عبثية الديبلوماسية الفلسطينية بين الاعتراف بالدولة ووقف الإبادة

الهدف الأكثر عجالة وحيوية ومصيرية بالنسبة إلى قضية فلسطين اليوم، أي منع التهجير ووقف الإبادة، صار غير قابل للتحقق، على الرغم من مرور سنة ونصف من القرارات الأممية، والمحاكمات الدولية، ومؤتمرات القمة والمفاوضات السرية. قد تكون تلك التطورات من المؤشرات المهمة والمشجعة للتغيير في المشهد العالمي، تجاه غطرسة إسرائيل وعنصرية عقيدتها الصهيونية، لكنها تبقى دون المطلوب والضروري والواجب، ودون أثر مباشر على تفرد إسرائيل في فلسطين وفي المنطقة.
2025-06-09

رجا الخالدي

باحث اقتصادي متخصص بالتنمية الفلسطينية


شارك
هاني علقم - فلسطين

من مفارقات هذه اللحظة في حرب إبادةٍ اختتمت شهرها العشرين، هو أنه وسط عجز دولي أمام آلة الحرب والتجويع والتهجير الإسرائيلي، هناك تركيز للدبلوماسية الفلسطينية على انتزاع مزيدٍ من الاعترافات الدولية بدولة فلسطين، وإحياء عملية سلام تؤدي إلى حل الدولتين. ما يلفت النظر في هذا السياق هو الفجوة الكبيرة بين ما يُطرَح كانتصار محتمل لقضية فلسطين، في حال اعترفت بها بعض الدول الأوروبية خلال الأسابيع القادمة، وواقع الهزيمة الإنسانية اليومية، المتمثلة في مواصلة حرب الإبادة، من دون قدرة أو استعداد من المجتمع الدولي لإيقافها. أي أنه من جهة نجد الدبلوماسية الفلسطينية والعربية تبادر، في محاولة لفرض العودة إلى الالتزام الدولي بحل الدولتين، من خلال تشجيع مزيدٍ من الاعترافات بدولة فلسطين، وبحقها في عضوية كاملة في الأمم المتحدة، وحشد الزخم لعقد مؤتمر لهذه الغاية في نيويورك في21 حزيران/ يونيو تحت رعاية سعودية -فرنسية مشتركة، لكن ومن جهة ثانية، نجد السياسات والدبلوماسية الفلسطينية والعربية تراوح مكانها منذ سنة ونصف، في طريق مسدود بالفيتو الأميركي والتساوق مع الوحشية الإسرائيلية.

هناك طبعاً محددات وموازين قوى مختلِفة، وفرص نجاح لكل من هذين المسارين للدبلوماسيين الفلسطينيين الموازيين. موضوع الاعتراف يُمثِّل منذ حوالي 15 سنة هدفاً دبلوماسيّاً فلسطينيّاً قابلاً للتحقق، ربما من دون غيره. لكن الهدف الأكثر عجالة وحيوية ومصيرية بالنسبة إلى قضية فلسطين اليوم، أي منع التهجير ووقف الإبادة، صار غير قابل للتحقق، على الرغم من مرور سنة ونصف من القرارات الأممية، والمحاكمات الدولية، ومؤتمرات القمة والمفاوضات السرية. قد تكون تلك التطورات من المؤشرات المهمة والمشجعة للتغيير في المشهد العالمي، تجاه غطرسة إسرائيل وعنصرية عقيدتها الصهيونية، لكنها تبقى دون المطلوب والضروري والواجب، ودون أثر مباشر على تفرد إسرائيل في فلسطين وفي المنطقة. بالتالي فمن الطبيعي أن نستنتج أن المنظومة الدولية قد فشلت في قضية فلسطين، بل أن الانحياز المنهجي للرواية والمصالح الصهيونية، وازدواجية معايير هذا الانحياز، هو بمثابة تواطؤ وتسهيل للمخططات الإسرائيلية.

