تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
"إفريقية"، وهو الاسم القديم لشمال تونس وجزء من الجزائر، ومنه أخذت القارة السمراء اسمها. علاقات تاريخية تربط تونس - شمال افريقيا بالدول والجماعات التي تستوطن جنوب الصحراء الكبرى. علاقات يشتبك فيها الاقتصادي (القوافل التجارية والعبودية) بالديني (الدعوة الإسلامية والطرق الصوفية) والتاريخي (الاستعمار الأوروبي). على الرغم من أن جلّ الأفارقة يعانون من المشاكل نفسها الى حد بعيد (آثار الاستعمار، الفساد، الإفقار والبطالة، وقمع الحريات) وعلى الرغم من التضامن الذي كان بين حركات التحرر الوطني الافريقية، وعلى الرغم من نزيف الهجرة الذي تعيشه كل بلدان القارة، فما زال التونسيون عموماً يعانون من عقد تفوق تجاه مواطني جنوب الصحراء. بل ان الكثيرين لديهم صورا ايكزوتيكية تنضح كليشيهات: هم (يُسمَّون في تونس "لي زافريكان" كما هو التعبير بالفرنسية) يمارسون السحر الأسود ويرقصون كثيراً ويحبون الحروب الأهلية ولديهم أمراض وبائية ومجاعات.
بدأت العلاقات تشهد تغيرات منذ بداية القرن الحادي والعشرين، مع التزايد السريع في تونس لأعداد مهاجرين من دول "إفريقيا جنوب الصحراء". الكثيرين منهم يأتون للدراسة والبحث عن عمل، وآخرون يعتبرون تونس بلد عبور في موسم الهجرة إلى شمال المتوسط. تساهم عدة عوامل في تطور هذه الحركة، منها ما يتعلق بتونس ومنها المرتبط بالأوضاع الاقتصادية - الأمنية في غرب افريقيا وبسياسات "القلعة أوروبا". حسب الأرقام الرسمية (التعداد العام للسكان والسكنى 2014) فإن عدد الأفارقة (دون احتساب البلدان المغاربية والعربية) في تونس يبلغ 7524 شخصاً: مواطنو نيجيريا وساحل العاج والكاميرون ومالي والسنغال يحتلون المراتب الخمس الأولى. ولكن هذا الرقم غير دقيق البتة، لأنه لا يأخذ في الاعتبار الا الذين يحملون بطاقة إقامة قانونية صادرة عن وزارة الداخلية، ويغفل الآلاف الذين يقيمون في تونس بطريقة غير قانونية نظراً لصعوبة تسوية اوضاعهم.
- I –
تونس دولة استقبال أو "الحل الوسط"
على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة في تونس وتفاقم البطالة، إلا ان الأوضاع فيها تبقى أفضل بكثير من عدة بلدان افريقية أخرى، خصوصاً حيث توجد نزاعات وحروب أهلية مدمرة للبشر والحجر. التطور النسبي للبنى التحتية في تونس، والنسيج الاقتصادي ومؤسسات التعليم تجعل العديد من الأفارقة يختارونها كوجهة للدراسة والعمل، خصوصاً مع سياسة الانغلاق التي يمضي فيها الاتحاد الأوروبي.
• هجرة الطلبة: مرحباً ولكن..
بدأت تونس بفتح أبواب جامعاتها أمام الطلبة الأجانب منذ 1968. وإلى حدود أواسط التسعينيات من القرن الماضي، كان عدد هؤلاء الطلبة يبلغ بضع مئات يأتون من المغرب العربي، وبدرجة أقل من المشرق ودول افريقيا جنوب الصحراء، وكان أغلبهم يتمتع بمنح مقدمة من حكومات بلدانهم أو من الدولة التونسية في إطار اتفاقيات التعاون الثنائي. منذ أواخر التسعينيات وبداية الألفية الثالثة بدأت تتغير ملامح الوجود الطلابي الأجنبي في تونس. فمع ظهور الجامعات الخاصة تزايد عدد الطلبة الأجانب في تونس واصبحوا بالآلاف، والأغلبية الساحقة تأتي من دول إفريقيا جنوب الصحراء.
