إعداد وتحرير: صباح جلّول
"نحن العائدون!
نحن أصحاب الأرض.
نحن أصحاب الحقّ.
هذه عودة هائلة! عودة كبيرة للغاية.
مرحبا جميعاً. أنا بيسان من غَزّة، وهذا هو أفضل وقتٍ لأقول لكم: إنني ما زلتُ حَيّة!
إنه العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2025، وها أنا أوثّق عودة شعبي، مجدداً.
هذه هي المشاهد المقدّسة التي حاولوا طمسها عندما أجبرونا - عندما عذّبونا - لنضطر للهرب من بيوتنا في الشمال والذهاب جنوباً من جديد على مدى الأشهر الماضية، لكنهم فشلوا".
"هذه هي عودتنا الثانية، وأنا لم أرَ ولم أسمع في حياتي عن شعبٍ هُجّر وعاد مرّتين في سنةٍ واحدة، سِوى الشعب الفلسطيني.
هذا هو الاتجاه إلى الشمال، وهذا هو شَعبي خلال الساعات الأولى لعودته. وهذا هو الجنوب هناك.
في المرّة الأولى التي عدنا فيها، بعد 15 شهراً من النزوح القسري، علقتُ في السيارة لمدة 30 ساعة على الطريق في الزحمة الشديدة، وتمّ تفتيشنا من قوات دولية، فقط لنعود إلى مدينتنا.
هذه المرة، اخترتُ البقاء في مدينة غزّة، والآن أوثّق عودة الناس، بدون تفتيش، بدون طوابير، أحراراً.
لا ينبغي أن يعيش أحدٌ هذه المآساة، لا ينبغي أن يُجبَر الناس على النزوح بعد تعذيبٍ يجبرهم على الرحيل، ليعودوا فقط إلى ركام بيوتهم، ليعودوا تحت الشمس، حفاة، بعد سنتين من الإبادة.
لكن نحن الآن نعود. هذه هي المشاهد المقدّسة التي حاولوا أن يمحوها من ذاكرتنا.
هذه هي المشاهد التي حاولوا أن يلغوها من التاريخ، بعد أن هزّتْ عودتنا الأولى كيان "إسرائيل".
هذه هي المشاهد! ردّاً على الذين حاولوا جاهدين أن يقنعونا بأنهم لا يُهزَمون.. مشاهد لشعبنا يعود للمرة الثانية، بالروحية نفسها.
نعم، إنهم يعلمون أنهم يعودون إلى مدينة مقصوفة أو مدمرة. نعم، إنهم يعلمون أنها ليست عودةً إلى الأراضي التي سُلِبت منهم في 1948. لكنهم متأكدون من أنهم بحاجة لهذه العودة.
لم يكن ينبغي أن يعيش الغزيّون كل هذا – ولا لأحد أن يعيش مثله. لكن إذا فُرِض علينا هذا الأمر، فسنعود كما ينبغي لنا، برؤوس مرفوعة، جاهزين لما سيأتي، عائدين.
عودة مقدّسة.. إلى المدينة، إلى قلب غزة".