كيف علينا إذاً فهم التباين بين الاستثمار السياسي المتعاظِم من قبل الدبلوماسية الفلسطينية ودول وازنة على مستوى رفيع، في مشروع إحياء حل الدولتين والاعتراف بدولة فلسطين، من جهة، والعجز المُدوّي لهؤلاء أنفسهم، في تطبيق القانون الدولي في مواجهة دولة الإبادة الإسرائيلية من جهة ثانية؟ هل التوجه الأول، كما تبرره الدبلوماسية الفلسطينية، مدخلٌ لإجبار إسرائيل على القبول بحل الدولتين؟ أو أنه تعويض ضمني من الدول الصديقة على فشلها في إيقاف المجازر والتجويع والإبادة، نوع من جائرة ترضية ستسوق كانتصار أجوف. أي من وجهة نظر دبلوماسية "الواقعية"، فإن مزيداً من الاعترافات هو أقصى ما يمكن توقعه من مجتمع دولي يُدين إسرائيل من دون كلل، في حين يزيد من تجارته العسكرية والأمنية مع دولة إبادة. هل من علاقة سببية أو تناقصية بين كل من تجديد طرح حل الدولتين، ونزعة الاعتراف العالمي بدولة فلسطين من جهة، وما يبدو استحالة توظيف العدالة الدولية لردع آلة الحرب الإسرائيلية، من الجهة الأخرى؟

عودة حل الدولتين إلى الواجهة

منذ سنوات عدة، سبقت هجوم حماس على إسرائيل في 2023، كانت عملية السلام في الشرق الأوسط قد تحولت عن هدفها الذي تابعته منذ 1991، أي التوصل إلى حل يتضمن إقامة دولة فلسطين المستقلة في الأرض المحتلة عام 1967، إلى هدف تطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية من دون الاشتراط التاريخي المرتبط بإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وعاصمتها القدس. كذلك صار الفعل السياسي الفلسطيني، رهين مصالح عدم إخلال الأمل بحل الدولتين، ينشغل بردود الأفعال وأحياناً بالإدانات في وجه الانتهاك الإسرائيلي المنهجي للاتفاقيات الموقَعة، وللقانون الإنساني الدولي، ولمئات القرارات الأممية. أما الاهتمام العربي الرسمي الذي كان يعتبر فلسطين قضيته الأولى، فقد صار تركيزه، عام 2023، منصبّاً على "الخطر الإيراني"، وعلى تطوير العلاقات الاقتصادية الصريحة مع إسرائيل، بنمو يفوق 12 في المئة عام 2024، إلى ما قيمته 1.8 مليار دولار من الصادرات العسكرية والتكنولوجية الإسرائيلية إلى عدد من الأسواق العربية.

هل الاعتراف بدولة فلسطين هو تعويض ضمني من الدول الصديقة على فشلها في إيقاف المجازر والتجويع والإبادة. من وجهة نظر دبلوماسية "الواقعية"، فإن مزيداً من الاعترافات هو أقصى ما يمكن توقعه من مجتمع دولي يُدين إسرائيل، في حين يزيد من تجارته العسكرية والأمنية معها. هل من علاقة سببية بين تجديد طرح حل الدولتين، وما يبدو استحالة توظيف العدالة الدولية لردع آلة الحرب الإسرائيلية؟

اذاً، كان طرح حل الدولتين في 2023 بمثابة خدعة أو سراب، تتمسك بهما الدبلوماسية الفلسطينية وحدها، في غياب أية رؤية بديلة. وهي رفضت بلورة أية استراتيجية دبلوماسية أو سياسية أو عسكرية مُجْدية لفرضها، وسط عزلة دولية لها وللقضية. ثم تقف عاجزة أمام التوسع الاستيطاني الإسرائيلي والعنف المتزايد المرافق له، إلى أن فجّر يحيي السنوار ورفاقه بركاناً ربما كان يختبئ في المشهد السابق، ولم يحتج سوى إلى عود كبريت لإشعاله. منذ الأشهر الأولى للحرب، حاولت القيادة الفلسطينية استثمار إفرازات طوفان الأقصى، من خلال إعادة طرح حتمية حل الدولتين (أو كما أوحت بذلك إدارة بايدن "بمسار حقيقي نحو حل الدولتين")، وتعجيل الاعتراف الدولي بدولة فلسطين (على افتراض أن الأول سيؤدي إلى الآخر)، وإعادة قضية فلسطين إلى أولويات الشروط العربية للتطبيع. ذلك طبعاً إلى جانب المطالبة المتواصلة بوقف حرب الإبادة، لكن من دون الربط بين أيٍ من هذه الأهداف. مثل هذه الاستراتيجية التي تمسكت بها الدبلوماسية الفلسطينية طوال الحرب، ولا تزال، لا تفترض وجود علاقة ضرورية بين تحقيق أي من الأهداف الثلاثة: تقديم أجندة الاعتراف بالدولة لا يعني إحلال حل الدولتين، والنجاح في وقف الإبادة لا يعني بالضرورة المضي قدماً نحو حل الدولتين، بينما توسيع الإجماع الدولي حول حل الدولتين لن ينهي الإبادة.