ينحدر أغلب الطلبة القادمين إلى تونس من بلدان الساحل وغرب افريقيا عموماً، أولا بحكم قرب هذه المنطقة من المغرب العربي وثانياً لكون مواطنو أغلب هذه الدول معفيين من تأشيرة الدخول لتونس، وبإمكانهم البقاء فيها لمدة تساوي 90 يوماً دون الحاجة إلى أوراق إقامة. وحتى الذين يأتون من دول ليست لديها اتفاقيات ثنائية مع تونس، يستطيعون الحصول على تأشيرة بسهولة بمجرد استظهارهم ما يثبت تسجيلهم بجامعة تونسية. كما ان توفير الجامعات الخاصة لبرامج تعليمية تدرس بالفرنسية كان أساساً يجذب العديد من الطلبة الأفارقة الفرنكوفونيين. بعض الجامعات تدرس بالإنجليزية لاستقطاب طلبة الدول الأفريقية الأنغلوفونية.
وهناك عدة عوامل جذب أخرى:
- الاستقرار الأمني (خصوصاً قبل الثورة في 2011)، والتطور النسبي للبنى التحتية في العاصمة تونس والمدن الكبرى كصفاقس وسوسة التي تتركز فيها الجامعات الخاصة.
- تنوع الاختصاصات بشكل كبير، مما يمنح الطالب هامش حرية كبير في الاختيار.
- تطور التعليم العالي في تونس والاعتراف الدولي بالشهادات الجامعية التونسية.
- مرونة معايير الدخول للجامعات التونسية مقارنة بالدول الأوروبية.
- انخفاض تكاليف الحياة في تونس مقارنة بالدول الأوروبية.
بلغ عدد الطلبة القادمين من دول جنوب الصحراء قرابة 12 ألفاً سنة 2010، وترغب الجامعات التونسية في استقطاب المزيد، والكثير من هذه المؤسسات ترسل وفوداً إلى دول افريقية للترويج لبرامجها وشهاداتها. اغلب الطلبة من الذكور لكن عدد الاناث في تزايد ملحوظ. تتنوع الاختصاصات والشهادات (ليسانس، ماجستير)، ولكن هناك تركيز على قطاعات الالكترونيك والإعلام والاقتصاد والإدارة والهندسة المدنية.
وحتى على المستوى الرسمي، فهناك رغبة في زيادة أعداد الطلبة الأفارقة المسجلين في الجامعات التونسية. فمنذ أشهر صرح وزير الخارجية التونسي بأن البلاد تطمح لاستقبال 20 ألف طالب بحلول 2020. هذه الرغبة تبدو غير واقعية، فعدد هؤلاء الطلبة في تناقص مستمر منذ خمس سنوات (6000 طالب سنة 2017 حسب أرقام جمعية الطلبة) وذلك لعدة أسباب: كان للاضطرابات الأمنية والسياسية التي رافقت وتلت سقوط نظام بن علي دورا كبيرا في هذا التراجع، كما ان المنافسة من طرف جامعات المغرب الأقصى أصبحت أشد، حيث الأوضاع هناك أكثر استقراراً والحصول على أوراق الإقامة أسهل. لكن الأسباب الرئيسية تبقى السياسة الهجرية للدولة التونسية وكذلك العنصرية.
تتعدد الممارسات العنصرية تجاه هؤلاء الطلبة. عادة، كانت تقتصر على الإساءة اللفظية والسخرية، لكنها في السنوات الأخيرة تطورت بشكل مخيف، سواء من حيث العدد أو النوع، فأصبحت عنصرية عنيفة تبدأ بإلقاء الحجارة والبيض وتصل الى حد استعمال الأسلحة البيضاء ومحاولة القتل كما حدث مع طلبة كونغوليين، أو محاولات التحرش الجنسي والاغتصاب.
وتكون الاعتداءات لسبب او بدونه، بل ان انهزام المنتخب الوطني أمام فريق من افريقيا جنوب الصحراء يمكن أن يفجّر موجة من الاعتداءات العنصرية تجاه الطلبة وبقية المهاجرين الأفارقة، مثلما حدث يوم 31 كانون الثاني/ يناير 2015 إثر خسارة تونس أمام غينيا الاستوائية وانسحابها من كأس أمم افريقيا.
يوجد طلبة من دول جنوب الصحراء بعدما نشأت جامعات خاصة: 12 ألفاً في 2010. على المستوى الرسمي، هناك رغبة في زيادة أعداد الطلبة الأفارقة المسجلين في الجامعات التونسية إلى 20 ألفاً بحلول 2020. لكن دون ذلك عقبات تتعلق بالعنصرية المتعاظمة، وبالإجراءات الادارية متزايدة التعقيد، وبحال عدم استقرار تونس نفسها.