تأتي هذه الكلمات من فيديو صوَّرته حكواتية غزة، الصحافية بيسان عودة، التي عوَّدتنا طوال فترة حرب الإبادة الإسرائيلية على بدء كل مقطع مصوَّر لها بجملة: "مرحبا جميعاً، أنا بيسان من غزّة، وما زلتُ حيّة" – كأنّ العادي في حياة الغزّي أن يكون احتمال موته بين يومٍ وآخر هو المنطقي والمتوّقع والمرَجَّح. هكذا كان الأمر على مدى سنتين ونيف، إلى أن أعلِن وقف إطلاق النار يوم العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2025.
"حكواتيّة" غزّة والحكاية الأساس..
29-03-2024
لا، لم تتوقف الإبادة بمجرد إعلان وقف إطلاق النار. هي مستمرة، لأن الاحتلال حرص على توفير كلّ أسبابها، مبيداً القطاع الصحي والتعليمي والعمراني والبيئي، وتاركاً في الأجساد ندوباً وبتراً وآثار الجوع المزمنة وشتى الآلام النفسية والجسمانية – ولهذا كله نعلن: لن ننسى ولن نغفر...
يعرف الغزيون كلّ هذا، ولكنهم يتنفسون صعداء اليوم التالي: يوم بلا قصف، بلا زنّانات، بلا مجاعة، بلا تسارع إلى مكان القصف بحثاً عن الأحباب، بلا دم على الرمل والطحين والرصيف. ويوم عودة.
عودة ثانية: من الجنوب إلى الشمال، وبالنسبة لـ1968 أسيراً فلسطينياً[1]، من السجن إلى الحرية.
بكلمات بيسان، وصور العائدين من معتقلات التعذيب الصهيونية، نلقي نظرة على يوم غزّة "التالي"، بفرحه الممزوج بالأسى والدمع.
نظرة ودمعة إلى الأم في غزة التي انتظرت ولدها بقطعة من الشوكولاتة تتحرّق لإطعامه إياها بيدها، لأنها تعلم أن الاحتلال لم يُطعم الأسرى إلا الفتات في السجن، ليقول لها عند رؤيتها: "أنتِ السكر، أنتِ الشوكولاتة يا أمي".
نظرة إلى الأسير المحرر محمود العارضة في الضفة، بطل عملية نفق الحرية الذي حفره الأسرى بملعقة، وهو يأكل أول طبق طعام بعد الحرية بملعقة، قائلاً: "هذا أول لقاء بيني وبين الملعقة بعد فراق طويل، بعد حوالي 4 سنوات".
نظرة إلى الأسير المحرر الروائي باسم خندقجي، الذي فاز بجائزة "بوكر" الأدبية الرفيعة عن روايته "قناعٌ بلون السماء" وهو في الأسر، يحتضن مؤلفاته بعد أن تحرر من سجون الاحتلال.

نظرة على الأسير الغزي المحرر محمود أبو غبيط، الذي أنشد عندما رأى غزّة وأهله: "سكابا يا دموع العين سكابا.. عاللي صار بغزّة وشبابا"، فيما والدته تمسح على صدره وكتفيه بيدها غير مصدِّقة.
نظرة إلى الذي صُعق بأهله أحياء بعد أن قال له الجنود القذرون إنهم قتلوا أولاده وزوجته وعائلته، ونظرة إلى الذي اعتقد أنهم أحياء ووجد منهم شهداء..
نظرة إلى أخي صالح الجعفراوي الذي قُتل أخوه قبل يوم واحد من خروجه، ونظرة إلى أبيه الذي دفن ولده أمس واستقبل ولده المحرر في اليوم التالي.
غزة فوق العالم
09-09-2025
نظرة إلى الذي سأل: "وين غزّة؟ هاي مش غزة! هاي مش الناس!"، ونظرة إلى الذي قال "سنتين وأنا جعان. أنا طلعت من هون جعان وانسجنت جعان وطلعت جعان"، ونظرة إلى الذي قال مكسور القلب: "نحنا طلعنا بس ألوف داخل السجن، ظروفهم سيئة جداً جداً"...

ودموع وخشوع أمام كل مشاهد القبلات والأحضان، إلى الأيدي الممتدة إلى نوافذ الباصات، تحمل الأطفال المشتاقين إلى آبائهم قبل أن يدركوا الأرض.
غزّة متعبة في اليوم التالي، تحزن في فرحها. لكنّ اليوم التالي لها. كما قال الدكتور غسان أبو ستة في ذروة أيام الإبادة البشعة: "إن اليوم التالي هو يوم فلسطيني".
________________________________
- - 250 أسيراً فلسطينياً محكومين بالسجن المؤبد والأحكام العالية، ومن هؤلاء أسرى من الضفة الغربية، و1718 أسيراً خُطفوا من قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر 2023. ↑