مصر والطوفان.. ضريبة الشرود عن "الحرب"

إلى متى يمكن الركون إلى أن أرض مصر هي خارج حدود الطوفان، تقف على أطرافه لكن عواصفه لا تقضم من جسدها؟ إلى متى يمكن للمصريين احتمال استمرار المأساة بهذا الحد على أطراف حدودنا؟ وألا يحق لمصر ويتوجب عليها التفكير في طرح إلغاء "معاهدة السلام" مع إسرائيل في استفتاء شعبي، وقيادة الملاحقة القضائية والدبلوماسية لإسرائيل، ودعوة الدول العربية إلى تعليق العلاقات مع كل من يمد إسرائيل بالسلاح، وتعليق مدّ الغرب بالغاز والبترول، وتنظيم مسيرة شعبية عالمية، تحتشد عند "معبر رفح" من أجل السلام، وإدخال المساعدات تحت حماية الآليات العسكرية المصرية، وتفعيل منظومة الدفاع الجوي، ضد الطيران المعادي على غزة.
2025-05-05

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
القاهرة - يافا، كولاج انطلاقا من صور فوتوغرافية وملصقات اعلانية قديمة. تصميم: ممدوح عبد المنعم

_ هل أخطأت حركة حماس في شنها هجوم "السابع من أكتوبر"؟

_ هل الخطأ في الفكرة، أم في التوقيت، أم في طرق التنفيذ وحدودها؟

_ هل راهنت على أطراف غير فلسطينية، خذلتها؛ فدفع أهل غزة وحدهم الثمن؟

_ هل يجوز أن يُقْدِم طرفٌ على المقاومة المسلحة، قبل إنجاز إطار ديمقراطي شعبي يعمل على قضية التحرير؟

_ هل هناك ما يُعيب من يفكر في انتقادها خلال الحرب، ويطلب إلقاء السلاح كسبيل وحيد لإتاحة الحياة؟

وفي الضفة المقابلة:

- هل "كتائب القسام"، اتخذت قراراً بهذا الحجم، فقط من أجل تحرير الأسرى، أم كخطوة استباقية لحربٍ عسكرية قادمة، بهدف تمرير مخطط سياسي يستخدم الإطار الاقتصادي من أجل تصفية القضية الفلسطينية: الترغيب بالتهجير، وإنعاش التطبيع العربي-الإسرائيلي تحت مسمّى "صفقة القرن"؟

- هل اعتباطاً اختارت المقاومة الفلسطينية تاريخ "السابع من أكتوبر" بما يحمله من رمزية؟

- هل اتخذت قراراً بهذا الحجم، اعتماداً فقط على فرضية تطوير الهجوم عبر قوى داعمة خارجية؟

- وهل كان في حسبانها أن ترضخ الدول العربية، بل والعالم أجمع، للتحكم الإسرائيلي-الأميركي الكامل في إدخال المساعدات؟

ثم ..

- هل من الأصل يمكن تحرير فلسطين من دون مقاومة مسلحة؟

- هل بإمكان الفصائل الفلسطينية في اللحظة الحالية، وفي ظل وجود "سلطة أوسلو" إنضاج إطار شعبي ديمقراطي من أجل التحرير؟

- وهل بالإمكان طرح استفتاء شعبي، على فكرة المقاومة، ومطالبة المجتمع العربي و الدولي من بعده بالاعتراف بنتائجه؟ 

وبين هذا وذاك، وكقطرة مياه جارية بين ضفتين:

أنظر إلى حدود بلدٍ أنتمي إليه، ولا أزال أحمل تجاهه بعض الأمل.

أنظر إليه، هذا البلد، بتاريخه وجغرافيته، الملتبس وجوده مع القضية الفلسطينية..

أنظر وأسأل، بصفتي "مواطنة مصرية": "ما العمل"؟

العزيمة بين الحرب والاستسلام (مشاهد من الحاضر)

يشير البيان الختامي لـ "المجلس المركزي الفلسطيني"، الذي صدر في "رام الله"، في 25 نيسان/ أبريل الفائت إلى أن قرار السلم والحرب والمفاوضات ليس شأن فصيلٍ أو حزبٍ، بل هو شأن وطني عام. كما أكد المجلس الذي انعقد من دون مشاركة فصائل حركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومع انسحاب الحركة الديمقراطية عقب الجلسة الأولى، أكد أن "المقاومة الشعبية السلمية هي الوسيلة المثلى لتحقيق الأهداف الوطنية".

