من هذه الدول بلداناً فاشلة وطاردة لأبنائها خاصة الشباب. كما ان تشجيع دول أوروبا الغربية لهجرة شباب المغرب العربي اليها بعد الحرب العالمية الثانية (كيدٍ عاملة ضرورية في اعادة بنائها وتشغيل مصانعها) أرسى قواعد حركية كبيرة بين ضفتي المتوسط وديناميات اجتماعية لا يمكن انكارها وإنهائها بمجرد قرار سياسي/ أمني أوروبي. الحديث عن المسؤولية الأوروبية لا يعني إعفاء "المحليين" من مسؤولياتهم، فالأنظمة "الوطنية" التي بددت ثروات طبيعية وإمكانات بشرية هائلة هي "شريك أصلي" في الجريمة.

السبب الرئيسي اذاً اقتصادي: فقر، بطالة، ضعف في الإنتاجية والتشغيل وفي إمكانية تطور الاقتصاد التونسي، إختلال التنمية بين الجهات، وتكدس الفقراء في ضواحي المدن الكبرى وأحيائها الشعبية، استشراء الفساد والمحسوبية، الخ... لكن الأهداف تختلف من مهاجر إلى آخر، وحتى من شريحة عمرية إلى أخرى. هناك فرق كبير بين مَن يهاجر لأن البطالة أرهقته أو لأن دخله غير كاف بالمرة، وبين من يبحث عن تكوين ثروة بطريقة سريعة. حتى الملامح الاقتصادية - الاجتماعية المهاجرين تتغير بإستمرار، فالجيل الأول كان أساساً من الشباب المعدمين ذوي المستوى التعليمي المتدني، لكن دخل فيما بعد أبناء الطبقات الوسطى على الخط، وحتى حاملي الشهادات الجامعية العليا الذين أصبحوا حاضرين بقوة.

يمكن تقسيم الشباب الراغب في الهجرة غير النظامية إلى ثلاث فئات عمرية: 18-24 سنة، 25-29 سنة و30-35 سنة. الفئتان الثانية والثالثة كانتا الأكثر حضوراً في قوارب الحرقة قبل الثورة: شباب تعبوا من الوظائف المرهقة ذات المردود المالي الضعيف أو لم يجدوا عملا يتناسب مع مؤهلاتهم، أو لم يجدوا عملاً أصلاً. يسافرون بهدف تحسين أوضاعهم وأوضاع عائلاتهم ويبحثون عن الاستقرار. الفئة الأولى، أي الأصغر سناً كان حضورها في عمليات الهجرة غير النظامية محدوداً قبل الثورة لكنها أصبحت الآن الأكثر اقداماً على هذه المغامرة. هذا التغير في ترتيب الفئات العمرية يمكن ان يفسر بتأثير انباء حوادث الغرق على الراغبين في الهجرة الأكبر سناً مما يجعلهم يتراجعون عن الحرقة حفاظاً على سلامتهم. الأصغر سناً لا يريدون ان "يضيعوا الوقت" كما فعل اخوتهم الكبار، لذا لا يحاولون أصلاً بناء مستقبلهم في بلدهم ويلجؤون للحل الأسرع و"الأنجع": الهجرة حتى وإن كانت غير نظامية وخطرة. عدد من المراهقين "الحراقة" لا يهاجرون بسبب الفقر بل لخوض مغامرة وإثبات شجاعتهم وقدرتهم على تخطي الصعاب: راجت في السنوات الماضية فيديوهات وصور لشباب يلتقطونها وهم على متن قارب الحرقة وكأنهم في نزهة بحرية! كما أن هذه الفئة العمرية هي الأكثر تأثراً بالصور الرائجة عن الغرب المتطور تكنولوجياً والمليء بالملذات الحسية المتاحة للجميع، وعن المهاجر الذي يعيش حياة الرغد في الخارج.

