ما تقوله الأغنية اليمنية عن الصحة العاطفية

منذ النصف الثاني من القرن العشرين، شهدت الساحة الفنية في اليمن دراسات بحثية عديدة في فنّ الغناء التقليدي والشعبي. دراسات تركّزت أهدافها على موضوعات الأغاني الحِكميّة، الثورية، والوطنية، بينما بقي الموضوع العاطفي مدروساً بضآلة شديدة، وغالباً ما تنحصر دراسته في ظلال التجربة الفردية لهذا الشاعر الغنائي أو ذاك.
2025-03-20

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
بوابة المدينة القديمة، صنعاء - اليمن.

الحديث عن الصحة العاطفية لشعب بأكمله، ينطوي على مجازفة كبيرة. أما محاولة الخروج باستنتاجات ملائمة لوصف حالة عاطفية جمعية، فتبدو مجازفة كبرى. ذلك أن العاطفة بطبيعتها ليست طيّعة، حتى أمام المقاييس العلمية الدقيقة، ولهذا سوف يقتصر الحديث هنا على ما تقوله بعض الأغاني عن الصحة العاطفية، في بلدٍ تمزّقه منذ أكثر من عشر سنوات، أزمات سياسية واقتصادية مزمنة، ناهيك عن حرب شديدة التعقيد.

ثراء التنوع

من الناحية الفلكلورية، قد يزيد عدد ألوان الغناء في اليمن عن عشرة، إلّا أن السائد منها بفعل الأغاني المُؤدّاة عبر فنانين معروفين، بالكاد يبلغ نصف هذا العدد. السبب في كثرة هذه الألوان يرجع بالدرجة الأولى إلى تعدد اللهجات المحلية، النابع بدوره، على الأرجح، من تحوُّل وتحوُّر مفردات اللغة اليمنية القديمة (العربية الجنوبية القديمة)، مندمجةً في المحكية الشعبية تارةً، وفي الفصحى تارةً أخرى. من هذا الثراء اللغوي، بشقّيه العامّي والفصيح، احتفظت الذاكرة الشعبية، وما بقي من مخطوطات بعض الإخباريين، بقصائد غنائية عادةً ما يكون موضوعها الحب والغزَل. وفي هذا السياق، يرى عبدالعزيز المقالح، أن "أقدم وثيقة كاملة الدلالة عن هذا النوع من القصيدة الشعبية"، أيْ القصيدة "الملحونة"، تظهر في الجزء الرابع من كتاب ياقوت الحموي "معجم البلدان". بيتان يتيمان لشاعر غير معروف، سمعهما الحموي من أحد مثقفي القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) فدوّنهما في سياق وصفه لـ"غيل صنعاء"[1]، الذي كان يسمّى آنذاك "غيل البَرْمَكي"، وشبّه به الشاعر غزارة دموعه بسبب طول غياب حبيبته. وابتداءًا من القرن الثامن الهجري، بحسب المقالح - المعروف بمكانته الشعرية والنقدية الكبيرة، واهتمامه المبكر بشعر العامّية - تمّ تدوين وحفظ العديد من قصائد الشعر الغنائي التي ما زال بعضها يُغنّى إلى اليوم.

وعلى الرغم من أن هذا ينطبق تحديداً على لون الغناء الصنعاني، فإن ألوان المناطق الأخرى لا تقلّ عنه ثراءً. وإذا كان شعرها الغنائي لم يحظ بأصوات تخلّده بألحان يتناقلها مطربون ومغنّون، فقد تناقلته ألسن الرجال والنساء في قالب الأهزوجة التي غالباً ما تتفاوت ألحانها بين منطقة وأخرى. لطالما ظلّت الأهزوجة والقصيدة الشعبية غير المغنّاة، وإلى حدّ مّا الأمثال الشعبية، بمثابة حوافظ شديدة المتانة والسِّعة للفلكلور، الأمر الذي مكّن الشعراء الغنائيون والفنانون من استلهام آلاف القصائد والألحان أو إعادة إنتاجها استناداً إليه.