وينص البيان الصادر عن رئيس الجمهورية المصرية، عبد الفتاح السيسي، - في كلمته الى الشعب، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثالثة والأربعين لتحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي - على أن الحرب في قطاع غزة مأساة إنسانية مشينة، ستظل محفورة في التاريخ، مؤكداً أن مصر تقف - كما عهِدها التاريخ - سداً منيعاً، أمام محاولات تصفية القضية الفلسطينية، وأن إعادة إعمار قطاع غزة، يجب أن تتم وفقاً للخطة العربية-الإسلامية، من دون أي شكل من أشكال التهجير، حفاظاً على الحقوق المشروعة للفلسطينيين، وصوناً لأمن مصر الوطني.

وخلال هذه الكلمة، جدد الرئيس المصري التأكيد والعهد بأن السلام العادل والشامل هو الخيار الذي ينبغي أن يسعى إليه الجميع، والضمان الحقيقي لإنهاء ما أسماه "دوائر العنف والانتقام"، وأن التاريخ يشهد بأن "السلام بين مصر وإسرائيل، الذي تحقق بوساطة أمريكية، هو نموذج يحتذى به" لإنهاء الصراعات والنزعات الانتقامية، وترسيخ السلام والاستقرار. وأنهى كلمته بالقول إنه "ينتظر من الرئيس ترامب تحديداً لعب الدور المتوقع منه في هذا الصدد".

يشير البيان الختامي لـ "المجلس المركزي الفلسطيني"، الذي صدر في "رام الله"، في 25 نيسان/ أبريل الفائت إلى أن قرار السلم والحرب والمفاوضات ليس شأن فصيلٍ أو حزبٍ، بل هو شأن وطني عام. كما أكد المجلس الذي انعقد من دون مشاركة فصائل حركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومع انسحاب الحركة الديمقراطية عقب الجلسة الأولى، أكد أن "المقاومة الشعبية السلمية هي الوسيلة المثلى لتحقيق الأهداف الوطنية".

ثم نقرأ سطوراً من كتاب "الحرب"، الصادر في النصف الأول من العام 2024، للصحافي الأميركي الشهير "بوب وودورد"، يقول: "إن الشعور بتهديد الوجود هو ما يحكم  السياسة الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر. ولم يسبق أن تكرر إلا في يوم السادس من أكتوبر عام 1973، بل هو يفوقه. فهو اليوم الأصعب الذي مر عليهم منذ نهاية الهولوكست".

"وودورد"، الذي ذاع صيته منذ تحقيق فضيحة "ووترغيت"، في سبعينيات القرن الماضي،  يستعرض كثيراً من الأحاديث، التي دارت في الأيام الثلاثة التالية لـ"السابع من أكتوبر"، ما بين حكومة الكيان الصهيوني، وإدارة الرئيس "جو بايدن" في واشنطن. يقول إن تقديرات الإسرائيليين كانت أن الساعات التالية للهجوم الأول قد يستتبعها هجوم موسع من كل روافد محور المقاومة، مطالِبين الولايات المتحدة بدعم ضربة استباقية سريعة لحزب الله اللبناني. وكان رد إدارة "بايدن" إن صواريخ حزب الله، التي تقدر بمئة وخمسين ألف صاروخ، قادرة على تدمير المدن الإسرائيلية، وأن التدخل الأميركي لن يحول دون وقوع ذلك.

كما أكدت إدارة "بايدن" أن دعمها الكامل للتخلص من حماس لا يعني دعم نشوب حرب إقليمية.

في الأيام العشر التالية، زار وزير الخارجية "أنتوني بلينكن" تل أبيب وعدة عواصم عربية، فانتهت إدارته إلى الاتفاق حول "الرؤية العربية"، وهي التوافق على ضرورة التخلص من حماس. الأمر الثاني، الذي تم الاتفاق عليه، هو ضرورة طرح مسار سياسي عاجل ومنجَز يتعلق بحل الدولتين، وهو ما يسمح، وفق الرؤية الرسمية العربية، بدحض أيديولوجية حماس، التي لا يمكن القضاء عليها عسكرياً نظراً لأن فكرة المقاومة تجاه فلسطين أصيلة لدى الشعب الفلسطيني، بل والعالم العربي.