إذاً أهمية البعد الاقتصادي لا تعني انه العامل الوحيد بل هناك عوامل ثقافية ونفسية مؤثرة أيضاً. هناك أيضاً من يهاجر للهروب من أحكام قضائية أو للالتحاق بقريب أو حبيب.

كيف ينظر المجتمع التونسي للهجرة غير النظامية؟

كلمة "مجتمع" فضفاضة جداً، وسيكون من الأكثر دقة الحديث عن طبقات اجتماعية - اقتصادية. الطبقات المرفهة والفئات العليا من الطبقة الوسطى تنظر إلى الأمر عن بعد وبترفع، خطابها حول "الحراقة" يرتكز على نقطتين أساسيتين: أولاً تجريم الظاهرة وتأثيم هؤلاء الشباب "الكسالى" الذين لا يريدون العمل في بلادهم بل يفضلون التسكع والتورط في عصابات إجرامية في أوروبا، ثانياً الارتياح لتخلص البلاد من الآلاف من "سقط المتاع" والمجرمين المحتملين.

موضوع "الحرقة" يهم أساساً الطبقات الفقيرة والفئات الدنيا من الطبقة الوسطى. عندما ظهرت الهجرة غير النظامية في تونس أواسط العقد الاخير من القرن العشرين، كان أغلب "الحراقة" لا يخبرون أفراد عائلاتهم - خصوصا الأمهات - بنيّتهم اجتياز البحر كي لا يحاولوا ثنيهم عن "مشروعهم". ينتظر الحارق الوصول لسواحل الجزر الإيطالية والانتقال بعدها إلى إحدى المدن في البلاد نفسها أو في دول أوروبية غربية أخرى ليتصل بعائلته ويخبرها بوصوله، أو يوصي أحد أصدقائه بإعلام العائلة بعد انطلاق القارب. في تلك الفترة كانت "الحرقات" أكثر أمناً نظراً لقلة المقبلين عليها ولنوعية المراكب المستعملة وقلة الرقابة. ولكن مع تزايد عدد الراغبين في الحرقة، وتشدد السلطات التونسية والإيطالية، والجشع المتزايد للمنظمين والمهربين، أصبحت الرحلات اقل أمناً. في البداية، كانت العائلات التونسية ترفض لجوء أبنائها إلى مثل هذا "الحل" الخطير والمميت أحياناً. لكن هذا الرفض بدأ يتراجع مع اشتداد أزمة البطالة في بدايات القرن الحادي والعشرين، والتي مست حتى حاملي الشهادات العليا. بدأت العديد من العائلات، خصوصاً الأكثر فقراً، تتفهم رغبة أبنائها في الهجرة غير النظامية. بعد الثورة، والتزايد المهول لعدد الحراقة وتدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد بشكل منذر بالخطر، أصبح التفهم تشجيعاً في كثير من الحالات. العديد من العائلات أيقنت ان لا مستقبل لأبنائها في تونس، وأصبح من العادي ان يتعاون الأقارب لجمع المبلغ اللازم لاجتياز المتوسط. يمكن إعتبار الأمر استثماراً جماعياً: وصول الابن "الحارق" سالماً إلى أوروبا وتمكنه من تسوية وضعيته يمكن أن يغيّر تماماً الوضع المالي والاجتماعي للعائلة.

صحيح ان تونس أصبحت أرض عبور للحراقة الأجانب (خصوصا الأفارقة)، لكن أبناء البلد ما زالوا يمثلون الأغلبية الساحقة من مجموع المهاجرين، وبما نسبته أكثر من 80 بالمئة منهم.

طبعا هذا السيناريو هو الأكثر تفاؤلاً، هناك سيناريوهات أقل "وردية": القبض على الإبن قبل الوصول إلى أوروبا، غرق المركب، موت الإبن وأحياناً فقدان جثته، القبض عليه في أوروبا وترحيله. كل سنة يتم القبض على مئات "الحراقة" وتغرق عدة مراكب في عرض البحر مخلفة مآسٍ لدى العائلات. ولعل أصعب الحالات هي تلك التي لا تجد فيها العائلة حتى جثة ابنها او تعجز عن استقدام رفاته من إيطاليا.