على الرغم من هذه العبثية، أو الانفصام، في النشاط الدبلوماسي الفلسطيني والعربي، فإننا نرى خلال الأشهر الأخيرة إحياءً ملموساً "لصناعة حل الدولتين"، المكونة من ناشطين فلسطينيين وإسرائيليين وأوروبيين محبين لحل الدولتين، الذين يعقدون مؤتمرات هنا بتمويل جهات أوروبية محبة للسلام، وهناك لحشد الدعم الشعبي للحل المنشود، وللمؤتمر الدولي في نيويورك بشأنه. كذلك تتحدث أوساط فلسطينية عن آمال بانضمام دول جديدة (والحديث يدور عن فرنسا وبريطانيا في مقدمتهم) لما يقارب 150 دولة سبق أن اعترفت بدولة فلسطين. هذا كله في وقت تتواصل فيه حرب الإبادة وفيتو أميركي جديد، يمنع مجرد المطالبة الدولية بإيقافها. أي أن كافة دول العالم قد تمنح الاعتراف بدولة فلسطين، وتصر على أن الحل الوحيد هو بدولتين، من دون أن يؤدي ذلك الى وقف الإبادة، بل ربما إلى تصعيده وتعجيل تنفيذ خطط الضم والتهجير في الضفة المحتلة (كما هدد الوزير سموتريش كرد إسرائيلي على اعترافات أوروبية محتملة).

ما معنى وقيمة الاعتراف بدولة فلسطين

في سياق برنامج سمي في حينه "إنهاء الاحتلال وإنشاء الدولة"، اعتمدت منظمة التحرير منذ 2011 استراتيجية لنيل العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، على افتراض أن من شأن ذلك تغيير موازين القوى القانونية الدولية لصالح الحق الفلسطيني، باتجاه بلورة الظروف للعودة إلى مسار التفاوض مع إسرائيل حول حل الدولتين. انتهزت إسرائيل الالتزام الفلسطيني الراسخ بتلك الاستراتيجية، للمراوغة والمماطلة وتغيير قوانين اللعبة حينما تشاء، مهددة العلاقات مع تلك الدول، التي لا ترى في إقدامها على الاعتراف بفلسطين عملاً عدائياً تجاه إسرائيل. تدرك إسرائيل جيداً أنه حتى لو صارت دولة فلسطين عضواً كامل الحقوق في الأمم المتحدة، فإن ذلك لن يغيِّر من موازين القوى الفعلية التي لا تحسب لها إسرائيل أي حساب، وهي بالتأكيد ليست تلك المتمثلة في قرارات الأمم المتحدة، التي رفضتها أو تجاهلتها منذ تأسيس الدولة اليهودية، بل هي حصراً علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية.

لكن ما تخفيه هذه الزوبعة الدبلوماسية في فنجان المنظومة الأممية، المصحوبة بالخطابات الرنانة والوعظ الموجه إلى إسرائيل، ومشاهد السفراء الفلسطينيين وهم يستنكرون بأشد العبارات، ويبكون لشدة الآلام الفلسطينية، هو أن هذه "الاعترافات" بدولة فلسطين لا تضيف قانونياً أو سياسياً إلى الاعتراف الدولي القائم (الذي لا يحتاج إلى تكرار كل سنة)، بأن للشعب الفلسطيني الحق في تقرير مصيره في دولته الوطنية. ربما هذا الإنجاز التاريخي (الذي ليس حديث العهد) ليس قابلاً للتراجع عنه من حيث المبدأ، لكنه وحده غير كافٍ لشعب طال حرمانه من حقوقه الوطنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية منذ عقود.

كان طرح حل الدولتين في 2023 بمثابة خدعة تتمسك بها الدبلوماسية الفلسطينية وحدها، في غياب أية رؤية بديلة. وهي رفضت بلورة أية استراتيجية دبلوماسية أو سياسية أو عسكرية مُجْدية لفرضها، وسط عزلة دولية لها وللقضية. ثم وقفت عاجزة أمام التوسع الاستيطاني الإسرائيلي والعنف المتزايد المرافق له، إلى أن فجّر يحيي السنوار ورفاقه بركاناً ربما كان يختبئ في المشهد السابق، ولم يحتج سوى إلى عود كبريت لإشعاله.