وقد عرج "وودورد"  بشكلٍ خاص على القاهرة، ونسب إلى رئيس مخابراتها السابق تسليمه خريطة كاملة عن أنفاق غزة إلى المخابرات الإٍسرائيلية، وسرد نقلاً عن "بلينكن" كيف طرد "السيسي" الفريق المرافِق وطلب الجلوس منفردين، وكان تركيزه على أمرين فقط، هما: الحفاظ على اتفاق السلام القائم بين مصر وإسرائيل، وعدم القبول بإقامة معسكر للاجئين الفلسطينيين في سيناء.

أما "الجائزة الكبرى" وفق ما نقله "وودورد"، فقد ذهبت الى "الرياض" التي توافق أميرها ووزير الخارجية الأمريكية على التهدئة في غزة، وطرح مسار سياسي مقابل التطبيع السياسي والاقتصادي مع إسرائيل، وتوقيع اتفاقية دفاع مشترك مع أمريكا.

يشير الكتاب إلى أن هذه الأطروحات موضوعة على طريق الشرق الأوسط، قبل أن تتحرك خطوة واحدة خارجه باتجاه واشنطن. فمن ناحية قال الأمريكي للسعودي: " سيدي الأمير، من الثابت في السياسة الخارجية الإٍسرائيلية أن من يطرح إقامة دولة فلسطينية، فهو لا يعني ما يقوله، بل يريد شيئاً آخر يجب الاتفاق عليه أولاً. وكان الرد السعودي ـ والعهدة على الراوي ـ أن وضع الأمير يده على الجانب الأيسر من صدره، وقال ضاحكاً: “ما أريده لا يهم، لكنه ما أحتاجه الآن بكل تأكيد".

في تل أبيب تلقى "بلينكين" رداً إيجابياً مقتضباً. قال "نتنياهو": "سنحاول العمل على "صياغة مبدعة" بالتوازي مع القضاء على حماس"، لكن "بلينكن" كان حاسماً بقدر تحمسه، فقال: “ليس هذه المرة بيبي، لا بد من شيء حقيقي وسريع ومتماسك، من الضروري التفكير جدياً بشكلٍ ما في إقامة دولة فلسطينية ما".

جاء الرد الإسرائيلي أكثر حسماً وإحجاماً في صيغةٍ ساخرة، على لسان المستشار السياسي الإسرائيلي الأول "دون درمر"، إذ قال: "وحينها ماذا يا سيادة الوزير؟!  يصبح 7 أكتوبر هو عيد الاستقلال الوطني الفلسطيني؟!".

انتهى الأمر وحُسم، يقول "وودورد". وانحسر التردد الإسرائيلي بين الاكتفاء بعقاب هذه الحاضنة الشعبية في غزة إلى حد اضطرارها لطرد المقاتلين، وبين جز هذه النبتة من أساسها، وطرد سكان غزة من أرضهم. وعند هذه اللحظة يختفي "بايدن"، ويعود "ترمب".

في الأيام العشر التالية على "السابع من اكتوبر"، زار وزير الخارجية الامريكية، "أنتوني بلينكن"، تل أبيب وعدة عواصم عربية، فانتهت إدارته إلى الاتفاق حول "الرؤية العربية"، وهي التوافق على ضرورة التخلص من حماس. الأمر الثاني، الذي تم الاتفاق عليه، هو ضرورة طرح مسار سياسي عاجل ومنجَز يتعلق بحل الدولتين، وهو ما يسمح، وفق الرؤية الرسمية العربية، بدحض أيديولوجية حماس، التي لا يمكن القضاء عليها عسكرياً نظراً لأن فكرة المقاومة تجاه فلسطين أصيلة لدى الشعب الفلسطيني، بل والعالم العربي.

صدر كتاب "الحرب" فيما تواصلت على الأرض، ومعها صال "ترمب" وهلل من ورائه الإسرائيليون احتفاءً بخطة إخلاء قطاع غزة والرفض الكامل للخطة العربية. "أنا لا أفرضها عليهم، ولكن كنت متفاجئاً بعض الشيء، فنحن ندفع لمصر والأردن مليارات الدولارات سنوياً"، قال "ترمب"، في آذار/ مارس الماضي.

