تغلغل إماراتي في موانئ القاهرة.. استثمار أم إعادة تشكيل للنفوذ البحري؟

هل تزايد النفوذ الإماراتي في الموانئ المصرية مجرد توسع استثماري، أم هو إعادة هيكلة للمشهد البحري المصري، في ظل صفقات امتياز طويلة الأجل، تثير الجدل حول التوازن بين جذب الاستثمار وضمان السيادة الاقتصادية. والسؤال المحوري الأهم يدور حول ما إذا كانت هذه الاتفاقيات تدفع مصر نحو نمو اقتصادي حقيقي، أم أنها تفرض واقعاً جديداً، يتحكم فيه الفاعلون الخارجيون - وعلى رأسهم أبناء زايد - داخل قطاع الموانئ الحيوي؟
2025-06-19

رباب عزام

صحافية من مصر


شارك
الموانئ البحرية المصرية التجارية، الموقع الرسمي لقطاع النقل البحري المصري

في 5 أيار/ مايو المنصرم، أعلنت القاهرة عن تفاصيل الاتفاقية الموقعة بين الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، ومجموعة موانئ أبوظبي الإماراتية، المملوكة للصندوق السيادي الإماراتي[1]، لتطوير وتشغيل منطقة صناعية ولوجستية، "كيزاد شرق بورسعيد"، على مساحة 20 كيلومتراً مربعاً.

ما يثير الجدل في تلك الصفقة، أن المشروع يقام على ثُلث المساحة المخصصة للمنطقة الاقتصادية لشرق بورسعيد، والبالغة 64 كيلو متراً مربعاً، عند مدخل قناة السويس الشمالي، ويتضمن عقد انتفاع ممنوحاً للإمارات يمتد إلى حوالي 50 عاماً قابلاً للتجديد، تحصل مصر بموجبه على 15 في المئة فقط من أرباح المشروع طوال المدة المحددة (يذكر أن ميناء شرق بورسعيد تبلغ مساحة الحيود البحري[2] عنده صفر ميل بحري، ما يمنحه قدرة تنافسية أعلى في جذب الخطوط الملاحية الكبرى، مقارنةً بموانئ الإقليم الأخرى، كما أنه يُعدّ أهم موانئ المنطقة في تداول الحاويات، وذلك بحسب دراسة لمركز البحوث والاستشارات لقطاع النقل البحري واللوجستيات).

أثار الإعلان موجة غضب على وسائل التواصل الاجتماعي، واتهامات موجهة إلى طرفي الصفقة (حكومتي القاهرة والإمارات) بسبب ما اعتبر سياسات التنازل عن حقوق السيادة الاقتصادية، خاصة في المناطق الاستراتيجية، التي تنتهجها حكومة القاهرة، عبر اتفاقات امتياز طويلة الأجل، علاوة على محاولات حكومة الإمارات، التي يبدو أنها تسعى إلى السيطرة على موانئ مصر التجارية، البالغة 19 ميناء، عبر ذراعيها (مجموعة موانئ أبوظبي، ومجموعة موانئ دبي)، في منافسة إماراتية-إماراتية. وقد سيطرت أبوظبي بالفعل، عبر شراكات متتالية، على 6 موانئ في منطقة البحر الأحمر: موانئ سفاجا، والغردقة، والعين السخنة، وشرم الشيخ، والأدبية، وشرق بورسعيد، إضافة إلى أعمالها في ميناء العريش، وأبوقير الجديد، والإسكندرية. هذا إلى جانب صفقات أخرى تتعلق بالموانئ الجافة، وخدمات الشحن، والتفريغ، وسلاسل الإمدادات.