شكلت عدن قِبلة لفناني المحافظات الشمالية والشرقية لتسجيل أغانيهم، والتواصل مع ألوان الغناء العربي، وعلى الأخصّ من مصر ولبنان.

ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين، شهدت الساحة الفنية في اليمن دراسات بحثية عديدة في فنّ الغناء التقليدي والشعبي. دراسات تركّزت أهدافها على موضوعات الأغاني الحِكميّة، الثورية، والوطنية، بينما بقي الموضوع العاطفي مدروساً بضآلة شديدة، وغالباً ما تنحصر دراسته في ظلال التجربة الفردية لهذا الشاعر الغنائي أو ذاك. لماذا؟ ومن الذي يُفترَض به التنقيب في أسباب عذابات المحبّين وخيباتهم، وفي أسباب الانفلات الحسّي في كثيرٍ من القصائد الغنائية إلى درجة جرح كرامة المرأة تارةً، وإذلال الرجل تارةً أخرى؟

بين الحرمان والمجون

معلومٌ أنّ لهاتين الحالَين بُعدٌ إنساني لا ينحصر في جغرافيا محددة، ولا في أمّة بعينها، كما لا يحدّ من تكرارهما الزمن والتطوّر البشري. فأول حبّ بين رجلٍ وامرأة لم يبدأ بقصة "باريس وهيلين"[2]، ولن ينتهي بقصة "الأمير هاري وميغان ماركل". قصص الحب تحدث كل يوم، في كل مكان، لكن الغالبية العظمى من أبطالها مغمورون، وقد يلجؤون إلى كتمان الحبّ خشية "الحسّاد"، و"العذّال"، و"الوُشاة"، وغير ذلك من الأوصاف الأيقونية التي لطالما كرّسها الشعراء الغنائيون. ولأن كلّ المحبّين والعشاق ليسوا بالضرورة شعراء، بل يمكن حتى أن يفتقروا إلى مهارة التعبير عن شعورهم بالحبّ، فهم غالباً ما يبحثون عن قصيدة أو أغنية تعبّر عن المشاعر المتّقدة في أعماقهم.

قبل وصول الغراموفون والفونوغراف إلى عدن في مطلع القرن العشرين، لم يكن بوسع أبطال قصص الحب، على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، أن يستمعوا إلى أغنية مسجّلة. ثمّ جاء الشريط المغناطيسي فجعل الأغاني في متناول جميع فئات الشعب. وعلى الرغم من الطفرة الملحوظة في إنتاج الأغاني خلال النصف الثاني من القرن العشرين، تحوّل الشباب إلى سماع الأغاني العاطفية العربية، وإلى حدّ مّا الأغاني الأجنبية باللغة الإنجليزية. ومع حلول عقد التسعينيات من القرن الفائت، أصبحت الأغاني العربية هي الخيار الأول للمستمع اليمني، مع احتفاظه بتقدير الفن اليمني باعتباره تراثاً أصيلاً، بما يحمله هذا الوصف من إشارة إلى توجّه فنّاني تلك الفترة نحو إعادة إنتاج كلاسيكيات الأغاني اليمنية، وتأليف أغانٍ جديدة بمزاج القرون الماضية. عدن كانت استثناءً، إذ شكّلت قِبلة لفناني المحافظات الشمالية والشرقية لتسجيل أغانيهم، والتواصل مع ألوان الغناء العربي، وعلى الأخصّ من مصر ولبنان. وإذا ما بحث المرء عن أسباب هذا العزوف عن الاستماع إلى الأغاني العاطفية ذات الخصوصية المحلية، فسيكون السبب الرئيسي كامناً في عدم مواكبتها للتطور العاطفي غير الملحوظ في وجدان فئة الشباب. ففي أزمنة الاستبداد والاستعمار، كانت القصيدة الغنائية العاطفية تتّسم بطابعين رئيسيين: إما الشكوى من الحرمان وغياب المحبوبة، أو الغزل الحسّي المتكشِّف عن المجون وإن تقنّع بنظيره العُذري.

