يُخيِّم على العالم شبحٌ من السواد الخانق. فعلى الرغم من رفض أغلب البشر للمذبحة الجارية بوحشية نادرة المثال في غزة منذ عامين، واحتجاجاتهم المتصاعدة والمتسعة، يخالج الجميع شعور بالعجز، وبأنه ليس أمامهم من أفق لتغيير ما هو قائم اليوم. إذ ليس بين أيديهم وفي خيالهم السياسي أدوات لتحقيق ذلك. وكانت قد أضيفت إلى الإفقار والقمع، كأدوات تقليدية مستعمَلة للضبط، استراتيجيات مدروسة للتيئييس، كما أضيف الخوف.. ملايين تَضرب بأرجلها الشوارع في كل أنحاء العالم، عرائض، مواقف جماعية جميلة تنتشر، ولكن الذين يقررون مجريات الأمور كما تُمارَس اليوم، لا يأبهون. هم أيضاً يستمرون.
غزة: لن ننسى ولن نسامح
26-06-2025
لم تولد فجأة هذه الحال التي تعيشها البشرية اليوم في كافة الميادين، السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والفكرية. لم تولد مع الحرب الإبادية على غزة، الدائرة منذ عامين بوحشية نادرة. تراكَم رويداً رويداً، وخلال عقود، التحوّل إلى هذا العالم الجديد، الذي يبسط اليوم جناحيه. كان الماضي يحمل بذاره، ولكنها كانت مقنَّعة، أو كانت تعيش إلى جانبها آمال وأحلام أخرى، مؤمنة بالرخاء والتقدم والمساواة... ثم جاءت غزة لتكون العلامة التامة على المرحلة التاريخية الجديدة في مسار البشرية.
غزة تُباد أمام أعين العالم كله، بالصورة، والصوت، بشكل فوري مباشِر.
ولا أحد يتمكن من إيقاف ذلك: الشعوب المستنكِرة، المتعاطفة مع فلسطين وغزة، المتألمة، تقول عن نفسها إنها عاجزة، وأولها الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
وهناك من لا يريد: وهذا يخص كل السلطات في الغرب الاستعماري، وفي البلدان العربية التابعة، التافهة.
نحن أمام قطيعة، متجددة ومتداخلة. قطيعة عنوانها غزة، والحرب الإبادية عليها التي تقودها إسرائيل. وهذه تتصرف كسيدة على هذا العالم الجديد، الذي يولَد أمام أعيننا المذهولة، تماماً كما تصرفت حثالات أوروبا من المجرمين واللصوص والقتلة، الذين تخلص منهم أسيادهم – واستخدموهم – في غزو العوالم الجديدة ونهبها واستعبادها: في الأمريكيتين، وفي أفريقيا، وفي جنوب شرق آسيا، وفي أستراليا... كانوا رعاعاً يُؤطِّرهم السادة والقادة العسكريون، وتمنحهم السلطات الدينية بركاتها...
وكما في الإبادة التاريخية للسكان الأصليين في أمريكا، على مدى ثلاثة قرون، بعد "اكتشافها" وغزوها، أو إبادة سكان خليج البنغال في الزمن نفسه، طمعاً بالاستيلاء على أراضٍ خصبة، فإن في تحريك الناس من مكان إلى آخر في قطاع غزة، بلا هوادة، وفي قصفهم وقتلهم في ما يقال لهم إنها ممرات آمنة، وفي استخدام قنابل تُوازي بأضعاف مضاغفة تلك النووية التي استُخدِمت في هيروشيما، تُلقى على الخيام... في ذلك كله أمثلة إضافية على المعنى المراد الإعلان عنه، وعن الهدف المقصود الوصول إليه.
وكما كان العام 1492 – و"اكتشاف أمريكا" - منعطفاً في تاريخ العالم، أسس للنظام الرأسمالي كما عرفناه خلال خمسة قرون، فإن ما يجري اليوم في غزة (وبعدها في كل فلسطين، وبعدها في المنطقة المحيطة بفلسطين - انظروا خرائط المجرم نتنياهو)، هو منعطف، ولحظة قطيعة مع كل ما اعتدنا عليه.
حرب الإبادة في غزة، الجارية اليوم، هي عنوان افتتاحي للعصر الجديد، لرأسمالية غير إنتاجية، ريعية ونهّابة فحسب، تُعنى بأقلية قليلة من البشر، فيما ترى الآخرين فائضين عن الحاجة.. وهذا التحوّل يُفسّر انحطاط أحزاب البرجوازية التقليدية في الغرب كله، وابتذالها الكبير، وفراغها من أي معنى، وغياب أية شخصية قيادية من بين صفوفها، بحيث أن قادتها الذين يتبوؤن مناصب في السلطة يبدون مبتذَلين، وأقرب إلى المهرِّجين. وفي هذا الصدد أيضاً، يمكن إدراج المماحكات حول المناخ الذي يَستكمل ترديه بفعل سلوك المتنفذين وجشعهم، مع أنه يهدد وجود الحياة على الأرض، كما إهمال الصحة العامة وشيوع الغش الصريح في مؤسساتها، حين لا تتعرض للغش الصريح، وكما الانحدار المتعاظِم في التعليم... وهذه بعض ملامح هذا العصر الجديد.