في المقابل، روّجت حكومة القاهرة للصفقة، باعتبارها استثماراً جيّداً ومربحاً، حين ذكر رئيس الحكومة مصطفى مدبولي، في مؤتمر صحافي أن الاتفاقية ليست استثناءً، إذ سبق أن وُقِّعت اتفاقات مماثلة مع 14 مطوِّراً صناعياً في مناطق أخرى، بهدف إقامة مصانع وتشغيل عمالة مصرية، وأنها بمثابة دعم للاقتصاد الوطني المصري، من دون أن يُفصح عن أي بنود إضافية خاصة بالاتفاقية.

يدفع المشهد إلى التساؤل عن مدى تأثير هذه الصفقات على الاقتصاد المصري. هل تمثل هذه الاتفاقيات دفعة للنمو الاقتصادي، أو أنها تكشف عن تحولات في سيادة مصر على مواردها الحيوية؟ فما الذي يحدث بالتحديد؟

صفقات الموانئ المصرية مع الإمارات

تُعد الموانئ البحرية المصرية من أبرز المراكز اللوجستية في المنطقة العربية. وبحسب البيانات الرسمية، تمتلك مصر 19 ميناءً بحرياً تجارياً على البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، موزعة على موانئ تابعة لوزارة النقل، وأخرى تابعة لهيئة قناة السويس، وموانئ تابعة للقوات المسلحة.. وهناك 36 ميناء تخصصياً تتوزع على 16 ميناءً بترولياً، و6 موانئ تعدينية، و6 موانئ سياحية، و 6 موانئ صيد، و2 من الموانئ ذات الطبيعة الخاصة.

ولطالما شكّلت الموانئ المصرية نقطة جذب للاستثمارات الأجنبية، خاصة مع موقعها الاستراتيجي المطل على البحرين الأحمر والمتوسط، إلا أن وتيرة الشراكات الدولية تسارعت بشكل ملحوظ منذ العام 2017، مع تزايد الاستثمارات الخليجية، خاصة الإماراتية، في هذا القطاع الحيوي. ومن بين المجموعات التي توسَّعت في مصر، موانئ دبي العالمية التي كانت قد استحوذت سابقاً على نسبة 90 في المئة من ميناء العين السخنة، في حين بدأت مجموعة موانئ أبوظبي مؤخراً في تكثيف نشاطها، عبر اتفاقيات جديدة، تثير تساؤلات عن طبيعتها وأهدافها على المدى الطويل.

استحوذت "دبي" على حصة بلغت 90 في المئة من شركة تطوير ميناء السخنة، بصفقة قيمتها 670 مليون دولار، فيما احتفظت "أميرال القابضة المحدودة''، التي كانت تدير الميناء حينها، بالحصة المتبقية· كانت تلك الصفقة الأولى للإمارات في السوق البحري المصري، لكنها أثارت جدلاً واسعاً، إذ سبقتها اتهامات متعلقة بالفساد، طالت مسؤولين في الحزب الوطني في السويس، ظهر فيها اسم جمال، النجل الأكبر للرئيس مبارك.

على الرغم من أن المجموعة الاماراتية لم تلتزم ببنود الاتفاقية الخاصة بتطوير ميناء السخنة، إلا أن المصريين تفاجأوا في آب/ أغسطس من العام 2017، بالإعلان عن موافقة الرئيس عبدالفتاح السيسي على تأسيس "شركة تنمية رئيسية" مشتركة في مشروع تنمية قناة السويس (ويشمل 4 موانئ كبرى)، بين الهيئة العامة الاقتصادية لمنطقة قناة السويس، ومجموعة موانئ دبي العالمية 

البداية كانت مع ميناء السخنة في مطلع العام 2008، حين أُعلن عن إبرام صفقة بين مجموعة موانئ دبي العالمية وشركة تطوير ميناء السخنة، المملوكة حينئذٍ لرجل الأعمال الفلسطيني أسامة الشريف، بحضور رئيس حكومة مبارك وقتئذٍ أحمد نظيف. ووفق الاتفاقية، استحوذت "دبي" على حصة بلغت 90 في المئة من شركة تطوير ميناء السخنة، بصفقة قيمتها 670 مليون دولار، فيما احتفظت "أميرال القابضة المحدودة''، التي كانت تدير الميناء حينها بالحصة المتبقية·