في ما يتعلّق بالشكوى من الحرمان، فهي ثيمة متكررة في معظم الأغاني اليمنية العاطفية، والأمثلة على ذلك بلا حصر، مثل: "سالتْ دموعَ العينْ * في ذمَّتَكْ يا زينْ"؛ "عذبتنا يا خفيف الروح عذبتنا * يا نوب [يا نحل] وين الجنا"؛ "ظالم شَغَلْ بالي * بعد الجفاء والبَينْ"... إلخ.

من ناحية أخرى، تمثِّل قصيدة "صادت فؤادي"، للشاعر محمد عبد الله شرف الدين، الملقب بالكوكباني (1524-1601م) نموذجاً للقصيدة الغنائية المشبعة بالغزَل الحسي المقنّع بالغزَل العذري. فبعد السطر الأول من المقطع الأول، الذي يقول فيه: "صادت فؤادي بالعيون المِلاحْ..."، يستمر الغزَل العذري لأربعة مقاطع، كلّ منها مؤلَّف من أربعة سطور. ثمّ يقفز في المقطع الخامس إلى صدر المحبوبة مباشرةً: "في صدرَها الفضّيْ تفّاحتين...". ثم يتفاعل الحسّي والعُذري ويتناوبان، وصولاً إلى ذروة الانفعال الحسّي:

"من علّمَكْ يا بابليّ العيونْ * هذي المعاني الحالية والفنونْ* نهبت عقلي بالمَلَقْ والمجونْ * وحُسْنِ فاتِنْ كمْ عليهْ روحْ راحْ".

هناك العشرات من القصائد الغنائية على شاكلة "صادتْ فؤادي"، سواءً عاش شعراؤها في القرن السابع عشر الميلادي أو في القرن العشرين، وهي ما زالت تُغنّى إلى اليوم. في هذه القصائد ما تتداخل فيها الشكوى من الحرمان دون إخفاء اللهفة الحسّية للقاء المحبوبة التي عليها أن تتلقّى عتاب الحبيب، برقّته وقسوته ونزواته، بسبب صدّها وعدم استجابتها لنداء الشوق والغرام. في إحدى غنائيات القرن التاسع عشر الميلادي، يصف الشاعر أحمد عبدالرحمن الآنسي فتاةً حسناء كالتالي:

"على جبينْ أخجلْ بُدُور التمامْ * ورَدّ [جعل] طَرْفَ الشمسْ حائرْ؛ وثَغرِ حاليْ زانَهُ الابتسامْ * قد نُظِّمت فيه الجواهر؛ واكْعابْ [نهود] مثل الِّليم [البرتقال] فيها احتكام * صنعة حكيم الصنع قادرْ...؛ وافخاذْ تِحكيها غصون السلامْ * والفرق مثل الصبح ظاهرْ".

وسواءً كانت فتاةً أو امرأة متخيّلة أم حقيقية، فقد اعتاد الشعراء التقليديون في اليمن تغليف وترميز المقاصد الحسّية، أو تسريبها ببعض الكلمات الصريحة في قصائدهم، تماماً كما اعتادوا بدء القصيدة بالبسملة وختمها بالصلاة على النبي، لكي يتفادوا غضب السلطة الدينية ممّا يكتبون. علاوة على ذلك، كان روّاد الشعر الغنائي آنذاك ينتمون إمّا إلى الطبقة الحاكمة أو إلى طبقة الأعيان، بحسب الباحث في الموسيقى جمال حسن. وهنا يتساءل المرء: هل كان سقف الغزَل الحسّي مفتوحاً للشعراء الذين يمتلكون السلطة، ما دامت الحسناء موضوع الغزل تنتمي إلى مرتبة أدنى في نظام اجتماعي متأصلة فيه الطبقية؟ وهل سيبقى هذا التساؤل منطقياً لو عرفنا أن هناك من يقول إنّ أغنية "صادت فؤادي" كتبها الشاعر، الذي ينتمي إلى الطبقة الحاكمة أيضاً، في زوجة الإمام المطهر بن شرف الدين، حاكم اليمن الشمالي آنذاك؟ هل يُعقل أن يكون الإمام المعروف ببطشه وتعطّشه للدم، هو من طلب من الشاعر كتابة تلك القصيدة الماجنة في زوجته؟