ويمكن الإضراب وتسيير المظاهرات، العارمة أحياناً – ومن أجل غزة كانت عارمة فعلاً، وهو استثناء - والاستمرار في الصراعات بين أحزاب اليسار في كل مكان من العالم، والتفاخر بمنجزات نقابية، هي فتات (هذا حين يجري تحصيلها)... ولكن هذا كله ينتمي إلى الماضي، فكرياً وعملياً. لقد تغيّرت المعادلة، ونحن ساهون، وكأننا من أهل الكهف.
هل من حاجة إلى دلائل إضافية، علامات على العصر الجديد؟ ها قد سقطت في حرب غزة كل الاعتبارات الإنسانية، أو القيم التي كان متوافَقٌ عليها، منذ ما سمي "عصر الأنوار" ذاك، بغض النظر عما كان يشوب تلك الاعتبارات والقيم ــ هي نفسها ــ من نواقص وانحرافات عن المبادئ العامة المعلَنة.
الأمر لا يتعلق بغزة أو بفلسطين فحسب
09-02-2024
صارت المشاهد فجّة. فلا الحكام العرب – جميعهم - يخجلون أو يُدارون، بينما يتبجح ترامب بتأييده لكل مخططات قادة إسرائيل. ويكذب الجميع بلا تردد، فينكرون التجويع في غزة، ويُمعِنون، إذ يقيمون الولائم. وليس هذا موقف الرئيس الأمريكي فحسب، الصريح والواضح، بل هو موقف كل السلطات الغربية، أو الكبرى منها على الأقل، التي تمارِس الخبث والرياء وتتشدق بما ليس عندها، التي، حين تفاقمت مذبحة غزة المريعة، واستطالت، استنكرت بخجل، ولكنها لم ولن تفعل شيئاً. والأعذار كثيرة: الاعتداد بموقف السلطة الفلسطينية المُشين، الاعتداد بموقف السلطة المصرية المُشين، ومعهما مجمل الدول العربية النافذة، وبعضها يساند ويدعم إسرائيل عملياً وعلناً، بالسلاح والمؤن والمال، علاوة على التصريحات الوقحة التي تدفع إلى الجنون، بينما بعضها الآخر لم يتخِذ موقفاً ضاغطاً عليها، فيما هو يملك أوراقاً جدية للضغط، كاللجوء إلى ما هو أضعف الإيمان، أي وقف المبادلات التجارية معها، أو تجميد اتفاقيات التطبيع، على سبيل المثال.
شركاء في الإبادة! يتمنون لو تتحقق اليوم قبل غدٍ، فتُطْمَر غزة وناسها فعلاً، محقِّقة ما حلم به في العام 1992 – قبل عام من اتفاقيات أوسلو! - رئيس الحكومة الإسرائيلية وقتها، إسحق رابين: "أتمنى أن أستيقظ من النوم ذات يوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر"...
لقد انقلبت الدنيا في المنطقة العربية بعد نكبة 1948. وزالت سلطات، وجاءت سواها بخطابات ونوايا ومواقف نقيضة لها. وتلك كانت لحظة مُعبِّرة، بغض النظر عما آلت إليه فيما بعد. أما هنا، فلا شيء. لقد اشتُغِل بثبات ومنهجية، وبوسائل شتى، على تعويد الناس على الذل والخسران، والرضى بالخنوع، والتلهي بتوافه الأمور، واستُخدِم لذلك – علاوة على الإفقار والقمع والتيئييس والتخويف وتشجيع النسيان - ضرب التعليم، ومحق الإعلام، ومنع المآذن من النطق بكلمة واحدة عن غزة، وتسفيه القيم والمبادئ والسخرية منها، وإشاعة الابتذال، وتعزيز التناحرات الطائفية والمذهبية والجهوية... وجرت رشوة كبار الضباط في الجيوش العربية بالمال والامتيازات والمناصب... أو تسليط سيف الخوف على رقابهم، مع إلغاء كل الأصول والضوابط والأطر، ومع تسييد الاعتباط في جميع القرارات.
غزة فوق العالم
09-09-2025
هذه غزة. هذا ما تقوله لنا، مجسِّدة كل البؤس الذي ترزح اليوم في ظله البشرية جمعاء. ولولا "حدث 7 أكتوبر"، لكان قد اتُخِذ حدث آخر – أو فُبرِك حدث أخر، بالكذب والدلائل الوهمية: تذكروا الروايات أو الـ"ستوري تيلينغ"، التي أحاطت بالعراق قبل الغزو الاستعماري له.
لذا، فإن لم يكن اليوم، فغداً: لا نجاة للعالم من العبودية المتجدِّدة، من دون نجاة غزة. تلك هي البوصلة.