كانت تلك الصفقة الأولى للإمارات في السوق البحري المصري، لكنها أثارت جدلاً واسعاً، إذ سبقتها اتهامات متعلقة بالفساد، طالت مسؤولين في الحزب الوطني في السويس، ظهر فيها اسم جمال، النجل الأكبر للرئيس مبارك. فقد حصلت الشركة ومالكها على عقد امتياز ممتد لربع قرن في العام 1999، بموجبه كان له الحق في احتكار ميناء السخنة لصالحه[3]. وتضمن العقد بنوداً مجحفة، على رأسها بند الأولوية الاحتكاري، الذي كان يُلْزِم هيئة موانئ البحر الأحمر بالحصول على موافقة الشركة من أجل طرح أية موانئ أو محطات على البحر الأحمر للغير. لكن الحكومة تمكنت في العام 2008 وقبيل ظهور الإمارات كلاعب على الساحة، من إلغاء البند الاحتكاري، ما أدى إلى إسراع مالك الشركة في بيعها لموانئ دبي، وبحضور ممثلي حكومة القاهرة.

ووفق الصفقة، كان على موانئ دبي إنشاء رصيف بطول 1300 متر وغاطس 16 متراً لاستيعاب مليوني حاوية مكافئة سنوياً. لكن هذا لم يحدث حتى العام 2021، حينما تصاعدت أزمة تأخير عمليات إنزال الحاويات وتشغيل الميناء، وعدم وجود مساحات متاحة للحاويات التي يستقبلها الميناء يومياً، والتي بدت متعمدة، لإجهاض مشروع الميناء الواعد، ما كلّف كثيراً من المستورِدين المزيد من الغرامات، وتأخير باقي الإجراءات الجمركية على الحاويات. وبحسب شهادات منشورة وقتئذٍ في تقارير صحافية، فإن ميناء السخنة، المخصص لتداول الحاويات وتفريغ المراكب، عانى من تكدس شديد، بسبب تعمد شركة موانئ دبي عدم إحلال الأوناش وتجديدها، ما عرقل إنزال الحاويات وإتمام الإجراءات في الوقت المحدد. هذا التأخير أدى إلى تجاوز مدة السماح، فسمح للتوكيلات الأرضية التابعة لشركات أجنبية بفرض غرامات دولارية على أصحاب الشأن. دفع ذلك الحكومة المصرية إلى الإعلان عن إنشاء 3 أرصفة جديدة في الميناء لحل الأزمة.

وعلى الرغم من أن المجموعة لم تلتزم ببنود الاتفاقية الخاصة بتطوير ميناء السخنة، ما أدى إلى وجود توترات بين القاهرة وموانئ دبي العالمية (بعد اتهامها بإعاقة تطوير الميناء لصالح مشروع جبل علي)، إلا أن المصريين تفاجأوا في آب/ أغسطس من العام 2017، بالإعلان عن موافقة الرئيس عبدالفتاح السيسي على تأسيس "شركة تنمية رئيسية" مشتركة في مشروع تنمية قناة السويس (ويشمل 4 موانئ كبرى)، بين الهيئة العامة الاقتصادية لمنطقة قناة السويس، ومجموعة موانئ دبي العالمية التي بموجبها تُسهِم المنطقة الاقتصادية لقناة السويس بـ 51 في المئة وموانئ دبي بـ 49 في المئة. على أن تتولى الشركة بناء منطقة صناعية ولوجيستية وتجارية متكاملة، تشمل كل الخدمات والمناطق السكنية والترفيهية في منطقة قناة السويس الاقتصادية، بما في ذلك تطوير مساحة 95 كيلو متراً غرب خليج السويس، تمثل نسبة 21 في المئة من مجمل مساحة المنطقة الاقتصادية البالغة 461 كيلو متراً. وهذا وضع علامات استفهام حول الاتفاقية وتوقيتها، خاصة وأن المنطقة الاقتصادية لقناة السويس هي المنافس الأول، وربما الوحيد لمنطقة جبل علي الإماراتية، التي تديرها شركة موانئ دبي نفسها، ومن غير المنطقي وفق محللين أن تعمل دبي على تطوير منطقة منافِسة لها في إقليم الشرق الأوسط، قد تشاركها الأرباح التي تحصدها من السفن العابرة سنوياً.