تُمثِّل قصيدة "صادت فؤادي"، للشاعر محمد عبد الله شرف الدين، الملقب بالكوكباني (1524-1601م) نموذجاً للقصيدة الغنائية المشبعة بالغزَل الحسي المقنّع بالغزَل العذري. فبعد السطر الأول من المقطع الأول، الذي يقول فيه: "صادت فؤادي بالعيون المِلاحْ..."، يستمر الغزَل العذري لأربعة مقاطع، كلّ منها مؤلَّف من أربعة سطور. ثمّ يقفز في المقطع الخامس إلى صدر المحبوبة مباشرةً!

أبعد من سقف الغزل المفتوح هذا، ومن خلال واحدة من عيون الغناء الصنعاني، وثّق الشاعر أحمد عبدالرحمن الآنسي - وهو بالمناسبة من طبقة القُضاة - جريمة بشعة ارتكبها، في أواخر القرن الثامن عشر تقريباً، أحد أمراء الطبقة الحاكمة بحقّ فتاة من طبقة أدنى. كانت فتاة جميلة وصوتها عذب، ويبدو أنها كانت تغني في الأعراس والمناسبات الاجتماعية. ومع ذيوع جمالها وعذوبة صوتها، أراد الأمير سيء الذكر الاستئثار بها لنفسه، فأقام حفلة في داره ودعاها لإحيائها، لكن ما أن انتهت الحفلة حتى استدرجها إلى مخدعه وراودها عن نفسها. عندما رفضت، حاول اغتصابها، ثم تصاعد العراك إلى غرس خنجره في رقبتها. ويتّضح من سياق القصيدة وتعدّد روايات القصة، أن الشاعر الآنسي كان يستلطف الفتاة المغدورة، ومن يدري إذا ما كان كتب لها بعض القصائد لكي تغنيها. ولأنه رجل سلطة، لا بدّ أنه أيضاً كان يتوقّع نوايا الأمير، فنصحها بعدم الذهاب إلى حفلتها الأخيرة.

لعلّ أكبر حمولة تراجيدية تضمنتها قصيدة غنائية يمنية، موجودة في هذه القصيدة، لذلك نقتبس منها الأبيات التالية:

"يا حمامي أمانةْ ما دهاكْ * طِرْتْ مِن بُقْعتَكْ حيثَ الأمانْ؛ سُقتْ نفسَكْ إلى بحر الهلاكْ * ما تخاف من صُروفات الزمانْ"، وصولاً إلى: "وأنتَ تِسْجَعْ ويِطرِبْنا غُناكْ * وافترقنا وما قد لكْ ثمانْ [أسبوع]؛... قد نَهيتَكْ وما تمّ الكلام * لا حذرْ يا حمامي من قَدَرْ؛ أوقَعَكْ قِلّ فَهْمَكْ في شباكْ * المنايا فَكَمْ ذا الامتحان". ثم يصوّر جانباً من الجريمة الشنيعة: "لو سِمِعْ يا حمامي نغمتكْ * كان شايِفْلِتَكْ [سيُفلتك] من قبضتِهْ؛ غير أجرى دمكْ من مقلتكْ * أسأل الله يعمي مقلتِهْ؛ قادر الله يِهلِكْ من أَذَاكْ * واحْرَمَكْ طِيْبْ عَيشَكْ ثمّ خان".