الاستراتيجية التي تمسكت بها الدبلوماسية الفلسطينية طوال الحرب، ولا تزال، لا تَفترض وجود علاقة ضرورية بين تحقيق أي من الأهداف الثلاثة: تقديم أجندة الاعتراف بالدولة لا يعني إحلال حل الدولتين، والنجاح في وقف الإبادة لا يعني بالضرورة المضي قدماً نحو حل الدولتين، بينما توسيع الإجماع الدولي حول حل الدولتين لن ينهي الإبادة.

لذلك عندما "تعترف" أية دولة بدولة فلسطين فإنها لا تعترف بأن تلك الدولة تمثل الشعب الفلسطيني، لأن تلك الصفة القانونية لا تزال تتمسك بها منظمة التحرير. وليس الاعتراف إقراراً بأن تلك الدولة هي المسؤولة عن إدارة شؤون الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، حيث تلك هي وظيفة السلطة الفلسطينية. وليست تلك الدولة هي صاحبة السيادة على أراضيها المحتلة، طالما أن المجتمع الدولي غير مستعد لإجبار إسرائيل على الانسحاب منها. كما أن المفتاح الفلسطيني لإنهاء الحرب في غزة ليس لدى دولة فلسطين، بل تتمسك به حركة حماس (كما تعلم إسرائيل والولايات المتحدة والدول العربية). هذا المشهد القانوني-السياسي المتناقض فيما يخص التمثيل الفلسطيني، ينعكس في التخبط في التصريحات الرسمية التي تشير تارة إلى أن صاحبة الولاية في قطاع غزة هي السلطة وتارة أخرى هي المنظمة، وتارة الدولة، وأحياناً هي للثلاث معاً! ثم نجد في بعض مخططات اليوم التالي لغزة، مقترح تشكيل "لجنة إسناد مجتمعي"، لتضيف مرجعية خامسة إلى ساحة سياسية فلسطينية ممزقة ومتصارعة ما بين فصائلها وشخوصها.

لا تعتبر إسرائيل أن الزحف نحو الاعتراف وفتح مسار سياسي نحو حل الدولتين، يشكل أي تحدٍّ لخططها أو مصالحها أو مضيِّها في حربها. فعلاً لا تشكل مثل هذه الاعترافات نقلة نوعية في فرص تحقيق السيادة والاستقلال، أو في تجسيد دولة فلسطين كواقع وليس كشعار، ناهيك عن وقف الإبادة. لا يعطي أي طرف (فلسطيني أو دولي) سوى قيمة معنوية لكيان لا يزال افتراضياً، لكنه أعلى مستوى من الولاية السياسية الفلسطينية: دولة لا تمثل شعبها، ولا تدير شؤونهم، ولا تسيطر على أرضهم. طالما أن العنوان الرسمي الفلسطيني موزع بين عدة مؤسسات حاكمة بشكل أو بآخر: (المنظمة، السلطة، المقاومة، وربما لجنة الإسناد!)، فلن يكون للنشاط الدبلوماسي الحالي تأثير على مجريات الإبادة. لن يضيف ما يلزم في هذه اللحظة لتحويل النظام السياسي الفلسطيني من الفصائلية إلى المواطَنة، من مجموعة منظمات يتحكم بها أفراد، إلى دولة لجميع مواطنيها. وبالتالي، فليس من الواضح لماذا نطالب بالاعتراف بدولة لا يعترف بها الشعب الفلسطيني نفسه، بأنها هي دولتهم وكيانهم الأسمى.