وفي نهاية نيسان/ أبريل، تحدث عن أحقية أمريكية في المرور المجاني من قناة السويس، رابطاً بين ذلك والدور الأمريكي، في عودة الملاحة إلى البحر الأحمر والتخلص من الحوثيين.

وقبل أيام، حين أجرت مجلة "التايمز" معه حواراً مطولاً، سأله الصحافي: هل تخشى أن يجرّك "نتنياهو" إلى حرب واسعة في الشرق الأوسط؟  أجاب: "لا، لكنه قد يذهب إلى الحرب، وإذا لم نتمكن من التوصل إلى اتفاق مع إيران، فقد أكون أول من يقود هذه الحرب التي ستشمل الكثير".

العقيدة بين الأمل والإذعان (مشاهد من التاريخ)

مع بدء الهجوم المصري-السوري في "السادس من أكتوبر" عام 1973، من أجل استعادة سيناء والجولان اللتين قضمهما الاحتلال، ومعهما الضفة الغربية في العام 1967، مع بدء هذا الهجوم، اطلق مثقفون فرنسيون حملة "الخوف على إسرائيل" استشعاراً لتهديد حقيقي للكيان الوليد.

في وقتٍ لاحق، علّقت دراسة تشاركية، أطلقها "المركز الفلسطيني للبحوث والدراسات الاستراتيجية" على هذا الأداء الثقافي اللافت، بالقول إن رافدين  يقفان وراء هذا الانحياز المشوه: الأول هو ميراث فرانكفوني يعود إلى تفسيرات، تتعلق بـ"العهد القديم"، والثاني هو مشاعر عميقة بالذنب والخزي من ميراث الـ"هولوكوست"، التي جاءت بدورها كنهاية المطاف، لثقافة أوروبية سادت في بداية القرن التاسع عشر، تحت اسم "المسألة اليهودية"، تلك المسألة التي طرحت تواجد "اليهود" في المجتمعات الأوروبية كعائق كريه يجب التخلص منه.

وعليه - تقول الدراسة - إنه، وفي ظل هذا التناقض العجيب والمنطلقات المتداخِلة المشوَّهة، يمكن تفسير الدعم الغربي لإقامة دولة لليهود في فلسطين.

لكن وعلى الرغم من هذه الصبغة السائدة، التي التفتَ إليها المزاج العام العربي منذ اللحظة الأولى للصراع، فلطالما خرجت أصوات مختلفة، مؤثِّرة، على الرغم من قلة عددها، واستطاعت في نزاهةٍ التعبير عن منطق بديهي شبه مهجور.

صدر كتاب "الحرب" للصحافي الامريكي الشهير " بوب وودورد" في العام 2024، فيما تواصلت الحرب على الأرض، ومعها صال "ترمب" وهلل من ورائه الإسرائيليون احتفاءً بخطة إخلاء قطاع غزة والرفض الكامل للخطة العربية. "أنا لا أفرضها عليهم، ولكن كنت متفاجئاً بعض الشيء، فنحن ندفع لمصر والأردن مليارات الدولارات سنوياً"، قال "ترمب"، في آذار/ مارس الماضي. وفي نهاية نيسان/ أبريل، تحدث عن أحقية أمريكية في المرور المجاني من قناة السويس، رابطاً بين ذلك والدور الأمريكي، في عودة الملاحة إلى البحر الأحمر والتخلص من الحوثيين. 

فقد قال الرئيس الفرنسي "شارل ديغول" في يوم هزيمة يونية/ حزيران: "لقد احتلت إسرائيل أرضاً عربية، وما دام هناك احتلال فسوف تتولد مقاومة، وسيطلق عليها الطرف الآخر اسم "إرهاب"، لكن هذا لم يمنع أبداً المقاومين من الاستمرار، لأن المنطق يدفعهم دوماً لذلك حتى زوال الاحتلال". ومن قاعات العلم، رفض عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي اليهودي "كلود ليفي ستراوس" التوقيع على "رسالة الخوف على إسرائيل"، وقال: "لا يمكنني بالطبع أنْ أستشعر عملية تدمير شعب الهنود الحمر كجرح في خاصرتي، وأن أتعاطى بطريقة معكوسة حين يتعلق الأمر بالفلسطينيين".

ومن بعدهم، أكثر من قبلهم، كُثُر، انحازوا بوضوح إلى القضية الفلسطينية، وبتأثرٍ أكيد بمثقفين وسياسيين عرب، كما العلاقة الفكرية التي جمعت بين المثقف الأميركي "ناعوم تشومسكي" وزميله الفلسطيني الأميركي "إدوارد سعيد".