موضوع الهجرة حاضر بقوة في حياة التونسيين، خصوصا لدى فئة الشباب، يتبادلون الآراء و "الخبرات" وحتى الأحلام. الأحياء الشعبية مليئة بالوسطاء الذين يتصيدون الحالمين بتجاوز أسوار القلعة أوروبا. آلاف الراغبين في الهجرة يبحثون عن "خيط حرقة" (معلومات ووسطاء للوصول إلى منظم رحلات) وعادة لا يطول بحثهم كثيراً ويجدون من يرشدهم إلى "طريق الخلاص". صار لدى أغلب التونسيين قصة عن الحرقة، عاشوها بأنفسهم أو عاشها أقارب وأصدقاء لهم. قصص بعضها "طريف" كالحراقة الذين يتعرضون للاحتيال وتبحر مراكبهم عدة ساعات قبل ان تتركهم على سواحل مدينة تونسية، وبعضها تتحدث عن نهايات سعيدة أو أحداث مرعبة. هذه الظاهرة وبحكم ترسخها في المجتمع التونسي أصبحت حاضرة بقوة في البرامج الإعلامية والأعمال الدرامية والأفلام التونسية فضلاً عن الأدب المكتوب والأغاني الشعبية وفنون الشارع كالغرافيتي.

التعامل الرسمي مع الهجرة غير النظامية

الخطاب الرسمي في تونس يجرم هذه الظاهرة ويعتبرها ممارسة خطيرة وجبت محاربتها. تتعامل الدولة مع الهجرة غير النظامية كممارسة ليست لها جذور اقتصادية واجتماعية حتى تتفادى تحمل مسؤوليتها في هذا الصدد. لكن هذا لا يعني ان السلطات تعادي تماماً "الحرقة" و"الحراقة". على المستوى العملي، الهجرة غير النظامية لا تمثل خطراً كبيراً على الدولة وأمنها بل لها عدة "منافع". أغلب "الحراقة" هم شباب في سن العمل، في حين تشهد البلاد أزمة بطالة متفاقمة منذ عدة سنوات، يعني الآلاف الذين يعبرون البحر المتوسط كل سنة يخففون جزئياً من حدة المشكلة. كما ان المحظوظين الذين يصلون إلى أوروبا سيتحولون إلى مهاجرين يرسلون أموالاً بالعملة الصعبة إلى عائلاتهم في تونس، ويساهمون في تخفيف وطأة الفقر على الآلاف وحتى عشرات الآلاف من أقاربهم. الحراقة الذين يحصلون على أوراق إقامة قانونية سينضمون إلى قرابة مليوني تونسي يعيشون في الخارج ويعودون كل صيف لقضاء العطلة في البلاد، مما يخلق حركية اقتصادية كبيرة. هذا دون الحديث عن المهاجرين الفقراء الذين يرجعون إلى البلاد كمستثمرين ويشغلون شباباً عاطلين عن العمل. باختصار الهجرة سواء كانت قانونية او غير نظامية هي إحدى صمامات أمان "السلم الاجتماعي" وقنوات تصريف غضب الطبقات الأقل حظاً، وهذه المعادلة ليست وليدة اليوم بل تعود إلى ستينيات القرن الماضي. كما أن الهجرة غير النظامية تدر أموالاً ضخمة على المتواطئين في مختلف الأجهزة الأمنية المكلفة بالتصدي لها. هذا التواطؤ ليس مجرد تخمينات، فالمنطق يقول انه لا يمكن لعشرات الآلاف ركوب قوارب "الحرقة" من نقاط الانطلاق نفسها تقريباً وعلى مدى عقدين، دون أن يكون هناك تساهل من قبل الأجهزة الأمنية.