بدأ الطلبة الأفارقة بالتحرك ضد الممارسات العنصرية بعد الثورة. فمن جهة هناك مناخ حريات يسمح بالتعبير والتنظيم والتحرك، ومن جهة أخرى تواترت الاعتداءات. كما ان جزءاً من التونسيين السود ومن مناصري حقوق الأقليات بدأوا حملاتهم لإثارة موضوع التمييز العنصري الذي كان إلى سنوات قليلة موضوعاً محرماً لا يتم تناوله في وسائل الإعلام. نظمت "جمعية الطلبة والمتدربين الأفارقة" بمعية منظمات تونسية عدة مظاهرات وتحركات، آخرها وقفة احتجاجية في آذار/ مارس 2018 ومسيرة في 13 أيار/ مايو 2018.
وإن لم يتعرض الطالب لممارسات عنصرية، أو هو استطاع "التأقلم" معها، فسيجد نفسه أمام صعوبات أخرى قد تجعل اقامته في تونس صعبة.. ومغادرتها أصعب! تبدأ المصاعب بعد الوصول إلى تونس، فللحصول على بطاقة إقامة يتوجب على الطالب تقديم ملف يحتوي شهادة تسجيل في الجامعة وأخرى تثبت حضوره ومواظبته على الدروس، بالإضافة إلى عقد إيجار مسكن وشهادة في الوضع المالي. حتى وإن استطاع الطالب تجميع الملف في الوقت المناسب، فيمكن أن يبقى لمدة أشهر طويلة بدون بطاقة إقامة، ويمكن ان يتحصل عليها قبل أسابيع قليلة من نهاية السنة الدراسية، علماً أنها صالحة لمدة سنة فقط، ويتوجب تجديدها مع بداية كل موسم جامعي.
تجديد البطاقة مكلف (150 دينار عند تقديم الطلب قبل نهاية الصلاحية والضعف بعدها)، ومرهق بالنسبة للطلبة الأجانب، وهم يطالبون بتمديد صلاحيتها من سنة إلى سنتين توفيراً للوقت والمصاريف. كل أسبوع إقامة غير قانونية يقضيه الطالب في تونس يجب ان يدفع عنه غرامة قدرها 20 ديناراً قبل مغادرته البلد وإلا يتم إيقافه في المطار. الارتفاع المتزايد لنفقات الدراسة وتراكم غرامات الإقامة غير القانونية والمشاكل التي قد تعترض الطلبة، مثل الاضطرابات في بلدانهم الاصلية وانقطاع منحهم أو حوالات أهاليهم تجعل عدداً منهم يلجأ للعمل في الاقتصاد الموازي.
• هجرة العمل: فقراء يزاحمون فقراء؟
الحديث عن هجرة عمال وكوادر إلى تونس قد يبدو أمراً مضحكا وحتى سريالياً بالنسبة لأغلب التونسيين. فالبلاد تعيش أزمة بطالة مزمنة ومتفاقمة، والآلاف من شبابها ذكوراً وإناثاً (وحتى كهولها!)، يتمترسون أمام السفارات الأوروبية والخليجية طلبا للتأشيرات، أو يركبون "قوارب الموت" باتجاه الضفة الأخرى من المتوسط. حسب الأرقام الرسمية ("وزارة التكوين المهني والتشغيل") لسنة 2015 فإن عدد الأجانب الذين يعملون في تونس بشكل قانوني يقدر بحوالي 8000 شخص، أغلبهم أوروبيون (فرنسيون وايطاليون) ومغاربيون وعرب، في حين لا يتجاوز عدد الأفارقة 2000 عامل أغلبهم من السنغال والكاميرون.
لا يمكن تحديد الحجم الحقيقي للعمالة الافريقية في تونس. هناك كثيرون يعيشون في تونس، لفترة قصيرة أو طويلة، بلا أوراق إقامة ويعملون في قطاعات الاقتصاد الموازي. هناك أيضاً من يحمل أوراق إقامة قانونية لكن لا تمنحهم الحق في العمل رسمياً، كالطلبة مثلاً، ويلتجؤون للاقتصاد الموازي كي يحسنوا ظروف عيشهم.
تتشابه تفاصيل الاحتيال على النساء المستقدَمات، مما يرجِّح وجود شبكات محلية/ دولية. في البداية يُعرض عليهن العمل برواتب لائقة في تونس. وبمجرد وصولهن، يُقدْنَ إلى بيوت الاثرياء حيث سيعملن في الخدمة المنزلية، وتحجز جوازات سفرهن لضمان عدم هروبهن ولإجبارهن على العمل بدون مقابل، لأن الوسيط تسلم رواتب الأشهر الستة الأولى مسبقاً دون علمهن.