من الناحية الواقعية، لا يخلو مجتمع من جرائم عاطفية مماثلة، عادةً ما تكون المرأة هي الضحية فيها. وإذا ما استعرضنا الأغاني العربية بطريقة استكشاف الصحة العاطفية، سنجد أن الأغاني اليمنية ليست استثناءً، سواءً من حيث شكوى المحبّين من الهجر والصدّ المُذلّ، والعذاب المُفضي إلى ذرف الدموع، أو من حيث الاندفاع الحسّي، أو في أفضل الأحوال، اختلاط الشوق بالرغبة الجسدية.

من ذرف الدموع إلى التحدي

باستثناء الأهازيج، ظلّ صوت السارد في القصيدة اليمنية المُغنّاة، حكراً على الرجل. حتى الأغاني التي كان صوت المرأة يأخذ فيها موقع السارد، غالباً ما يكون كتّابها رجال ومغنّوها رجال أيضاً. بالطبع كانت هناك نساء يغنّين في حفلات النساء على غرار الحمامة المغدورة والأمير السفّاح، لكن المرأة لم تبدأ في الانخراط في المشهد الفني العام وتسجيل أغانٍ خاصة بها، إلّا في النصف الثاني من القرن العشرين. في الأغاني العاطفية بصورة عامة، كان وما زال الرجل هو من يذرف الدموع أمام المحبوبة العنيدة. وعلى الواقع، المرأة هي من تبكي أكثر، لكنها تعرف أنها قد تنزف دمها إذا ظهرت دموعها بسبب اضطرارها إلى فراق رجل تحبه أو إلى الزواج من آخر لا تحبه. يمكن للأسرة وللمجتمع تفهّم بكاءها لموت زوجها أو حين يهاجر بحثاً عن الرزق في بلد آخر، لكن ليس لأجل حبيب. ولأسبابٍ، من بينها التقاليد الاجتماعية وتفشّي الأمّية، كان بعض الشعراء الغنائيين والفنانين هم من يتطوّعون في كتابة وأداء أغانٍ تُعبِّر عن النساء اللاتي تسوقهن أقدارهن إلى مثل هذه الخيارات المرّة. لطالما صوروهن في هذه الأغاني باكيات لأسباب عاطفية عديدة، وهم مُحقّون في ذلك، على الأقلّ جزئياً، لأن خبرات الحياة وسجالات علماء النفس تخبرنا بأنّ الرجل بطبيعته هو من يطلب ودّ المرأة، وأن للمرأة قدرةٌ مذهلة، لا تقاس بقدرته، على الانضباط العاطفي. وهناك أيضاً ما يسمّونه الشفرة العاطفية للمرأة، التي تتطلّب من الرجل بذل جهد يرضيها أولاً لفكّ هذه الشفرة، سواءً أرسلتْ له تلميحاً أم بالغت في اختبار استحقاقه لوصلها.

سواءً كانت فتاةً أو امرأة متخيّلة أم حقيقية، فقد اعتاد الشعراء التقليديون في اليمن تغليف وترميز المقاصد الحسّية، أو تسريبها ببعض الكلمات الصريحة في قصائدهم، تماماً كما اعتادوا بدء القصيدة بالبسملة وختمها بالصلاة على النبي، لكي يتفادوا غضب السلطة الدينية ممّا يكتبون.

هل كان سقف الغزَل الحسّي مفتوحاً للشعراء الذين يمتلكون السلطة، ما دامت الحسناء موضوع الغزل تنتمي إلى مرتبة أدنى في نظام اجتماعي متأصلة فيه الطبقية؟ وهل سيبقى هذا التساؤل منطقياً لو عرفنا أن هناك من يقول إنّ أغنية "صادت فؤادي" كتبها الشاعر، الذي ينتمي إلى الطبقة الحاكمة أيضاً، في زوجة الإمام المطهر بن شرف الدين، حاكم اليمن الشمالي آنذاك. 