فما الذي يدفع الدولة التونسية إلى تبني سياسة أكثر فأكثر تشدداً في تصديها للهجرة غير النظامية؟ الإجابة بديهية: السياسات الهجرية للاتحاد الأوروبي الذي يريد من دول الجنوب التكفل بحل مشاكل صنعتها دول الشمال. بالطبع هناك أسباب أخرى مثل الإحراج الذي تسببه حوادث غرق كارثية وموجات الغضب التي تصاحبها، كما أن هناك علاقات محتملة بين شبكات الهجرة غير النظامية وشبكات الاتجار بالبشر والتهريب وحتى الإرهاب. لكن تبقى الضغوطات / الإملاءات الأوروبية هي السبب الأساسي وراء تبني الدولة التونسية لقوانين وممارسات قامعة للراغبين في الهجرة من أبناء البلد وأفارقة جنوب الصحراء (ترانزيت).

أوروبا تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية ما يحدث حالياً: عقود من استعمارها للدول المغاربية واستنزاف مواردها ودعم النخب المحلية المستبدة والفاسدة بعد الاستقلال، جعل من هذه الدول بلداناً فاشلة وطاردة لأبنائها. لا يعفي ذلك الأنظمة الوطنية من مسؤولياتها فهي بددت ثروات طبيعية وإمكانات بشرية هائلة وهي شريك أصلي في الجريمة.

بدأت الضغوطات منذ أواخر تسعينات القرن الماضي، أي بعد ظهور الهجرة غير النظامية بسنوات قليلة. نظام زين العابدين بن علي الذي سعى دائماً إلى إرضاء الدول الغربية المؤثرة حتى تغض الطرف عن ممارساته الديكتاتورية، كان متعاوناً جداً معها على المستوى الاقتصادي والأمني. ففضلاً عن توقيعه اتفاقيات الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، كان بن علي يسوق نفسه كحليف لأوروبا في مكافحة الإرهاب والتصدي للهجرة غير النظامية. ونظراً لأن الظاهرة جديدة وفريدة نوعاً ما، فإنه لم تكن هناك قوانين تونسية قادرة على التعامل معها بحزم. فالقانون التونسي الذي يضبط مسألة السفر واجتياز الحدود يعود إلى سنة 1975، عندما كانت أوروبا مفتوحة للمهاجرين دون تأشيرات. لذا ضغط الأوروبيون على تونس لسد هذا "الفراغ التشريعي"، وهو ما بدأ فعلا في آب/أغسطس 1998، تاريخ توقيع أول اتفاقية بين تونس وإيطاليا تهدف إلى التنسيق بين الدولتين للتصدي للهجرة غير النظامية، وقبول تونس بإعادة استقبال مواطنيها الذين وصلوا إيطاليا أو يقيمون فيها بطرق غير قانونية. هذه الاتفاقية سيتم تدعيمها بثلاث اتفاقيات إضافية تم توقيع آخرها في نيسان/ إبريل 2011.