العجز الديبلوماسي الفلسطيني والتواطؤ الدولي أمام الإبادة

قد لا تُلام السياسة الدبلوماسية على عدم قدرتها على قلب الموازين أو إحداث اختراق، لا قبل حرب الإبادة ولا أثناءها. وهي لم تترك محفلاً أو آلية أممية أو مرجعاً قانونياً إلا وطرقت أبوابه، وطالبت بإدانة إسرائيل ومحاسبتها على جرائمها. قد نُحمِّل الدول العربية مسؤولية كبيرة لعدم توظيف قوتها المالية عالمياً لردع إسرائيل، ولوضعها مصالحها الاقتصادية ورؤيتها لأمنها القومي، قبل قضية فلسطين. بالتأكيد فإن النفاق السياسي الأوروبي طوال السنوات الأخيرة في وجه الانتهاكات الإسرائيلية، والتملّص من جميع الاتفاقيات والالتزامات صار مكشوفاً أكثر بعد 20 شهرأً من التساوق مع نفوذ الصهيونية المتجذرة في أنظمتها السياسية والإعلامية والرأي العام. أما دول الجنوب المناصِرة لفلسطين تاريخياً، فلا تتمتع بنفوذ سياسي أو اقتصادي لتبادر إلى ما يتجاوز التضامن، الذي يبقى معنوياً. ما يترك المتحكم الوحيد في مصير وقف إطلاق النار ووقف الإبادة هو الولايات المتحدة المتحالفة مع إسرائيل استراتيجياً – على الرغم من وجود خلافات بينهما هنا وهناك، لا يبدو أنها مبدئية بقدر ما تعكس أسلوب إدارة ترامب التعاقدي وغير العقائدي في التعامل مع إسرائيل.

تتواصل حرب الإبادة، والفيتو الأميركي الجديد يمنع مجرد المطالبة الدولية بإيقافها. أي أن كافة دول العالم قد تمنح الاعتراف بدولة فلسطين، وتصر على أن الحل الوحيد هو بدولتين، من دون أن يؤدي ذلك الى وقف الإبادة، بل ربما إلى تصعيدها وتعجيل تنفيذ خطط الضم والتهجير في الضفة المحتلة، كما هدد الوزير سموتريش، كرد إسرائيلي على اعترافات أوروبية محتملة.

ما تخفيه هذه الزوبعة الدبلوماسية في فنجان المنظومة الأممية، المصحوبة بالخطابات الرنانة والوعظ الموجه إلى إسرائيل، ومشاهد السفراء الفلسطينيين وهم يستنكرون بأشد العبارات، ويبكون لشدة الآلام الفلسطينية، هو أن هذه "الاعترافات" بدولة فلسطين لا تضيف قانونياً أو سياسياً إلى الاعتراف الدولي القائم (الذي لا يحتاج إلى تكرار كل سنة)، بأن للشعب الفلسطيني الحق في تقرير مصيره في دولته الوطنية.

يؤدي بنا هذا المأزق إلى استنتاجين، من الواجب طرحهما ومناقشتهما فلسطينياً في هذه اللحظة المصيرية التي يواجه فيها شعب فلسطين المحروم، وشعب غزة المكلوم، وقضية فلسطين برمتها أخطر التهديدات. أولاً نتساءل عن جدوى المشاركة الفلسطينية في منظومة أممية خَذلت، خَدعت وتواطأت مع أبشع الانتهاكات ضد فلسطين، وعن هدف وفائدة الخطابات التي لا تصغي إليها سوى آذان الإعلام الاجتماعي، وقرارات تبقى حبراً على ورق. إلى متى تلعب الدبلوماسية الفلسطينية دور الضحية، الغاضب المتألم، وهو بمثابة دور إحدى الشخصيات الثانوية (أو حتى كومبارس)، في مسرحية المجتمع الدولي، التي يعود ويوقظه كلما تفظِّع إسرائيل زيادة عن المقبول بالفلسطينيين؟ ربما حان الوقت لمبادرة فلسطينية تستند إلى تجميد المشاركة في الاجتماعات والقرارات والخطابات حول قضية فلسطين، في محافل الأمم المتحدة، على أساس أن العجز والصمت هما بمثابة تواطؤ، إلى أن تقف الإبادة ويتم تجميد عضوية دولة الاحتلال والإبادة في تلك المنظمة، ومحاسبتها كما يقتضي القانون الدولي. لن يسبب مثل هذا التجميد للمشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة ضرراً في الأجندة الفلسطينية التي تتحمل تنفيذها أصلاً دول عربية ونامية عديدة، صياغة وتفاوضاً ورعاية للنصوص إلخ، بتوقيع فلسطيني أو من دونه. وربما يفهم العالم أن فلسطين كذلك لها خطوط حمراء، وليست مستعدة أن تؤدي دور الضحية الأبدية.

من المفهوم أن مثل هذا الطرح لن يقنع الدبلوماسية الفلسطينية، ولن يحفز استعدادها لفعل قد تعتبره مغامرة غير محسوبة العواقب.