إضافة إلى ذلك، تصاعدت المخاوف بعد توقيع المجموعة الإماراتية اتفاقيات لتطوير موانئ إقليمية منافِسة للقاهرة، مثل ميناء بربرة في أرض الصومال، الذي تولت إدارته في العام 2017 (يقع على ممر بحري من الأكثر استخداماً عالمياً، ويربط بين قناة السويس والمحيط الهندي). وفي العام التالي، وَقّعت مع كل من حكومتي أرض الصومال المنشقة وإثيوبيا، اتفاقاً، لتصبح أديس أبابا شريكاً استراتيجياً في الميناء بنسبة 19 في المئة. وهذا أثار تساؤلات عن نية أبوظبي حيال القاهرة، خاصة وأن أديس أبابا في أزمة عنيفة مع مصر بسبب ملف سد النهضة ومياه النيل. أيضاً، قدمت المجموعة في العام 2020، بالتعاون مع شركة "أحواض بناء السفن الإسرائيلية"، عرضاً لحكومة الاحتلال لخصخصة ميناء حيفا، بعد توقيعها مذكرات تفاهم مع شركة "دوفر تاور"، التي يمتلكها شلومي فوغيل، الشريك في "أحواض بناء وإصلاح السفن" الإسرائيلية وميناء إيلات، (تشمل مذكرات التفاهم التعاون في تطوير الموانئ التابعة للاحتلال، إضافة إلى إنشاء مناطق حرة، وإطلاق خط ملاحي مباشر بين مينائي إيلات وجبل علي. كما تتضمن تسهيلات جمركية في التجارة بين المؤسسات الخاصة لدى أبوظبي وتل أبيب)، ما أثار تحفظات بشأن تأثير تلك التحركات على المصالح البحرية المصرية.

امتداد السيطرة الإماراتية: من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر

لم تكتفِ أبوظبي بما استحوذت عليه موانئ دبي العالمية على ساحل البحر الأحمر منذ العام 2008، فبعدما تراجعت الثانية عن المشهد قليلاً، بعد اتهامات بعرقلة التنمية في موانئ مصر، فكّرت في بديل سريع، ونجحت في العام 2021 في توقيع عقد شراكة بين "اعتماد القابضة" الإماراتية، التابعة لجهاز أبوظبي للاستثمار، وحكومة القاهرة، بشأن المشاركة في تدشين مدينة أبو قير الجديدة على ساحل البحر المتوسط، في الإسكندرية شمالي البلاد، باستثمارات تتجاوز 12 مليار جنيه. كان على رأس الأهداف المعلَنة للحكومة المصرية أن يتم بناء أكبر ميناء بحري تجاري في الإقليم، في المدينة الجديدة التي أُعلنت كأول مدينة من الجيل الخامس في مصر، ما أثار تساؤلات عن نية الإمارات، في المشاركة للسيطرة على الميناء الوليد مستقبلاً ضمن خططها غير المعلنة!

قدَّمت المجموعة الاماراتية في العام 2020، بالتعاون مع شركة "أحواض بناء السفن الإسرائيلية"، عرضاً لحكومة الاحتلال لخصخصة ميناء حيفا، بعد توقيعها مذكرات تفاهم مع شركة "دوفر تاور"، التي يمتلكها شلومي فوغيل، الشريك في "أحواض بناء وإصلاح السفن" الإسرائيلية وميناء إيلات.