بداية من سنة ،2002 انخرطت تونس بشكل فاعل في المنظومة الأمنية المتوسطية ولعبت دوراً بارزاً في جهود "مجموعة 5 زائد 5" للتصدي للهجرة غير النظامية. احتضنت في تشرين الأول/ أكتوبر 2012 مؤتمراً وزارياً حول الهجرة في غرب المتوسط، ثم قمة رئاسية حول الموضوع نفسه في كانون الأول/ ديسمبر 2003. وفي سنة 2004، مرت تونس إلى السرعة القصوى إثر مصادقة برلمانها على قانون عدد 6 لسنة 2004 (مؤرخ في 3 شباط / فبراير 2004) الذي نقح القانون عدد 40 لسنة 1975 (المؤرخ في 14 أيار/ مايو 1975) المتعلق بجوزات ووثائق السفر. ولا يتعلق الأمر فعلياً بهذه الاخيرة بل بالهجرة غير النظامية على الرغم من عدم استعمال المشرّع ألفاظاً مثل "هجرة" أو "مهاجرين"، واستبدالها بعبارة "دخول التراب التونسي ومغادرته". هذا القانون هو من دون مبالغة من أكثر القوانين تشدداً في العالم في مسألة الهجرة غير النظامية. فهو ينص في الجزء الممتد من الفصل 38 إلى الفصل 53 على عقوبات سالبة للحرية وغرامات مالية (تتراوح بين 3 سنوات و20 سنة سجناً و8 آلاف ومئة ألف دينار) لكل المتدخلين في مختلف مراحل الهجرة غير النظامية (تدبير وتنظيم، وساطة، قيادة، توفير معدات، إيواء، الخ)، ولا يستثني حتى الذين يقدمون العون مجاناً أو يتضامنون مع المهاجرين الذين يعيشون ظروفاً صعبة. بل هو يعاقب حتى الذين لا يلعبون دور الوشاة (الفصل 45): "يعاقب بالسجن مدة ثلاثة أشهر وبخطية قدرها خمسمئة دينار كل من يمتنع عمداً ولو كان خاضعاً للسرّ المهني عن إشعار السلطات ذات النظر فوراً بما بلغ إليه من معلومات أو إرشادات وبما أمكن له الاطلاع عليه من أفعال حول ارتكاب الجرائم المنصوص عليها بهذا الباب". صحيح أن أغلب العقوبات تستهدف "المنظمين" و"المهربين"، إلا انها قبل كل شيء غلق للباب الأخير الذي تبقّى أمام الراغبين في الهجرة والذين من شبه المستحيل أن يتحصلوا يوما على تأشيرة سفر إلى أوروبا. استطاع نظام بن علي السيطرة تقريباً على تدفق المهاجرين وحصل في المقابل على مكاسب سياسية ومادية من الأوروبيين.

الهجرة، سواء كانت قانونية أو غير نظامية، هي إحدى صمامات أمان "السلم الاجتماعي" ومن قنوات تصريف غضب الطبقات الأقل حظاً. وهذه المعادلة ليست وليدة اليوم بل تعود إلى ستينيات القرن الماضي.

بعد الثورة التونسية واندلاع الحرب في ليبيا، اختلطت كل الأوراق وبدأت مرحلة جديدة في ظاهرة "الحرقة" فالفوضى السياسية والفراغ الأمني في هذين البلدين مثلتا فرصة ذهبية لمئات آلاف الأفارقة من شمال وجنوب الصحراء لكي يجتازوا المتوسط، مما خلق حالة من الهلع في الضفة الشمالية وجعل المسؤولين الأوروبيين يتقاطرون على تونس لدفعها الى "تحمل مسؤوليتها" والمساهمة في تقليص حجم وسرعة تدفق المهاجرين. الدول الأوروبية المعنية أساساً هي إيطاليا (دولة عبور وإقامة) وفرنسا وألمانيا (دول إقامة). يغلف الأوروبيون طلباتهم بأغلفة من نوع "التنسيق الأمني" و"مساعدات تنموية" و"معونات لوجستية لتطوير قدرات الأمن التونسي" و"مكافحة الإتجار بالبشر". كما انهم يقدمون وعوداً بدعم الاقتصاد التونسي وتشجيع الشباب وتسهيل حصول التونسيين على تأشيرات لدخول فضاء شنغن... وعود لا يصدِّقها أحد.

الهجرة غير النظامية وسبل التصدي لها هي مواضيع يندر أن تغيب عن أي اجتماع بين مسؤولين أوروبيين وتونسيين، حتى وان لم تكن لموضوع اللقاء الأصلي علاقة مباشرة بالأمر. ضعف الحكومات التونسية المتعاقبة وبحثها عن الدعم الخارجي بأي ثمن يجعل الأوروبيين يتجرؤون أكثر فأكثر على فرض شروطهم وعلى اقتراح إجراءات و"حلول" للهجرة غير النظامية لا تحترم السيادة الوطنية: فتح مكاتب في تونس لبحث ملفات الأفارقة طالبي اللجوء إلى أوروبا، إقامة مخيمات لإعادة استقبال المهاجرين الأفارقة غير النظاميين الذين وصلوا إلى أوروبا، إحداث "نقاط ساخنة" لتسجيل بيانات المهاجرين غير النظاميين الذين توقفهم السلطات التونسية، الخ..