ومن هناك إلى هنا، حيث بلادنا، التي كانت في اللحظة نفسها، وعلى الرغم من الهزيمة، تحمل مساحاتٍ تبدلت ..

ففي تسجيل تم نشره مؤخراً لنقاش دار بين جمال عبد الناصر ومعمر القذافي، على هامش "مؤتمر طرابلس" عام 1970، قال ناصر: "إن العالم منذ احتلال أراضي 1967، يحتاج إلى رافعة قوية لا يمكن إلا أن نكون نحن أصحابها، سواء بالاستنزاف العسكري على الأرض، أو بالدبلوماسية في الخارج، بهدف خلق رأي عام قوي يطالب بإنهاء هذا الاحتلال ويفضح الانحياز الإمبريالي إلى إسرائيل. فالقانون الدولي يعترف أن هناك أرضاً عربية تحت الاحتلال".

وفي عام الهزيمة نفسه، خرج إلى النور المجلد الأول من سلسلة "شخصية مصر" الشهيرة، لعالم الأنثروبولوجيا المصري، جمال حمدان، تناول فيه ما يُعرف بفلسفة "شخصية الإقليم"، وأثر الجغرافيا في خلق هوية المكان، وما يمكن طرحه في ضوء ذلك عن "شخصية مصر"، وبالتالي حدود دورها ومآلات غيابه. فقال: "هي "سيدة الحلول الوسطى" نتاج تفاعل بين بعدين أساسيين ائتلافاً واختلافاً: الموضع والموقع. وبين هذا وذاك تخرج شخصية مصر الكامنة كفلتة جغرافية".

وفي مجلدات مطولة يشرح حمدان نظريته، ويجْمل بين السطر والآخر بعض المعادلات الاستراتيجية المهمة، فيقول: "من يسيطر على فلسطين يهدد خط دفاع سيناء الأول، ومن يسيطر على خط دفاع سيناء الأوسط يتحكم في سيناء، ومن يسيطر على سيناء يهدد خط دفاع مصر الأخير، ومن يسيطر على خط دفاع مصر الأخير يهدد الوادي"، ويصف تلك المتتالية بـ"نواة الأمن القومي المصري". وقال أيضاً: "إن مصير الامبريالية العالمية يتوقف على مصير العالم الثالث، ومصير العالم الثالث يتوقف على مصير العالم العربي، ومصير العالم العربي يتوقف على مصير فلسطين/ إسرائيل"، ومن ثَّم، يصير أي حل سياسي لا يزيل إسرائيل من الوجود لا محل له من البحث العلمي .

وعليه رأى حمدان أن موقع مصر مهددٌ أبداً وبانتظام بالإجهاض والشلل الجزئي، ما بقيت "إسرائيل"، التي تريد أن ترث دور قناة السويس، وتسرق موقع مصر الجغرافي، الذي حَكم عليها بالعروبة، بعد ان دخل الجد الفرعوني المتحف، بل حكم عليها بزعامة العالم العربي.

مع بدء الهجوم المصري-السوري في "السادس من أكتوبر" عام 1973، من أجل استعادة سيناء والجولان اللتين قضمهما الاحتلال، ومعهما الضفة الغربية في العام 1967، مع بدء هذا الهجوم، أطلق مثقفون فرنسيون حملة "الخوف على إسرائيل" استشعاراً لتهديد حقيقي للكيان الوليد.

في عام هزيمة 1967 نفسها، خرج إلى النور المجلد الأول من سلسلة "شخصية مصر" الشهيرة، لعالم الأنثروبولوجيا المصري، جمال حمدان، تناول فيه ما يُعرف بفلسفة "شخصية الإقليم"، وأثر الجغرافيا في خلق هوية المكان، وما يمكن طرحه في ضوء ذلك عن "شخصية مصر"، وبالتالي حدود دورها ومآلات غيابه. فقال: "هي "سيدة الحلول الوسطى" نتاج تفاعل بين بعدين أساسيين ائتلافاً واختلافاً: الموضع والموقع. وبين هذا وذاك تخرج شخصية مصر الكامنة كفلتة جغرافية".  