لم تكتف الإمارات بمحاولة الاستحواذ على ميناء أبو قير الجديد، لكنها نجحت في كانون الثاني/ يناير الفائت، في توقيع مذكرة تفاهم أولية لاستكشاف فرص تطوير وإدارة وتشغيل منطقة لوجستية متكاملة، تمتد على مساحة 1.1 كيلو متراً مربعاً، في ميناء الإسكندرية، وهو الميناء الذي يمر من خلاله حوالي 60 في المئة من التجارة الخارجية لمصر، وفقاً للأرقام الحكومية، وذلك من خلال مجموعة موانئ أبوظبي. ما يعزز نفوذ الإمارات في الموانئ الاستراتيجية الواقعة على البحر المتوسط.   

وفي آذار/ مارس من العام 2023، أعلنت مجموعة أبوظبي عن توقيع اتفاقية امتياز لمدة 30 عاماً مع الحكومة المصرية، ممثلة في الهيئة العامة لموانئ البحر الأحمر، لتطوير وتشغيل ميناء سفاجا، إضافة إلى اتفاقيتين مع الهيئة العامة لتنمية المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، لمدة 15 عاماً، لإنشاء محطتين في ميناء العريش وميناء غرب بورسعيد، لمناولة الإسمنت السائب، باستثمارات تصل إلى مليار جنيه مصري، ومذكرة تفاهم وثلاث اتفاقيات مبدئية تشمل موانئ مصرية، تطل على البحرين الأحمر والمتوسط (أعلن عن التفاوض بشأنها في حزيران/ يونيو من العام 2024)، إلى جانب إنشاء صوامع بسعة تخزينية تصل إلى 60 ألف طن في ميناء العريش، و30 ألف طن في ميناء شرق بورسعيد، شريطة ألا تواجه المجموعة أية مخاطر تتعلق بتقلب أسعار العملات، إذ يتم تحويل جميع الإيرادات إلى الدولار.

لم تكتف الإمارات بمحاولة الاستحواذ على ميناء أبو قير الجديد، لكنها نجحت في كانون الثاني/ يناير الفائت، في توقيع مذكرة تفاهم أولية لاستكشاف فرص تطوير وإدارة وتشغيل منطقة لوجستية متكاملة، تمتد على مساحة 1.1 كيلو متراً مربعاً، في ميناء الإسكندرية، وهو الميناء الذي يمر من خلاله حوالي 60 في المئة من التجارة الخارجية لمصر، وفقاً للأرقام الحكومية، وذلك من خلال مجموعة موانئ أبوظبي... ما يعزز نفوذ الإمارات في الموانئ الاستراتيجية الواقعة على البحر المتوسط.

وبحسب الموقع الرسمي للمجموعة، فقد ذكرت أنها خلال 3 سنوات فقط، استطاعت تعزيز وجودها في السوق المصرية، باستحواذها على شركات "ترانسمار" و"تي سي آي" (المسؤولة عن تشغيل خط حاويات يعمل في مناطق الشرق الأوسط، والبحر الأحمر، والخليج العربي، والساحل الشرقي للقارة الإفريقية) في العام 2022، و"سفينة بي في". علاوة على اتفاقيات امتياز طويلة الأجل، لتطوير وتشغيل محطات للسفن السياحية، وكذلك بناء وتشغيل ميناء متعدد الأغراض في سفاجا، ومحطة سفن الدحرجة في العين السخنة.

التداعيات الاقتصادية والسيادية: أين تقف مصر؟

المراقِب للمشهد الحالي، يتساءل عن التداعيات الاقتصادية والسيادية لتلك الصفقات. يبرز التساؤل الأكبر عن غياب المنافسة في إدارة الموانئ، إذ لم تُمرَّر تلك الصفقات في الغالب عبر مزايدات دولية، وهو ما أثار تساؤلات حول إمكانية تحقيق مكاسب أفضل للدولة، من خلال منافسة شركات أخرى غير إماراتية على تلك الامتيازات.