هذا يصل بنا إلى الاستنتاج الأصعب حول النتائج المتوقَعة من مؤتمر نيويورك، وهي معروفة سلفاً وتنحصر في تأكيد عالمي واسع النطاق ضرورة استئناف التفاوض نحو حل الدولتين، ربما مع اعترافات إضافية بدولة فلسطين. لكن هذا المؤتمر لا يهدف إلى وقف الإبادة، سوى من خلال توجيه رسالة تحذير إضافية إلى إسرائيل، التي، كما سبق أن ذكرنا، لا تكترث لمواقف أوروبا المنافِقة، أو لعدم ارتياح الدول العربية المطبِّعة أو الرأي العام العالمي الغاضِب. أما السياسة الإسرائيلية، فهي ومنذ نشأتها، تشير إلى الأمم بعبارة استهزاء: "اوم - شوم" (الأمم المتحدة - صفر)، ومؤتمر جديد ليس ما سيحيدها عن مواصلة الإبادة.

المفتاح الفلسطيني لإنهاء الحرب في غزة ليس لدى دولة فلسطين، بل تُمسك به حركة حماس (كما تعلم إسرائيل والولايات المتحدة والدول العربية). هذا المشهد القانوني-السياسي المتناقِض فيما يخص التمثيل الفلسطيني، ينعكس في التخبط في التصريحات الرسمية التي تشير تارة إلى أن صاحبة الولاية في قطاع غزة هي السلطة وتارة أخرى هي المنظمة، وتارة الدولة، وأحياناً هي للثلاث معاً!

مع الاعلان في الأيام الأخيرة قبل انعقاد مؤتمر نيويورك، بأن  بريطانيا وفرنسا وكندا عادوا ليؤكدون أن الوقت غير مواتٍ للاعتراف بالدولة،  يبقى أن موضوع التأكيد على حل الدولتين، ودراسة مستلزماتها، الذي يُدار في ثماني مجموعات عمل، و150 خطاب خلال ثلاثة أيام، هو النتيجة الوحيدة المتوقعة لكل هذا الضجيج والتسحيج الدولي، بينما شعب فلسطين يُقتَل ويُجوَّع ويُهجَّر.

التساؤل إذاً عن مغزى هذا الاعتراف مشروع تماماً: بماذا تعترف دولة معينة عندما تعلن عن اعترافها بدولة فلسطين، وما يفيدنا إذا لم يكن ذلك اعترافاً دوليّاً بأن دولة فلسطين تمثل الشعب الفلسطيني، وتجسِّد قضيتهم وحقوقهم، وأنها دولة جميع مواطنيها، جمهورية لا يحكمها الفرد، وديموقراطية لا تستثني أحداً. ما يعني ضرورة الإسراع الفلسطيني في تشكيل مؤسسات تلك الدولة، السياسية والدستورية والإدارية، وصَهر كل مؤسسات المنظمة والسلطة والمقاومة في إطارها، ليواجه الشعب الفلسطيني المَزاحل القادمة للإبادة بصوت واحد، وأجندة مشتركَة تشاركية، تعيد فلسطين إلى قيادة العمل الدبلوماسي بشأنها، وليس اللحاق بقطار دولي، لا مكان للحق الفلسطيني فيه.

مقالات من فلسطين

لهيب غزّة الذي يلسع العالم..

2025-05-29

هنا يتوقف الكلام. كلّ إضافةٍ تبدو فائضة، وربما وقحة.. لا شيءَ يُضاف إلى الأهوال التي تقولها صورة الطفلة ورد وهي تعبر خلال ألسنة اللهب – تلكَ الكافية لإحراق عيون الكوكب.

الرحلة السلافية إلى الديار النابلسية: في الطريق إلى الناصرة

فُرِضتْ الانجليزية والفرنسية على أهل بلدان المشرق بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب الكونية (1914-1918)، وقد اتخذ الاحتلال الإنكليزي–الفرنسي للبلاد طابع "الانتداب"، وكان ممهِّداً لاحتلال فلسطين من قبل العصابات الصهيونية....

للكاتب نفسه

سلام "ترامب" الاقتصادي الجديد: من إدارة الصراع إلى تصفية القضية الفلسطينية

ليس الأمريكان الوحيدين الذين لديهم خطط استثمارية وعقارية لقطاع غزة، بعد إعادة احتلاله وتطهيره من حماس، والاستيلاء عليه، حيث بادرت مجموعة عقارية استثمارية إماراتية إلى طرح رؤية أكثر تفصيلية للفكرة...