هناك عدد محدود من الأفارقة الذين يتمكنون من الحصول على عقود عمل قانونية في مصانع ومؤسسات تونسية ويتمتعون بالحقوق التي يضمنها قانون الشغل التونسي وببطاقة إقامة قانونية. يندر أن نجد مستثمرين أفارقة في تونس، أو أصحاب محلات تجارية وورشات. أما الاغلبية فتعمل في قطاعات الاقتصاد الموازي. يشتغل الرجال في حظائر البناء والمستغلات الفلاحية والمصانع وورشات الحرف، أما النساء فتعملن كخادمات في بيوت الأثرياء وعاملات نظافة في الشركات والمحلات التجارية أو كمساعِدات في صالونات التجميل والمطاعم.
قوانين الشغل والإقامة في تونس حمائية جداً وتفرض عدة شروط على المهاجر الراغب في العمل. الأمور تصبح أصعب بالنسبة للمهاجرين الأفقر والأقل مؤهلات وتكويناً، وهم أساساً من دول إفريقيا جنوب الصحراء. علاوة على ضرورة الحصول على عقد عمل مكتوب ومصادق عليه من طرف وزارة التشغيل والتكوين المهني، إلا أن المهاجر لا يستطيع البحث عن عرض آخر خلال فترة عقده مع مشغله الأول ولا العمل خارج المحافظة التي يقع فيها عنوان المؤسسة المضمّن في العقد. صحيح ان الإدارات الرسمية كثيراً ما تتغاضى عن بعض "الخروقات" أو تمنح استثناءات لأصيلي بعض الدول (أساسا فرنساً والمغرب العربي) لكن لديها عدة نصوص قانونية تمكّنها من غلق سوق الشغل أمام الأجانب أو اعتماد سياسة انتقائية.
عدد محدود من الأفارقة يتمكنون من الحصول على عقود عمل قانونية في مصانع ومؤسسات تونسية ويتمتعون بالحقوق التي يضمنها قانون الشغل التونسي وببطاقة إقامة قانونية. ويندر أن نجد مستثمرين أفارقة في تونس، أو أصحاب محلات تجارية وورشات. أما الاغلبية فتعمل في قطاعات الاقتصاد الموازي.
تختلف مواقف الجهات الفاعلة في تونس من مسألة الهجرة الاقتصادية. المنظمات الحقوقية تدافع عنها انطلاقاً من مبدأ حرية التنقل والعمل. السلطات تتوجس منها ولا ترغب أبداً بتشجيعها تجنباً للمشاكل المحتملة. مواقف النقابات متعارضة: أرباب العمل يرحبون بهذه الهجرة ويدعون إلى التعامل معها بمرونة، في حين تتوجس النقابات العمالية منها لأن العمال الأجانب يقبلون بأجور أدنى من المحليين ويصبرون على ظروف العمل القاسية.
التشدد في القوانين التونسية المنظمة للهجرة وعمل الأجانب ما انفك يتعاظم خصوصا بالنسبة للوافدين غير الأوروبيين والمغاربيين، وهذا أمر له نتائج وخيمة في الكثير من الأحيان. هناك مهاجرون أفارقة تغلق أمامهم كل أبواب العمل اللائق وإمكانية الحصول على بطاقة إقامة في تونس وفي الوقت نفسه لا يستطيعون أو لا يريدون العودة إلى بلدانهم الأصلية. في هذه الحالة هناك من يفكر في الهجرة غير النظامية إلى أوروبا مخاطرا بحياته أو يقع ضحية لشبكات الاتجار بالبشر.
كشفت وسائل إعلام محلية وأخرى أجنبية عن عدة حالات من استغلال العاملات الافريقيات في تونس إلى درجة تصل حد الإتجار بالبشر والاستعباد.
أغلبية النساء المعرّضات لهذا النوع من الممارسات هن من ساحل العاج ثم السنغاليات. تتشابه تفاصيل الحالات، مما يرجح فرضية وجود شبكات محلية ودولية منسّقة. في البداية يقوم وسيط إفريقي باستدراج هؤلاء النسوة في بلدانهن (كثير منهن يحملن شهادات عليا)، ويعرض عليهن العمل برواتب لائقة في تونس فيقبلن، إما بسبب الظروف المادية أو الأمنية. بمجرد وصولهن إلى مطار قرطاج، يتم نقلهن إلى فيلات العائلات الثرية حيث سيعملن كمساعدات منزليات أو مربيات أطفال. يبادر صاحب العمل الى حجز جواز السفر لضمان عدم هروب العاملات ولإجبارهن على العمل لأشهر بدون مقابل، لأن الوسيط تسلم رواتب الأشهر الستة الأولى مسبقاً دون ان يخبر المعنية بالأمر.