تتسارع خطى "الشراكة" بين الاتحاد الأوروبي ودول المغرب العربي لتسهيل تنقل السلع بين الضفتين. لكن وبالنسبة للبشر، فوحدهم "الشماليون" بإمكانهم السفر إلى "الجنوب" متى شاءوا.

لا يبدو أن الضغوط الأوروبية ستخف قريباً، خصوصاً وأن القارة العجوز تشهد صعوداً متسارعاً للقوى الشعبوية الانعزالية والمعادية للهجرة والأجانب. كما لا يمكن التفاؤل باستمرار "المقاومة" النسبية للدولة التونسية، فهامش المناورة ما انفك يضيق: الاقتصاد التونسي المتأزم هو بشكل ما تحت رحمة "الجهات المانحة" والمؤسسات المالية الدولية والمستثمرين الأجانب. ما لا تحصل عليه أوروبا بالترغيب يمكن أن تحققه بالتهديد والابتزاز: إدراج تونس على قوائم سوداء، تعطيل الموافقة على القروض وصرف أقساطها، وقف دعم الاستثمار والسياحة، وضع عراقيل أمام وصول السلع التونسية إلى الأسواق الأوروبية، إثارة ملفات الإرهابيين التونسيين وشبكات تسفير الجهاديين، الخ... مفاوضات "اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق" التي بدأت منذ سنتين بين تونس والاتحاد الأوروبي تكشف مدى اختلال التوازن بين "الشريكين": لم تطالب تونس بإعفاء كل التونسيين من التأشيرة ولا بتسهيل حصولهم على فرص عمل في أوروبا، بل استعطفت المفاوض الأوروبي أن يستثني رجال الأعمال التونسيين من التأشيرة. طبعاً لم يقبل المفاوض الأوروبي لكنه وعد بتخفيف شروط منح التأشيرة لهؤلاء.

ختاماً

منذ قرابة ربع قرن، بدأت قوارب "الحرقة" تغادر البلاد ليلاً متسللة باتجاه "أرض الخلاص". تطورت أشكال الحرقة وتكلفتها كما تغيرت ملامح الحرّاقة والمهربين والمنظِّمين، لكن هناك أشياء ثابتة: الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية في تونس أكثر فأكثر صعوبة، الحدود الأوروبية أكثر فأكثر قسوة، والترسانة القانونية التونسية أكثر فأكثر تشدداً. العديد من الدراسات واستطلاعات الرأي تؤكد ان أكثر من نصف الشباب التونسي يرغب في الهجرة، وأن ما بين 30 و40 في المئة من الراغبين في الهجرة مستعدون لركوب "قوارب الموت". تتسارع خطى "الشراكة" بين الاتحاد الأوروبي، ودول المغرب العربي لتسهيل تنقل السلع بين الضفتين، لكن وبالنسبة للبشر، فوحدهم "الشماليون" بإمكانهم السفر إلى "الجنوب" متى شاءوا. وكما هو الأمر بالنسبة للتهريب والاقتصاد الموازي، فلا يمكن للحل الأمني ولثقافة التجريم والوصم وكل "الحلول" العدوانية، أن تقضي على معضلة "الحرقة". ما لم يتم التركيز أكثر على الظروف الاقتصادية للشباب ومنحهم الأمل في العيش بكرامة في بلدانهم، والحق في استكشاف العالم، سيبقى "البابور" حبيب الملايين ووسيلة نقلهم الوحيدة إلى غد أفضل مأمول..

محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه