الحرب في السودان تنهش ما تبقى من نظام صحي متهالك

قدَّرت بيانات وزارة الصحة خسائر القطاع الصحي الحكومي والخاص، في ولاية الخرطوم بـ 12 مليار دولار. وأحصى تقرير توثيقي صادر من الوزارة بولاية الخرطوم تضرر 75 في المئة من المستشفيات العامة والخاصة، حيث توقفت عن العمل نتيجة القصف المباشر، وتحولت معظم المستشفيات إلى ثكنات عسكرية لقوات الدعم السريع، التي سيطرت على الخرطوم منذ الأيام الأولى للحرب. ووفقاً لتقارير وزارة الصحة الولائية، تضرر 90 في المئة من المستشفيات الخاصة في الولاية: 73 مستشفى من أصل 80 مستشفى خاصّاً، وتعطل 25 مصنعاً للأدوية، و2300 صيدلية، و450 شركة معدات طبية. أما على المستوى الوطني العام، فقد تضرر 250 مستشفى، من أصل 750 مستشفى في البلاد، وفقاً لوزارة الصحة السودانية.
2025-11-27

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
ازدحام المرضى في مستشفى أم درمان التعليمي بعد استعادة العمل في غالبية أقسامه.

أنجز هذا التحقيق ضمن أنشطة شبكة المواقع الاعلامية المستقلة حول العالم العربي، والتي تضم علاوة على "السفير العربي"، "أوريان 21"، "مدى مصر"، "حبر"، "ماشاالله نيوز"، "المغرب الناهض"، "نواة"، و"باب المد".

 تحقيق استقصائي*
لم تتوقع السيدة إخلاص البالغة من العمر 45 عاماً، أن تنطلق الحرب قبل أيام معدودة من تحقيق أملها في الشفاء، إذ قرر لها أطباء مستشفى السلام الإيطالي لجراحة القلب بالخرطوم عملية استبدال صماميْن بتاريخ 24 نيسان/ أبريل 2023 بحسب ما روت شقيقتها.
وبينما الأسرة كانت تبدأ في تجهيزاتها للانتقال إلى المستشفى، قبل إجراء العملية بأيام معدودة، انطلقت الرصاصة الأولى في 15 نيسان/ أبريل 2023 على مقربة من المستشفى الواقع جنوب الخرطوم، طلبت إدارة المستشفى من جميع المرضى المقرر لهم الإقامة، البقاء في منازلهم، حتى انجلاء الأمر، لكن الأمر لم ينجلِ بل تحول إلى كابوس.

ظلت إخلاص متمسكة بالأمل، كغيرها من ملايين السودانيين، ظنّاً منها أنها مجرد توترات بين الجيش وذراعه، قوات الدعم السريع وأنها سرعان ما ستنجلي، لكن قلبها المنهك أصلاً لم يحتمل كثيراً، صعدت روحها بعد أسابيع معدودة وهي تحتضن آمالها في الشفاء. وتقول شقيقتها، إن مجرد إسعافها كان أقرب إلى المستحيل، إذ اضطرّوا لحملها على ظهر سيارة عسكرية، وتجولوا بها بين عدد من المشافي التي أغلقت أبوابها أو خرجت من الخدمة منذ الساعات الأولى، وظلوا يحاولون – عبثاً - إنقاذها، حتى تسنى لهم العثور على عيادة نساء وولادة، حيث تم تأكيد الوفاة هناك.

ونظراً للأوضاع المضطربة داخل الخرطوم وقتذاك، لم تتمكن الأسرة من التعرف إلى مقبرة إخلاص إلا بعد شهور، وفقاً لشقيقتها.

إخلاص واحدة ضمن كثيرين، فقدوا حياتهم، بسبب تعذر الحصول على الرعاية الصحية أو انقطاع العلاج، خاصة أصحاب الأمراض المزمنة، وقد أحصت كلية لندن للصحة والطب الاستوائي حوالي 61 ألف حالة وفاة بولاية الخرطوم، حدثت خلال الـ 14 شهر الأولى من الحرب، منها 21 ألف حالة نتيجة العنف المباشر (الرصاص)، وأشارت الدراسة إلى أن الجوع والأمراض التي كان من الممكن الوقاية منها كانت السبب الرئيسي للوفيات في جميع أنحاء البلاد، ما يعني أن حوالي 35 ألفاً ماتوا بسبب الجوع والمرض.

وبلغ تعداد سكان ولاية الخرطوم قبل الحرب حوالي 15 مليوناً وفقاً للإحصائيات القديمة ومعدلات النمو، وقدرت مصادر رسمية في حكومة ولاية الخرطوم أن يكون تعداد السكان بعد الحرب حوالي 6 ملايين، تتمركز غالبيتهم في محلية كرري التابعة لمدينة أم درمان، حيث تشير التقديرات إلى وجود 3 ملايين نسمة في هذه المحلية.

خسائر مهولة وخراب واسع في قطاع متهالك

لا توجد إحصائيات رسمية لدى وزارة الصحة، بشأن أعداد الذين توفوا بسبب انعدام الرعاية الصحية، لكن جمعية الأطباء السودانيين في الولايات المتحدة الأمريكية، ذكرت في تقرير لها حول خسائر القطاع الصحي، إن 711 ألف مريض بولاية الخرطوم تضرروا من جملة 2.134.247 مليون مريض، أي أن ثلث المرضى بولاية الخرطوم تضرروا بشكل مباشر، مع استهداف المستشفيات وخروج بعضها من الخدمة في الشهور الأولى من الحرب.

وأوضح التقرير أن 70 في المئة من الأضرار في المشافي الطبية، قد وقعت في الفترة بين نيسان/ أبريل، وكانون الأول/ ديسمبر 2023 في مناطق وسط وجنوب الخرطوم ذات الكثافة، وتتمركز غالبية المستشفيات الكبيرة، العامة والخاصة، في مناطق وسط وشرق الخرطوم، وهي على مقربة من القيادة العامة للجيش ومطار الخرطوم، حيث تحولت إلى مناطق عسكرية، منذ الساعات الأولى للحرب.

وأشار التقرير إلى أن نصف المستشفيات في ولاية الخرطوم قد تعرضت لأضرار خلال الـ 500 يوم الأولى، إذ تضرر 41 مستشفى من أصل 87 مستشفى بالولاية، وأن نصف المستشفيات المتضررة كانت تقدم خدمات الرعاية الصحية الأولية، وأكد التقرير وجود مخاطر على صحة السكان، على المديين القريب والآجل.

أما على المستوى الوطني العام، فقد تضرر 250 مستشفى، من أصل 750 مستشفى في البلاد، وفقاً لوزارة الصحة السودانية.

ذكرت جمعية الأطباء السودانيين في الولايات المتحدة الأمريكية، أن ثلث المرضى في ولاية الخرطوم تضرروا بشكل مباشر مع استهداف المستشفيات. وأحصت كلية لندن للصحة والطب الاستوائي حوالي 61 ألف حالة وفاة بولاية الخرطوم، حدثت خلال الـ 14 شهراً الأولى من الحرب، منها 21 ألف حالة نتيجة العنف المباشر (الرصاص). وأشارت الدراسة إلى أن الجوع والأمراض كانت السبب الرئيسي للوفيات في جميع أنحاء البلاد.

أحصت تقارير منظمة الصحة العالمية 542 هجوماً على نظام الرعاية الصحية بالسودان، خلال الفترة من نيسان/ أبريل 2023 حتى كانون الأول/ ديسمبر 2024، ومقتل 122 كادراً صحيّاً، واعتقال العشرات، وارتفع عدد قتلى الكوادر الصحية إلى 317 بحلول شباط/ فبراير 2025 وفقاً لآخر تحديث من المنظمة. 

وأظهرت جولة ميدانية لأغراض هذا التحقيق داخل ولاية الخرطوم، دماراً غير مسبوق، طال غالبية المرافق الطبية من حيث المباني والمعدات الطبية واللوجستية. وفي مستشفى إبراهيم مالك، جنوبي الخرطوم، وهو أكبر المستشفيات التابعة لوزارة الصحة بولاية الخرطوم، لم يترك الدمار غرفة واحدة إلا ووطأها، غطى الخراب والعبث كل المستشفى، الذي يُعدُّ أحد أهم مراكز جراحة المخ والأعصاب في السودان علاوة على أقسامه المتعددة. وعلى سبيل المثال، رصدنا خلال الجولة تدميراً عشوائيّاً لجهاز أشعة مقطعية، تقدر قيمته بملايين الدولارات. وهذا الجهاز تعرض للتخريب، فقط لنزع أسلاك النحاس من مكوناته، إذ يُباع الكيلو النحاس بأقل من 5 دولارات، وقد نشطت تجارة النحاس خلال هذه الحرب بشكل واسع، وكان قطاع الكهرباء من أكبر ضحاياها.

مستشفى إبراهيم مالك، أكبر مستشفيات ولاية الخرطوم، وأهم مركز للمخ والأعصاب في السودان.
تعرض لدمار واسع وتعطل تماما عن العمل ولا يزال متوقفاً.

في مستشفى إبراهيم مالك: غرفة أشعّة متطورة أحيلت لكوم تراب (يمين)، وغرفة عناية مركزة تعرضت لدمار كامل (يسار).

وخلال جولة ميدانية وسط الخرطوم، حيث تتمركز كبرى المستشفيات والمراكز المتخصصة وعيادات الاستشاريين، بدأ الأمر وكأن شيئاً لم يقم هنا، كأن هذه المنطقة لم تشهد في تاريخها نشاطاً بشريّاً. ولأنها في الأصل منطقة غير سكنية، كما أنها قرب القيادة العامة للجيش، فقد خلت تماماً من أي شكل يشير إلى وجود حياة.

مستشفى الشعب، من أكبر مستشفيات العاصمة، وأحد أكبر المستشفيات التعليمية، وعلى الرغم من عمليات النظافة التي بدت ظاهرة عليه، إلا أنه كغيره من المؤسسات الكبيرة صار غير قادر على النهوض واستعادة نشاطه، وهو الذي كان يستقبل المرضى بالآلاف من الخرطوم والولايات، إذ يتمتع بطاقة استيعابية وقدرة تشغيلية هائلتين، وتشير آخر الإحصائيات، قبل الحرب، إلى أن المستشفى كان يستقبل أكثر من 1000 حالة في اليوم الواحد من مرضى القلب والصدر.

تشير إحصائيات وزارة الصحة، إلى تسجيل 28 ألف إصابة بالسرطان سنوياً. المستشفى المتخصص نجا من الخراب بدرجة كبيرة، إذ أفاد مسؤول في وزارة الصحة أن جهاز العلاج الإشعاعيّ لم يصبه أذى، ويُتوقَع أن يباشر نشاطه قريباً. لكن من غير المعروف هل بالإمكان استعادة نشاطه وسط بيئة تنعدم فيها الخدمات الأساسية، من مياه وكهرباء وصرف صحي؟.

هناك شبه انعدام لأجهزة الرنين المغناطيسي في كل ولاية الخرطوم، باستثناء جهاز واحد بمركز في أطراف مدينة أم درمان. ويضطر المرضى للحجز قبل وقت طويل، ويسعى مستشفى أم درمان إلى الحصول على جهاز ثانٍ للرنين المغناطيسي، بجانب مساعيه إلى إعادة افتتاح قسم العناية المكثفة، إذ تعاني الخرطوم شحاً واسعاً في تلك الأقسام، وتعج مواقع التواصل الاجتماعي، ببحث الناس عن سرير في غرفة عناية مكثفة. 

وعلى مقربة من مستشفى الشعب يقع مستشفى الذرة، وهو المستشفى الرئيسي لعلاج مرضى السرطان، حيث يقصده المرضى من شتى ولايات السودان. ونظراً للتفشي الواسع لمرض السرطان في السودان، شهد المستشفى خلال السنوات الأخيرة ازدحاماً مستمراً وقوائم انتظار طويلة، وأحياناً لا يجد بعض المرضى حظهم في الجرعات، حتى يفارقون الحياة. وتشير إحصائيات وزارة الصحة إلى  تسجيل 28 ألف إصابة بالسرطان سنوياً. هذا المستشفى نجا من الخراب بدرجة كبيرة، إذ أفاد مسؤول في وزارة الصحة أن جهاز العلاج الإشعاعيّ لم يصبه أذى. ويُتوقَع أن يباشر المستشفى نشاطه قريباً. لكن من غير المعروف هل بالإمكان استعادة نشاطه وسط بيئة تنعدم فيها الخدمات الأساسية، من مياه وكهرباء وصرف صحي؟.

ومن اللافت خلال هذه الجولة أن المستشفيات التي كانت تستخدمها قوات الدعم السريع لعلاج عناصرها الجرحى نجت بشكل كامل من الدمار، وحتى تلك التي توقف فيها العمل، تمكنت من استعادة نشاطها في زمن قياسي. ونذكر هنا مستشفى بشائر جنوب الخرطوم، ومستشفى التميز الواقع في مناطق أواسط جنوب الخرطوم.

تقدر بيانات وزارة الصحة خسائر القطاع الصحي الحكومي والخاص في ولاية الخرطوم بـ 12 مليار دولار، وأحصى تقرير توثيقي صادر من وزارة الصحة بولاية الخرطوم تضرر 75 في المئة من المستشفيات العامة والخاصة، حيث توقفت عن العمل نتيجة القصف المباشر، وتحولت معظم المستشفيات إلى ثكنات عسكرية لقوات الدعم السريع، التي سيطرت على الخرطوم منذ الأيام الأولى للحرب. ووفقاً لتقارير وزارة الصحة الولائية، تضرر 90 في المئة من المستشفيات الخاصة في الولاية: 73 مستشفى من أصل 80 مستشفى خاص، وتعطل 25 مصنعاً للأدوية، و 2300 صيدلية، و 450 شركة معدات طبية.

وأحصت تقارير منظمة الصحة العالمية 542 هجوماً على نظام الرعاية الصحية بالسودان، في الفترة من نيسان/ أبريل 2023 حتى كانون الأول/ ديسمبر 2024، ومقتل 122 كادراً صحيّاً، واعتقال العشرات، وارتفع عدد قتلى الكوادر الصحية إلى 317 بحلول شباط/ فبراير 2025 وفقاً لآخر تحديث من منظمة الصحة العالمية.

وتتوقع وزارة الصحة تعرض النظام الصحي لضغوط وتحديات كبيرة حال زيادة معدلات عودة المواطنين إلى الخرطوم، في ظل استمرار توقف غالبية المرافق الصحية، وشح الإمداد الدوائي وانقطاع التيار الكهربائي.

محاولات تعويض الفاقد 

هذه الخسائر المهولة في قطاع الصحة، أدت إلى شلل واسع في تقديم الحد الأدنى من الخدمات الصحية في الخرطوم، باعتبارها مركز الخدمة الصحية والطبية في البلاد، بحكم طبيعة القبضة المركزية لأنظمة الحكم المتتالية في السودان. وتعطلت تبعاً لذلك الخدمات الصحية في إقليم دارفور، الذي سيطرت عليه قوات الدعم السريع تباعاً مع سيطرتها على الخرطوم.

وحينما استحال استمرار تقديم أي مستوى من الخدمات الطبية والصحية في العاصمة في ظل استمرار العمليات العسكرية وقتها، تحولت مدينة مدني، عاصمة ولاية الجزيرة وسط البلاد، إلى مركز بديل لتقديم الخدمة الصحية. وولاية الجزيرة كانت قبل الحرب تتمتع بحد معقول من البنى التحتية الطبية، مما أهلها إلى أن تكون محطة بديلة للخرطوم، وقد انتقلت إليها أعداد مقدرة من المرضى لمواصلة العلاج، وكذلك انتقلت إليها العيادات المتخصصة والاستشارية،. لكن عقب سيطرة قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة في نهاية 2023، تحول الأمر إلى كابوس، وتعذّر الحصول على خدمة صحية كاملة في مناطق وسط السودان. وأعلنت وزارة الصحة وقتذاك عن مصير مجهول لإمدادات دواء تقدر قيمتها بـ 20 مليون دولار.

سيارة إسعاف مدمّرة أمام مستشفى في الخرطوم.

هذا الواقع الصحي، انعكس بشكل كارثي على خدمات الرعاية الصحية، ابتداءً من الرعاية الأولية حتى الرعاية المتقدمة. وفاقم الأمر تمدد الحرب إلى ولاية الجزيرة، ثم إلى سنار جنوب شرق البلاد، قبل أن يستعيد الجيش هذه المناطق. وتواجِه المناطق التي استعاد الجيش السيطرة عليها شحّاً في الخدمات الأساسية، فيما تواجه بعضها انعداماً تامّاً لخدمات الكهرباء والمياه والصرف الصحي. وتبرز العاصمة الخرطوم كأكبر نموذج لهذه المناطق، ولا يبدو أن الجهاز التنفيذي لديه خطة ولو إسعافية. ومع غياب التمويل في ظل استمرار الحرب والعمليات العسكرية في مناطق أخرى، يظل إحراز أي تقدم مرتبطاً مباشرة بأية عملية تفاوض، أو وقف إطلاق نار يمهد لتسوية النزاع.

أفاد مدير الطب الوقائي، د.أحمد البشير، أن الأولوية في تشغيل المستشفيات والمراكز لمناطق الكثافة السكانية الحالية، وليس بناء على وضع المستشفيات قبل الحرب. ولأن الحياة في الخرطوم انسحبت إلى أطرافها منذ شهور الحرب الأولى، مع خلو مركز المدينة من الحياة تماماً، وجدت المناطق الطرَفية حظها من جميع الخدمات.

تشير تقارير منظمة الصحة العالمية، الصادرة في آذار/ مارس 2025 إلى أن أكثر من 20 مليون سوداني يعانون احتياجات كارثية. وسعت المنظمة إلى جمع 4 مليار دولار، ضمن خطة الاستجابة للطوارئ الصحية في السودان. كما صنفت الأمم المتحدة الحالة السودانية كأكبر أزمة نزوح يشهدها العالم، إذ نزح حوالي 12 مليون سوداني، 53 في المئة منهم أطفال دون سن الـ 18. ويعاني نصف السكان مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد. 

وعلى ذلك، تسعى مؤسسات القطاع الصحي إلى تأمين حد معقول من الخدمات، في مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، التي استعاد الجيش السيطرة عليها، في كانون الثاني/ يناير 2025. وقدرت السلطات هناك خسائر القطاع الصحي في الجزيرة بحوالي 63 مليون دولار، وباعتبار أن تلك الولاية منطقة وسطية، وكانت وجهة لعدد من مناطق السودان، وصارت الوجهة الوحيدة وسط البلاد بعد سيطرة قوات الدعم السريع على الخرطوم. وحينما دخلت إلى دائرة الحرب، توقفت المؤسسات الصحية فيها وفرغت المدينة وما حولها من المواطنين، بما في ذلك الكوادر الطبية. ويقول د.أسامة عبد الرحمن، مدير عام الصحة بولاية الجزيرة، إن القطاع قد تعرض لأضرار كبيرة، وكانت المعضلة الرئيسية في استئناف النشاط الصحي هي نقص الكوادر الطبية، وانقطاع التيار الكهربائي. وأشار عبد الرحمن خلال المقابلة إلى أن وزارته استطاعت أن تستعيد خدمات عديدة، لكن يظل التحدي قائماً، والحاجة إلى الدعم مستمرة، مؤكداً أثر عمليات النهب والتخريب التي طالت الأجهزة الطبية والسيارات ومحولات الكهرباء، ومحاولة الوزارة سد نقص الكوادر الطبية بالكوادر المتعاونة، مشيراً إلى أن النقص تمت تغطيته بنسبة 75 في المئة.

مستشفى المناطق الحارة بولاية الخرطوم، من أهم المستشفيات البحثية،
بدأ استئناف العمل فيه بميزانيات محدودة وسط تحديات كبيرة وبإمكانيات شحيحة.

ورصدت جولتنا الميدانية في مدينة مدني، عودة مركز العلاج الكيميائي لمرضى السرطان، لكن خدمة العلاج الإشعاعيّ لا تزال متوقفة، مما يفاقم معاناة مرضى السرطان، الذين لم تعد لهم وجهة إلا في منطقة مروي في أقاصي شمال البلاد. واستعاد مستشفى الجزيرة لأمراض الكلى عمليات الغسيل، بينما لا تزال عمليات الزراعة متوقفة. ورصدت الجولة عدم استقرار في العمليات الجراحية. أما مركز القلب، فاكتفى بعمل العيادات فقط، على الرغم من أن هذا المركز يعد من أكبر مراكز القلب في أفريقيا. وقد تعرض لعمليات نهب واسعة، خلال عام الحرب الذي عاشته الولاية. وتعمل كافة مستشفيات النساء والولادة والأطفال، والمستشفى العام بكامل نشاطها.

ويشير د.عبد الرحمن، إلى تضرر خدمات التحصين والتغذية وصحة الأمومة والصحة النفسية. وتسجيل الوزارة زيادة في أمراض الطفولة ووفيات الأمهات، وهو يقول إنه في عام 2024 سجلت الولاية 30 حالة وفاة وسط الأمهات، بينما انخفضت هذا العام إلى 4 حالات، وفقاً للتقارير الرسمية.

وتشير تقديرات رسمية، إلى أن تعداد سكان هذه الولاية بلغ حوالي 12 مليون نسمة، بعد أن تحولت إلى مركز بديل لولاية الخرطوم، ونزح إليها الملايين. أما حالياً وبعد استعادة الجيش السيطرة على الولاية، فيُقدر تعداد السكان بـ6 مليون، غالبيتهم العظمى على الأرجح من مواطني الجزيرة.

ويتضح أن الوضع في ولاية الجزيرة أفضل حالاً من العاصمة الخرطوم، التي تحاول استعادة بعض الخدمات الطبية، علاوة على مدينة أم درمان، إحدى مدنها الثلاث. وعلى الرغم من أن الحرب لم تتمدد في كامل مدينة أم درمان، بعكس ما حدث في مدينتي الخرطوم وبحري، إلا أن أثر الحرب كان بيّناً في عدد من المؤسسات الصحية في المدينة، التي كانت قوات الدعم السريع تسيطر على غربها وعلى أحياء أم درمان القديمة جنوبها، بينما كان يتمركز الجيش في شمالها، حيث خرجت العديد من المستشفيات الواقعة في مناطق قوات الدعم السريع من الخدمة، وعلى رأسها مستشفى أم درمان التعليمي الذي استعاد نشاطه بدعم مباشر من مركز الملك سلمان، بالإضافة إلى الدعم الأهلي. ويقول د. عبد المنعم علي، مدير مستشفى أم درمان، إن جميع الأقسام عاودت نشاطها، ويشير إلى أن المستشفى صار يضم تخصصات لم تكن موجودة قبل الحرب، مثل تخصصات أمراض البنكرياس، وكأن الوزارة تحاول تعويض فاقد الخدمة التي كانت تقدمها الخرطوم. وتوقف مستشفى أم درمان عن العمل لأكثر من عام قبل أن يستأنف نشاطه في تشرين الأول/ أكتوبر 2024.

مستشفى أم درمان التعليمي الذي استأنف العمل به، وهو يشهد ازدحاماُ كبيراً.

ويقول مدير المستشفى إن هناك دعماً من مركز الملك سلمان السعودي، مخصّصاً لقسم العناية المكثفة، ومن المتوقع تشغيل 16 غرفة منها. ويواجه المستشفى مشكلة الكهرباء والوقود، إلى جانب النقص الكبير في الأوكسجين، بسبب توقف المصنع الرئيسي بالخرطوم. وتحتاج أقسام العناية حال تشغيلها إلى 96 أسطوانة أكسجين يومياً، بتكلفة 10دولارات للأسطوانة الواحدة. ويعمل مستشفى أم درمان بسعة 600 سرير، بينما طاقته التشغيلية 800 سرير.

وخلال جولتنا لأغراض هذا التحقيق، رصدنا انتعاشاً لافتاً للخدمات الطبية في المناطق الطرَفية، وكأن المعادلة انقلبت، حيث صار سكان الأطراف يتمتعون بالخدمات التي كانوا يهاجرون إليها وسط الخرطوم. ويبدو هذا منطقياً مع سياسات وزارة الصحة بولاية الخرطوم، حيث أفاد مدير الطب الوقائي د.أحمد البشير أن الأولوية في تشغيل المستشفيات والمراكز لمناطق الكثافة، وليس بناءً على وضع المستشفيات قبل الحرب. ولأن الحياة في الخرطوم قد انسحبت إلى أطرافها منذ شهور الحرب الأولى، مع خلو مركز المدينة من الحياة تماماً، وجدت هذه المناطق حظها من جميع الخدمات، وفعليّاً فإن المراكز الصغيرة في أرياف المدن الكبيرة، التي لم يكن يتجاوز حجم التردد عليها قبل الحرب 10 حالات في اليوم، صارت اليوم وجهة لكثير من المواطنين.

مستويات كارثية…احتياجات مستمرة

تشير تقارير الصحة العالمية الصادرة في آذار/ مارس 2025 إلى أن أكثر من 20 مليون سوداني يعانون احتياجات كارثية. وسعت المنظمة الأممية إلى جمع 4 مليار دولار ضمن خطة الاستجابة للطوارئ الصحية بالسودان. وصنفت الأمم المتحدة الحالة السودانية كأكبر أزمة نزوح يشهدها العالم، حيث نزح حوالي 12 مليون سوداني، 53 في المئة منهم أطفال دون سن الـ 18، ويعاني نصف السكان مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد.

ونظراً لتصاعد موجات النزوح واتساع رقعتها الجغرافية، توافرت بيئة مواتية لتفشي الأمراض المعدية، التي بلغت مستويات متقدمة في السودان، خلال أكثر من عامين من الحرب، وانتشرت الحميات بأنواعها، وسجلت الوفيات بوباء الكوليرا 2500 حالة وفاة.

وفي ظل نظام صحي هش، تأثرت خدمات التحصين فيما توقفت تماماً في بعض المناطق، وازدادت معدلات الإصابة بالحصبة، إذ سجلت 5000 حالة في الفترة من نيسان/ أبريل إلى أيلول/ سبتمبر 2023، وفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية. وتوفي 1200 طفل،  بسبب الاشتباه في إصابتهم بالحصبة وسوء التغذية.

عانت عدة ولايات في السودان من تفشٍّ واسع للحمّى والكوليرا.

وسجّل مستشفى ألبان جديد بمنطقة الحاج يوسف بالخرطوم 3 حالات وفاة، بسبب خطأ فني في إجراءات تحضير جرعة اللقاح، بحسب ما أعلنت عنه وزارة الصحة في آب/ أغسطس 2025. وذكرت تقارير صحافية أن المحلول المستخدم للقاح الحصبة اختلط بمحاليل أخرى في ثلاجة المدير الطبي، التي كانت تستخدمها إدارة التحصين، بسبب تعطل الثلاجة الخاصة بلقاحات التحصين مع انعدام الكهرباء.

وانتشرت على نطاق واسع في ولايتي الخرطوم والجزيرة خلال الشهور المنصرمة حمى الضنك، حيث سجلت وزارة الصحة بولاية الخرطوم 13.692 إصابة، لكن وزارة الصحة أعلنت عن رقم وفيات منخفض، كان محل تشكيك واسع، ولا يتناسب مع حجم الوفيات، الذي تتحدث عنه لجان الأحياء والجمعيات الأهلية. وشهدت ولاية الجزيرة إلى جانب الحميات، تفشيّاً واسعاً لالتهاب الكبد الوبائي.

قبل الحرب كان النظام الصحي السوداني في وضع هشاشة على مستويات مختلفة، إذ كان يعاني مشكلات عديدة ومعقدة، أبرزها محدودية الميزانية إذ لم تبلغ ميزانية الصحة 10 في المئة في أفضل أحوالها، مما أدى إلى تجفيف مستمر للقطاع العام، مقابل توسع هائل للقطاع الخاص، والاستثمار في تقديم الخدمات الصحية، التي صارت خلال السنوات الأخيرة صعبة المنال لغالبية المواطنين، في بلد قفزت فيه معدلات الفقر من 21 في المئة، قبل الحرب إلى 71 في المئة. ووفقاً للتقارير الرسمية الأخيرة، فإن 23 مليون سوداني يعيشون تحت خط الفقر، من أصل 50 مليوناً.

توافرت مع النزوح الواسع، بيئة مواتية لتفشي الأمراض المعدية، وانتشرت الحميات بأنواعها، وسجلت الوفيات بوباء الكوليرا 2500 حالة. وفي ظل نظام صحي هش، تأثرت خدمات التحصين (اللقاحات)، فيما توقفت تماماً في بعض المناطق، وازدادت معدلات الإصابة بالحصبة، إذ سجلت 5000 حالة في الفترة من نيسان/ أبريل إلى أيلول/ سبتمبر 2023، وفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية. وتوفي 1200 طفلٍ، بسبب الاشتباه في إصابتهم بالحصبة وسوء التغذية.

قدرت منظمة الصحة العالمية أن الإمدادات الطبية في السودان تغطي حالياً حوالي  25 في المئة من الاحتياجات الفعلية. ومع تزايد النقص بشكل ملحوظ خلال الأشهر القليلة الماضية، وشح التمويل، يواجه القطاع الصحي تحديات كبيرة، ويتأثر بشكل أكبر أصحاب الأمراض المزمنة، والنساء بشكل أكثر خصوصية. ويُقدّر صندوق الأمم المتحدة للسكان وجود  105,000 امرأة حامل  في السودان، يواجهن صعوبة في الحصول على رعاية الأمومة، بسبب إغلاق المستشفيات ونقص أدوية صحة الأم.

وتروي لنا "شذى"، الشابة المتزوجة حديثاً، عن تجربة مرعبة لأول ولادة لها داخل مدينة بحري إبان سيطرة قوات الدعم السريع. شذى التي لم يتجاوز عمرها 25 عاماً اضطرت للبقاء إلى جانب زوجها، الذي كان يقوم بالرعاية الصحية لوالده المسن، حينما اقترب موعد الولادة لم يكن هناك من مستشفى يباشر نشاطه، فاضطرت شذى لوضع مولودها في منزل إحدى القابلات، وفي بيئة خطرة تنقصها مقومات الرعاية الصحية.

وأعلنت وزارة الصحة في تشرين الأول/ أكتوبر 2024 عن زيادة في معدلات وفيات الأمهات والأطفال، إذ بلغت 295 حالة وفاة لكل  مئة ألف حالة ولادة.

ونقلت منظمة أطباء بلا حدود العاملة في السودان أن نسبة وفيات الأمهات بين كانون الثاني/ يناير وآب/ أغسطس 2024 في مستشفيين تدعمهما المنظمة في جنوب دارفور، تجاوزت السبعة في المئة، من إجمالي وفيات الأمهات التي سجّلتها جميع مرافق أطباء بلا حدود في العالم خلال عام 2023.

مات المركز وانتعشت الهوامش

ولما كانت الخرطوم بقبضتها المركزية الشديدة تستحوذ على كافة خدمات الرعاية الصحية والطبية، ويهاجر سكان الولايات المختلفة إليها، انقلب الوضع تماماً بعد الحرب، إذ تحولت الخرطوم إلى خراب، وانعكست معدلات الهجرة لتلقي الخدمات الصحية. وصارت وجهات الهجرة مناطق جديدة أنعشتها ظروف الحرب. ونموذجاً لذلك، ولاية نهر النيل شمال البلاد، كانت مثل غيرها من مناطق السودان تعاني خللاً في التنمية والخدمات. ولأنها نجت من الحرب، صارت ملاذاً آمناً. وعلى سبيل المثال، مواطن نهر النيل، الذي كان ينتظر أكثر من شهرين للحصول على مقابلة مع استشاري في الخرطوم، صار اليوم في غنى عن ذلك، إذ انتقل ذاك الاستشاري بعيادته وخدماته إلى هناك، وتوسعت الخدمات الطبية في الولاية خلال فترة الحرب بشكل هائل.

مستشفى الشرطة بمدينة عطبرة، إحدى مدن ولاية نهر النيل التي تحولت إلى مركز تجاري وخدمي خلال الحرب. كان المستشفى عبارة عن مركز صغير، يستقبل الحالات البسيطة بالإضافة لعمليات الولادة. مع ضغط الحرب، تحول المركز إلى وجهة علاجية لعدد من مناطق السودان. ويقول د.الوليد محجوب، مديره، إن المستشفى واجه تحديات كبيرة أمام توسيع الخدمات ومراعاة الظرف الذي تمر به البلاد، كتوفير أجهزة الأشعة والمعامل، وشراء مولد كهرباء، نظراً لتردي خدمات الكهرباء العامة. وتدريجياً توسّع المستشفى ليتحول من مركز محدود بغرفة عمليات واحدة، إلى قاعدة طبية تقدم خدمات: جراحة العظام، جراحة المخ والأعصاب، جراحة الأوعية الدموية، جراحة التجميل، جراحة الوجه والفكين، إلى جانب غرف عناية فائقة للإنعاش الرئوي والقلب. وتجدر الإشارة إلى أن غالبية هذه الخدمات تم توطينها في الولاية خلال عامي الحرب.

وتبلغ الطاقة التشغيلية للمستشفى حالياً أكثر من 200 سرير و 11 غرفة عمليات، وبتردد يومي يصل إلى 750 مريضاً.

لكن الانقلاب المذهل في المعادلة هذه، كان في مستشفى صغير يقع في الريف الجنوبي الغربي لولاية نهر النيل. فمنذ افتتاحه في 2008 لم تتجاوز خدماته مجرد مركز صحي، بتردد يومي لا يزيد على 15 مريضاً يومياً من مرضي الحالات الباردة، لتلقي خدمات محدودة مثل علاج الحميات والالتهابات البسيطة، ومتابعة حالات الأمراض المزمنة، ولدغات العقارب المنتشرة في هذه الولاية.

عملية جراحية للقلب في إحدى مستشفيات ولاية نهر النيل التي لم تكن موجودة قبل الحرب.

أما بعد الحرب، صار مستشفى "الجكيكة "، مستشفى مرجعيّاً، وتوسعت فيه الخدمات إذ شهد إنجازاً طبياً نادراً، حينما أجرى فريق طبي عملية ناجحة  لفصل توأم طفيلي.

وكانت وزارة الصحة قد وجهت جهودها إلى هذا المركز، لتخفيف الضغط على مستشفيات أم درمان، إذ أعيد افتتاحه نهاية العام 2023، وتم تزويده بالأجهزة والمعدات والكوادر الاختصاصية في مختلف الأقسام. واستفادت ولاية نهر النيل من الكوادر الطبية، التي نزحت من الخرطوم بشكل رئيسي، وكونها واحدة من الولايات التي نجت من الحرب، صارت مؤهلة للانتعاش الاقتصادي والخدمي.

وبلغ سكان هذه الولاية قبل الحرب حوالي مليون وخمسمئة ألف نسمة، وتحولت بعد الحرب إلى وجهة رئيسية للنازحين، إذ بلغ عدد السكان فيها حوالي 6 مليون نسمة، قبل استعادة الجيش لولايتي الجزيرة وسنار.

وتكافح وزارة الصحة في ولاية الخرطوم لاستعادة بعض المستشفيات، بميزانية محدودة، وسط بيئة تفتقر للخدمات الأساسية. ومع ذلك تمكنت الوزارة من إعادة افتتاح بعض المستشفيات. ولكن تظل الخدمات في حالة نقص مستمر، نظراً للوضع العام غير المستقر، كالنقص الكبير في الكوادر الطبية. لكن لا تزال عمليات الإحصاء مستمرة، وفقاً لمدير الطب العلاجي في وزارة الصحة الولائية، ومن المتوقع أن تواجه الخرطوم تحديات متصاعدة، إذا ما شهدت موجات عودة طوعية بشكل أكبر.

______________________

*الفيديو والصور الواردة في هذا التحقيق خاصة بالسفير العربي.

·

مقالات من السودان

التغريبة السودانية: عن رحلات العودة بين ضفتي النيل

رباب عزام 2025-11-08

تستمر "التغريبة السودانية" في رسم مصير العائدين، الذين يغادرون القاهرة مثقَلين بضغوط الغلاء والأزمات الاقتصادية، ليواجهوا وطناً لا تزال ملامحه غير واضحة، بين سيطرة واستعادة. وبينما تحرِّكهم دوافع اقتصادية قاهرة...

للكاتب/ة