سيتوقف بالطبع رقم هاتف الوسيط عن العمل ولن تجد الضحية أي سند. تُعامل النساء معاملة غير إنسانية ويمنعن من الخروج لمدة طويلة، وعندما تنتهي فترة "السخرة" يعرض عليهن الاستمرار في العمل بمرتب شهري متدني. تواصل أغلب الضحايا العمل لعدة أسباب: الحاجة إلى المال، عدم القدرة على الحصول على أوراق إقامة قانونية، العجز عن دفع غرامات الإقامة بطريقة غير قانونية لمدة أشهر، الجهل بحقوق العمال، وعدم الثقة بالسلطات الرسمية، الخوف من التوجه لأجهزة الشرطة التي من الممكن أن تحتجزهن لأسباب واهية.
- II -
الطريق إلى روما يمر عبر قرطاج: تونس دولة ترانزيت
تونس تلعب كل الأدوار الهجرية تقريباً: دولة مصدرة للمهاجرين ووجهة لبعضهم، وهي أيضاً منذ عقدين دولة عبور/ ترانزيت لآلاف المهاجرين الأفارقة القادمين من جنوب الصحراء، الساعين لاجتياز البحر المتوسط باتجاه "الفردوس الأوروبي". الظاهرة التي بدأت في أواخر القرن العشرين تطورت تدريجياً مع بداية الألفية الثالثة وتعاظم حجمها مع اتساع تأثيرات زلزال "الربيع العربي" وتصلب سياسات الهجرة الأوروبية.
• لماذا يختارون تونس؟
لا بد في البداية من توضيح أمر مهم: في أغلب الأحيان، لا يكون للمهاجرين الأفارقة "خارطة طريق" واضحة ونهائية. جزء كبير منهم يخرج من قراه ومدنه في غرب إفريقيا، وهدفه الأول عبور الصحراء. وبعد ذلك الدخول إلى بلد مغاربي.. ومن بعد ذلك يقرر حسب الظروف والصدف. الرحلة قد تدوم أشهر وأحيانا سنوات ويتغير الطريق خلالها عدة مرات. لذا من الممكن ان يختار المهاجر تونس لأنه التقى بوسيط تونسي في ليبيا أو الجزائر، أو حتى اضطراراً كما حدث عندما اندلعت الحرب في ليبيا سنة 2011. بالطبع ليس الأمر دائما صدفة، بل هناك عدة عوامل جعلت من تونس دولة ترانزيت في حركة الهجرة من افريقيا إلى أوروبا.
- سهولة الدخول إلى تونس: هناك قرابة المئة دولة يتمتع مواطنوها بالإعفاء من تأشيرة الدخول إلى تونس ويسمح لهم بالإقامة لمدة تساوي أو تقل عن ثلاثة أشهر. أكثر من عشرين دولة افريقية (باعتبار الدول المغاربية) توجد في هذه القائمة: ساحل العاج، السنغال، غامبيا، الغابون، مالي، النيجر، جزر القمر، الرأس الأخضر، السيشيل، غينيا الاستوائية، غينيا بيساو، ناميبيا، جنوب افريقيا، غينيا، افريقيا الوسطى. يعني بإمكان الراغب في الهجرة إلى أوروبا أن ينتقل إلى المرحلة قبل الأخيرة (تونس) في غضون ساعات مما يُمكّنه من ربح الوقت والابتعاد عن مخاطر الطرق الصحراوية البرية.
- تعدد الموانئ الصغيرة: امتداد السواحل التونسية وقربها من السواحل الأوروبية، وتحديداً الجزر الإيطالية. فجزيرة "لامبادوزا" مثلاً تبعد أقل من 150 ميلاً عن سواحل الجنوب والوسط الشرقيين (مدْنين، صفاقس، المهدية والمنستير) في حين تبعد جزيرة "بانتالاريا" قرابة 50 ميلاً عن السواحل الشمالية الشرقية لتونس (محافظة نابل). هذا القرب يعني وصولاً أسرع ومخاطر أقل، خصوصاً أن وسائل النقل المستعملة عادة ما تكون غير آمنة وليست مخصصة للمسافات الطويلة.