ففي أيار/ مايو من العام 2022، أعلن رئيس الحكومة "مدبولي" عن دمج أكبر سبعة موانئ مصرية في شركة واحدة وطرحها في البورصة، ضمن وثيقة مُلْكية الدولة، وهو ما أكده وزير النقل حينها، كامل الوزير، حين ذكر أن القاهرة تعمل على تأسيس الشركة القابضة للموانئ. لكن سياسة السلطة أثارت شكوك المصريين في تقاطع الإعلان عن طرح الموانئ في البورصة مع بدء توقيع القاهرة لاتفاقات مع شركة موانئ أبوظبي الإماراتية، ونية السلطة في مصر عقد صفقات بيع أصول تلك الموانئ لصناديق سيادية خليجية وعلى رأسها الإمارات، من دون طرحها في مزادات "حقيقية". وكان صندوق أبوظبي السيادي قد استحوذ بالفعل، في نيسان/ أبريل 2022 على 32 في المئة من أسهم شركة الإسكندرية لتداول الحاويات، ضمن صفقة تضمنت حصصاً في 5 شركات مقيّدة ببورصة مصر، مقابل حوالي 1.8 مليار دولار.

وفق المشهد الحالي، يتساءل المصريون عن التأثير المحتمل على قناة السويس، مع توسّع الإمارات في بورسعيد والموانئ القريبة من القناة، ويخشون من تحوّل الإدارة البحرية إلى هيمنة غير مباشِرة، قد تؤثر على حركة التجارة عبر الممر الملاحي المصري العالمي. خاصة وأنه، وعلى الرغم من حجم الاتفاقات الضخم، لا توجد التزامات واضحة معلنة تفرض على الشركات الإماراتية تحقيق مستويات معينة من التنمية الاقتصادية داخل مصر، ما يطرح تساؤلات عن مدى استفادة السوق المصري من هذه المشروعات، ويقدم سيناريو محتملاً، يتمثل في أن تركيز الإمارات على استخدام الموانئ المصرية، ربما يأتي من استراتيجية تعمل عليها لاستخدامها كمراكز عبور للبضائع القادمة من موانئها الخاصة (مثل ميناء جبل علي)، ما يؤدي إلى تحويل التجارة إلى خارج مصر بدلاً من تعزيز الإيرادات المحلية. ويُظهِر ذلك مزيداً من القلق، خاصة أن ميناء العين السخنة، الذي تديره موانئ دبي العالمية، شهد انخفاضاً في معدلات التشغيل المحلية لصالح عمليات النقل العابر إلى الموانئ الإماراتية.

ما هي التداعيات الاقتصادية والسيادية لتلك الصفقات؟ إذ يعود التساؤل الأكبر الى غياب المنافسة في إدارة الموانئ، إذ لم تُمرَّر تلك الصفقات في الغالب عبر مزايدات دولية، وهو ما أثار تساؤلات حول إمكانية تحقيق مكاسب أفضل للدولة، من خلال منافسة شركات أخرى غير إماراتية على تلك الامتيازات. وكما هو معلوم، تسعى أبو ظبي إلى بناء نفوذ سياسي عبر سيطرتها على موانئ رئيسية في الصومال واليمن وجيبوتي، ما يمنحها دوراً مؤثراً في أمن البحر الأحمر.

على الرغم من حجم الاتفاقات الضخم، فلا التزامات واضحة معلنة تَفرض على الشركات الإماراتية تحقيق مستويات معينة من التنمية الاقتصادية داخل مصر. فما مدى استفادة السوق المصري من هذه المشروعات؟ وهل أن تركيز الإمارات على استخدام الموانئ المصرية، ربما يأتي لأجل استخدامها كمراكز عبور للبضائع القادمة من موانئها الخاصة (مثل ميناء جبل علي)، ما يؤدي إلى تحويل التجارة إلى خارج مصر بدلاً من تعزيز الإيرادات المحلية. 

وإلى جانب التأثير الاقتصادي، تحمل السيطرة الإماراتية على الموانئ المصرية أبعاداً جيوسياسية، إذ تمثل هذه الموانئ جزءاً من البنية التحتية الاستراتيجية للدولة. وبالنظر إلى النموذج الإماراتي في التوسع البحري، يتضح أن أبوظبي لا تكتفي بالاستثمارات الاقتصادية فقط، بل تسعى إلى بناء نفوذ سياسي عبر سيطرتها على موانئ رئيسية في الصومال واليمن وجيبوتي، ما يمنحها دوراً مؤثراً في أمن البحر الأحمر. لذا فإن استحواذ الإمارات على إدارة موانئ شرق بورسعيد، وسفاجا، والعريش، قد يضع مصر في موقف حساس جيوسياسياً، خاصة فيما يتعلق بأمن الملاحة البحرية والتنافس الإقليمي بين القوى الكبرى في إقليم الشرق الأوسط.

لذا، يتخوف المصريون من أن يكون تزايد النفوذ الإماراتي في الموانئ المصرية ليس مجرد توسع استثماري، بل إعادة هيكلة للمشهد البحري المصري، في ظل صفقات امتياز طويلة الأجل، تثير الجدل حول التوازن بين جذب الاستثمار وضمان السيادة الاقتصادية. ويبقى السؤال المحوري: هل هذه الاتفاقيات تدفع مصر نحو نمو اقتصادي حقيقي، أو أنها تفرض واقعاً جديداً، يتحكم فيه الفاعلون الخارجيون - وعلى رأسهم أبناء زايد - داخل قطاع الموانئ الحيوي؟

______________________

  1. - لمعرفة المزيد عن الاتفاقية، يمكن الاطلاع على الموقع الرسمي لقطاع النقل البحري المصري واللوجستيات: رئيس الوزراء يشهد توقيع اتفاقية مع موانئ أبو ظبي لإنشاء منطقة صناعة ولوجستية – قطاع النقل البحري واللوجستيات.
  2. - الحيود هي الانحرافات. ولموجات البحار حيود حول حواجز الماء والعوائق الأخرى.
  3. وفقاً للبيانات المتاحة، فإن الشركة المصرية لتداول الحاويات، بدّلت في العام 1999 اسمها إلى شركة تنمية ميناء السخنة، ونجحت في توقيع اتفاقية امتياز لمدة 25 عاماً مع حكومة القاهرة لتشغيل ميناء السخنة. وفي العام 2002، بدأت العمليات التجارية في الميناء، ليصبح أول ميناء خاص بالكامل في مصر، ولاحقاً، في العام 2008، تم دمج ميناء السخنة ضمن شبكة موانئ دبي العالمية، ليصبح جزءاً من قائمة الموانئ التي تديرها الشركة الإماراتية على مستوى عالمي، ما عزز نفوذها في قطاع النقل البحري المصري ووسع نطاق عملياتها في المنطقة.

مقالات من مصر

الساموراي الأخير

مدى مصر 2025-06-19

هكذا تحيا ليلى سويف حرة الإرادة، متسقة مع مبادئها، فعلها متسق مع ما تعتقده في صميم قلبها، رمزًا يحتذى به. هكذا تمارس الأمومة والتدريس والسياسة. بهذا المنطق، تبدو اختياراتها دائمًا...

للكاتب نفسه

تلفزيون الهامش: حكايات المهمشين في أزقة مصر

رباب عزام 2025-04-17

تمثِّل ظاهرة "تلفزيون الهامش" استجابة إبداعية وواقعية للتحديات التي تواجهها الصناعة الإعلامية التقليدية في مصر، التي شهدت تضييقاً احتكارياً وسيطرة سياسية شديدة على الإنتاج الفني والإعلامي. وتُبرِز كيف أن التكنولوجيا...

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...