في تعليق حديث، عقب الانتفاضة الثانية، تناول المفكر المصري، عبد الوهاب المسيري، شخص حمدان، في ضوء طرحه، فقال: "غياب المشروع الحضاري المستقل يحرمنا من نموذج حمدان، المثقف الساعي إلى الحقيقة كمدخلٍ وحيد لتحقيق العدل. هذا الغياب يزيد من انتشار نموذج الباحث المثقف الذي ينقل كل شيء بأمانة شديدة، وحياد أشد، وموضوعية متلقية، هي في واقع الأمر تعبير عن موات القلب والعقل والضمير والهوية، حيث حل التفكير السهل المباشِر محل التفكير المركَّب من خلال الرؤية والهوية والحلم والأمل. وأصبح التلقَّي المهزوم والإذعان الموضوعي للأمر الواقع بديلاً لمحاولة رصد الواقع بأمل تغييره وإعادة صياغته".

ضفة ثالثة (مشاهد من المستقبل)

مُرَاوحة بين السياسة والمعرفة، بين انعكاسات "السابع من أكتوبر" الحالي و"السادس من أكتوبر" الذي كان، مُرَاوحة بين الأمل والشلل، وبين العدل والجهل، وبين الإذعان والسلام. مُرَاوحة تدفعنا للذهاب إلى الأبعد، مع بدء تشكُّل الوعي الحديث، حين أرسى الفيلسوف اليوناني "أرسطو" المبدأ الذي انهالت عليه الممارسات، فقال: "علم السياسة ينبثق من الفلسفة الأخلاقية. وجوهر هذه الفلسفة يكمن في محاولة الإجابة على أسئلة حول الكيفية التي ينبغي لنا أن نعيش بها، وحول الكيفية التي ينبغي لنا أن نتصور بها العلاقة بين الخير لأنفسنا والالتزامات التي نتحملها تجاه الآخرين".

هل "لازم طوفان"، كما كتبها وغنّاها شاعر "ثورة يوليو"، صلاح جاهين، بعد هزيمة يونية/ حزيران؟

وعليه يمكن في الختام، ومن "ضفة ثالثة"، طرح ثلة أسئلة :

- إلى متى يمكن الركون إلى أن أرض مصر خارج حدود الطوفان، تقف على أطرافه لكن عواصفه لا تقضم من جسدها؟

- إلى متى يمكن للمصريين احتمال استمرار المأساة بهذا الحد على أطراف حدودنا؟

- وألا يحق لمصر ويتوجب عليها التفكير في :

* طرح إلغاء "معاهدة السلام" مع إسرائيل في استفتاء شعبي.

* قيادة الملاحقة القضائية والدبلوماسية لإسرائيل.

* دعوة الدول العربية إلى تعليق العلاقات مع كل من يمد إسرائيل بالسلاح.

* دعوة دول الخليج إلى تعليق مد الغرب بالغاز والبترول.

* تنظيم مسيرة شعبية عالمية، تحتشد عند "معبر رفح" من أجل السلام.

* إعلان استعدادها الفوري، لإدخال المساعدات تحت حماية الآليات العسكرية المصرية.

* إعلان استعدادها الفوري، لتفعيل منظومة الدفاع الجوي، ضد الطيران المعادي على غزة.

...

ألا يحق لمصر ويتوجب عليها التفكير في كل ذلك، في ظل استمرار الطوفان؟

وإن كان هذا ضربٌ من التهور وانجرار إلى الحرب من دون مبرر، فكيف يمكن التخلص من ضريبة الإحْجام؟ وكيف يمكن ضمان ألا تجرنا مستقبلاً إلى دفع أثمان باهظة، لا يمكن معالجتها إلا بتجدد الطوفان؟

وهل لا بد لنا دوماً، من طوفان؟

هل "لازم طوفان"، كما كتبها وغناها شاعر "ثورة يوليو"، صلاح جاهين، بعد هزيمة يونية/ حزيران.

مقالات من مصر

القتل خارج إطار القانون.. كيف عادت الشرطة المصرية إلى سيرتها الأولى؟

نجيب صالح 2025-05-08

في لحظة مهيبة، وتحت إشراف كبار العائلات والمشايخ، قرر الشابان (17 و18 عاماً) تسليم نفسيهما للسلطات، كمبادرة لإطلاق سراح النساء المحتجزات كرهائن، مؤكّدَين براءتهما من أية علاقة بمقتل ثلاثة أفراد...

للكاتب نفسه