- تصلب سياسات الهجرة للاتحاد الأوروبي، وعقده لعدة إتفاقيات/ صفقات مع أنظمة مغاربية لتلزيمها بمراقبة الحدود والتصدي لتدفق المهاجرين الأفارقة. مع بدايات الألفية الثالثة، بدأت أوروبا و"حلفاؤها" المتوسطيين بغلق الطرق البحرية التي كان يلجأ اليها المهربون والمهاجرون غير النظاميين: طريق مضيق جبل طارق بين المغرب وإسبانيا، الطريق الأطلسية التي تربط غرب افريقيا بجزر الكناري، الطريق الليبية - الإيطالية.. بحث أصحاب المراكب عن حلول أخرى، ومنها الطريق التونسية - الإيطالية التي كانت إلى حدود أواخر تسعينيات القرن الماضي مقتصرة على "الحراقة" التونسيين و بعض المغاربيين.
-تطور عدد الأفارقة المقيمين في تونس منذ سنة 2003 بحكم انتقال المقر المركزي لـ"البنك الافريقي للتنمية" مؤقتا من أبيدجان إلى تونس (اثر تفجر الأوضاع في ساحل العاج سنة 2002) وكذلك تدفق آلاف الطلبة على الجامعات التونسية الخاصة. يعني هناك نوعاً ما "بيئة حاضنة" للمهاجر الذي يكون في وضعية ترانزيت.
في أغلب الأحيان، لا يكون للمهاجرين الأفارقة "خارطة طريق" واضحة ونهائية. جزء كبير منهم يخرج من قراه ومدنه في غرب افريقيا، وهدفه الأول عبور الصحراء وبعد ذلك الدخول إلى بلد مغاربي. ثم يقرر حسب الظروف والصدف. الرحلة قد تدوم أشهراً وأحيانا سنوات، ويتغير الطريق خلالها عدة مرات.
كل عوامل الجذب هذه لا تعني ان تونس وجهة ذهبية: 1- تكلفة "الحرقة" في تونس هي الأعلى في المنطقة المغاربية (ما بين ألف أو ألفي دولار حسب الفصل وعدد المهاجرين وحالة المركب) خصوصا اذا ما قارناها بالتعرفة الليبية (أقل من ألف دولار في أغلب الأحيان). 2- تونس تعيش أزمة اقتصادية خانقة تتسبب بغلاء أسعار المواد الاستهلاكية والخدمات وإيجار المنازل. 3- ظهور تنظيمات إرهابية في تونس وتفجر الأوضاع الأمنية في ليبيا ومناطق الساحل وجنوب الصحراء يجعل الأجهزة الأمنية في حالة استنفار دائم، سواء في المناطق الحدودية أو في المدن (مداهمات وتثبت من أوراق الهوية والإقامة). 4- وبالطبع لا يمكن أن ننسى الضغوط الأوروبية على تونس في مجال التصدي للهجرة والتي تترجم تشدداً في القوانين المحلية وتحفزاً أكثر للأجهزة الأمنية.
• كيف يأتون ومن أين؟
يأتون أساساً من دول الساحل وغرب افريقيا. اغلبهم يصل مباشرة إلى تونس جواً. عدد أقل يصل عبر المعابر البرية، وخصوصاً عبر الحدود التونسية - الليبية (معبر راس جدير، محافظة مدْنين جنوب شرق البلاد..) وفي حالات نادرة عبر الحدود التونسية - الجزائرية (غرب البلاد).
على الرغم من تهويل الاتحاد الأوروبي، وإيطاليا خصوصاً، لعدد المهاجرين غير النظاميين الذين يصلون اليها انطلاقاً من السواحل التونسية، فإن الرقم يبقى محدوداً إذا ما استثنينا سنة 2011 التي شهدت وصول أكثر من 25 الف تونسي "حارِق" إلى أوروبا والآلاف من الأجانب. العدد التقريبي كل سنة لا يتجاوز بضعة آلاف (ما بين أربعة وثمانية آلاف) أي بحدود 5 في المئة من مجمل المهاجرين الذين يصلون إلى إيطاليا. تبقى ليبيا هي الطريق الرئيسي وينطلق منه حوالي 90 في المئة من المهاجرين. بل أن هناك تونسيون يركبون البحر انطلاقا من ليبيا (كما أن هناك مواطني دول عبور أخرى كليبيا والمغرب ينطلقون من تونس) مستغلين، مثل بقية الأفارقة، الفوضى الأمنية وأفضلية الأسعار.
المأوى الاخير: حين يموت المهاجر
02-10-2017
سنة 2017 مثلاً حاول قرابة 10 آلاف شخص ركوب البحر باتجاه إيطاليا، وصل منهم 6151 فرد الى السواحل الأوروبية في حين تم إيقاف 3178 من قبل الأجهزة الأمنية التونسية. لا تتوفر معلومات حول عدد الأفارقة من غير التوانسة، وجنسياتهم، الذين وصلوا إلى إيطاليا انطلاقا من تونس، ولكن حسب أرقام وزارة الداخلية التونسية التي أوردها تقرير "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، فإنه من جملة 3178 موقوفاً هناك 271 أجنبي أغلبهم (78 في المئة) أفارقة من جنوب الصحراء، وخصوصاً من نيجيريا (72 مهاجراً) وساحل العاج ( 50 مهاجرا). كما تؤكد أرقام "المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية" محدودية ظاهرة الترانزيت عبر تونس: نسبة الأجانب من بين المهاجرين الذين انطلقوا من تونس لم تتجاوز 9 في المئة سنة 2016 و12 في المئة سنة 2017. بالطبع لا يتم التفطن لكل المهاجرين من قبل الأجهزة الأمنية الإيطالية لكن عددهم لا يتجاوز المئات أو بضعة آلاف.
على الرغم من تهويل الاتحاد الأوروبي، وإيطاليا خصوصاً، لعدد المهاجرين غير النظاميين الذين يصلون اليها انطلاقاً من السواحل التونسية، فإن الرقم - باستثناء 2011 - يبقى محدوداً لا يتجاوز بضعة آلاف كل عام (ما بين أربعة وثمانية آلاف) أي في حدود 5 في المئة من مجمل المهاجرين الذين يصلون إلى إيطاليا.
الدراسات والتقارير التي تتناول الظاهرة تمكننا من رسم "بورتريه" تقريبي لملامح المهاجر الافريقي الذي يعبر تونس باتجاه إيطاليا: في أغلب الأحيان يكون ذكراً أعزباً (مع تزايد كبير لعدد النساء خصوصاً من ساحل العاج)، من إحدى دول غرب افريقيا، ويتراوح سنه ما بين 20 و40 سنة.
• ماذا يفعلون في انتظار "اليوم الموعود"؟
قلة عدد المهاجرين عموماً في تونس وخصوصاً الأفارقة منهم، لا يسمح بتكوين نمط واضح لطرقهم في تدبير أمورهم خلال اقامتهم في البلاد. هناك من يأتي إلى تونس وهو قد اتصل فعلا مع وسيط رتّب له الأمور مع مهرب، أي أن اقامته في البلاد لن تدوم أكثر من أيام أو أسابيع قبل أن يركب أحد القوارب. في مثل هذه الحالة، وفي كثير من الأحيان يتم إخفاء المهاجرين في مسكن أو مكان قريب من الشاطئ الذي سيخرج منه القارب، مع منعهم من الاتصال بالعالم الخارجي.
هناك من يأتون إلى تونس دون أن يكون لهم من يتصلون به، لكنهم يعلمون أنه لن يكون من الصعب العثور على "خيط حرقة" (تخطيط لرحلة هجرة غير نظامية). واثناء بحثهم عن هذا "الخيط" يقيمون لدى أقارب واصدقاء لهم من الطلبة والعمال الأفارقة. يتجه الراغبون في الهجرة إلى العاصمة حيث يوجد العدد الأكبر من الأفارقة، أو يتجهون مباشرة إلى المدن الساحلية التي تُعرف بأنها قواعد للحراقة والمهربين (صفاقس، المهدية، المنستير، نابل، جرجيس). يسكنون في الأحياء الشعبية وأحزمة الفقر التي تحيط بالمدن الكبرى نظراً لانخفاض أجور المنازل ولقربها من فرص العمل: البناء والتجارة والمقاهي والمطاعم.
تونس: عن السفراء والحرّاقة وخفر السواحل
02-06-2017
وهناك من يأتي إلى تونس وهو يمتلك المال اللازم لركوب قوارب الهجرة، لكن كثيرين يضطرون للعمل في مجالات الاقتصاد الموازي لجمع المبلغ. يتم استغلالهم من أصحاب العمل لكنهم يصمتون لأن آخر ما يرغبون به هو لفت الأنظار إليهم. قلة من بين المهاجرين الترانزيت يقرر العدول عن "الحرقة" والاستقرار في تونس، بعد تواتر حوادث غرق المراكب وآخرها ما حصل في قرقنة (محافظة) في 3 حزيران/ يونيو 2018 حيث غرق قارب ومات 81 شخصاً من بينهم 20 ضحية أصيلي بلدان افريقيا جنوب الصحراء.
المحظوظون يصلون سالمين إلى الجزر الإيطالية، ولكن هناك المئات الذين توقفهم قوات الأمن، سواء في البر أو في البحر. أغلبهم يكونون عادة بلا أوراق إقامة قانونية مما يعني انهم ارتكبوا عدة مخالفات مجتمعة. يتم احتجازهم في مراكز "استقبال وتوجيه" (أشهرها مركز "الوردية" الذي يقع في حي الى جنوب العاصمة تونس) وهي سجون غير معلنة بانتظار ترحيلهم. لا تتكفل الدولة بتكاليف الترحيل إلى البلد الأصلي، مما يعني ان المهاجر، الذي يكون في أغلب الأحيان بلا مال، لن يستطيع ترك مركز الاحتجاز إلا عندما يكون قادراً على توفير ثمن تذكرة الطائرة وسداد رسوم مخالفات الإقامة غير القانونية (20 دينار لكل أسبوع).
في بعض الحالات تلجأ السلطات التونسية إلى إبعاد المهاجرين الموقوفين عبر تركهم في قرى حدودية قرب الجزائر أو ليبيا. تنفي السلطات ارتكاب مثل هذه الممارسات لكن هناك العديد من التقارير والشهادات التي تؤكد ذلك.
• ختاماً..
لا يوجد "بورتريه" نمطي للمهاجر الأفريقي القادم من جنوب الصحراء. الوضعيات متعددة وقد تتغير عدة مرات بالنسبة للشخص نفسه خلال اقامته في تونس. فبعكس ما يعتقد اكثر التونسيين وحتى الملاحظين الأجانب، فإن اغلب المهاجرين الذين يصلون الى تونس يأتون بهدف الإقامة لمدة طويلة (دراسة، عمل، لجوء، تداوي، استثمار) وليس لعبور المتوسط، حتى وإن كانت أعداد هؤلاء في تزايد ملحوظ.
صوّت البرلمان التونسي في السنوات الأخيرة على عدة قوانين تقدمية، يفترض انها تحمي التونسيين المهاجرين وخصوصا الأفارقة. مثلاً تمت المصادقة في 3 آب/ أغسطس 2016 على قانون "مكافحة الإتجار بالبشر"، وتمّ بعث "الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر" سنة 2017. كما صادقت "لجنة الحقوق والحريات" بالبرلمان يوم 6 حزيران/ يونيو 2018 على مشروع قانون "القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري". توقِّع تونس أيضاً منذ سنوات اتفاقيات ثنائية مع دول افريقية أخرى تشمل تسهيل تنقل المواطنين والتعاون الاقتصادي. كل هذا جيد، لكنه قد يفقد معناه وجدواه مع كل الاتفاقيات العلنية والسرية التي توقعها الحكومات التونسية مع دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي بهدف التصدي لظاهرة الهجرة غير النظامية، سواء تعلق الأمر بالتونسيين أو بالمهاجرين القادمين من دول جنوب الصحراء.
لا شيء ينبئ بأن نزيف الهجرة الافريقية سيتوقف قريباً. لا شيء أيضا ينبئ بأن تونس ستستفيد شيئاً من تبعيتها للاتحاد الأوروبي ولعب دور خفر السواحل. تعزيز العلاقة مع دول جنوب الصحراء والاتجاه أكثر نحو الاتحاد الافريقي هو الحل المنطقي. هذا الاتجاه يجب ان يتأسس على الندية لا على النظر لإفريقيا كمجرد أسواق تصدر إليها البضائع والكفاءات التونسية. يعني ذلك أنه يجب على الدولة التونسية أن تعدّل قوانين الهجرة والإقامة والعمل، وتجعلها أكثر مرونة. كما على المجتمع التونسي أن يتخلص من أوهامه الجغرافية - التاريخية: أقرب الى أوروبا وأفضل من إفريقيا. من المعيب ان يكون قرابة خمس شعبك مهاجِراً في أصقاع الأرض في حين تقمع أنتَ المهاجرين وتقيد حريتهم في التنقل.
محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.