لكن هل هذا مبرِّر كافٍ لبكاء الرجل بهذه الغزارة في أغانينا؟ لا شكّ في أن كتّاب الأغاني يبالغون في ذرف الدموع، إمّا لتوفير الجهد الذي عليهم أن يبذلوه لكي يستحقوا الفوز بقلب المحبوبة، أو لعدم إدراكهم مبكراً لأهمية التوافق العاطفي. ما الذي يمكن أن يجذب امرأة في أغنية من قبيل: "أحباب يا احبابْ إنْ جاكُم [جاءكم] مطرْ في لَيلْ * لا تِحسبوا انُّهْ مطر ذا دمعِ عيني سَيلْ"؟ وهل ستعود امرأة إلى رجل يقول: "أبكي زماني مضى في الحبّ كلِّهْ عناء * اسألْ عليّ دموعي والليالي شهود؛ أرعى نجوم الأحبّة في طريق المنى * واسَنِّب [أقف] الليل كلّه في انتظاره يعود"؟ ما الجواب الذي يتوقعه محبٌّ من محبوبته حين يسألها: "فما لَكْ إذا رقّ قلبي قسيتْ * وجاهرتْ بالبغضاء"، إذا كان لتوّه قال لها في البيت السابق: "أنا مَنْ بِحبَّكْ وعشقَكْ رضيتْ * وبالغير لا أرضى"؟ لا يتعلّق الأمر بمخاطبته لها بصيغة المذكّر، ففي مجتمع محافظ كاليمن، تتفهّم النساء هذه الصيغة، لكن كيف ستستقبل عاطفة امرأة كلمات يمنّ فيها الرجل عليها حبّه وعشقه، ويقارنها بنساء سبق أن رفض حبّهن؟ المشكلة هنا أن العمى العاطفي يتصاعد تباعاً بتباهي هذا العاشق بفرادته، إذْ يخاطب منافساً مفترضاً بالقول: "أيا مَنْ بحبّ المِلاحْ يدّعي * أنا أكبرَ العشّاق؛ إذا كانْ معكْ في الهوى ما معي * من الوَجدِ والأشواقْ؛ فساجِلْ بدمعَكْ غزيرْ أدمُعي * ولا تطلب الإشفاق"!

في مثل هذه الأغاني المليئة بـ"دموع العشاق"، غالباً ما يتم تصوير المرأة كما لو أنها كائناً عديم الرحمة، دون التنبّه إلى انتقائية العاطفة الأنثوية السويّة، وحساسيتها الفطرية إزاء الكلمات الخادشة لكرامتها من ناحية، ونفورها من القسوة المُذلَة للرجل من ناحية أخرى. فذلك النوع من النساء اللاتي يستمتعن بتعذيب الرجل المحبّ وإذلاله، بعيدات عن السويّة الأنثوية، إلّا إذا كنّ يدافعن عن أنفسهن في مواجهة عنفٍ ذكوري محتدم، وهو دفاع يغلب عليه طابع الحيلة التي لا يستطيع رجلٌ مجاراتهن فيها.

خلال السنوات العشر الأخيرة التي شهد فيها اليمن حرباً لم يقتصر تأثيرها الكارثي على الاستقرار السياسي والاقتصادي، ظهرت تجارب غنائية يمكن اعتبارها انتقالاً من البكاء إلى التحدّي العاطفي بين الرجل والمرأة. حتى مع انخفاض جودة المفردة الشعرية في هذه الأغاني وإيغالها في الطابع الشعبي، تبقى جديرة بالدراسة باعتبارها انعكاساً لأزمة عاطفية ممتدة. الجديد في هذه التجارب أن صوت المرأة صار حاضراً من خلال فنانات كانت أصوات أمهاتهن وجدّاتهن محصورة في غُرف الحفلات النسائية، ثمّ جاء التطوّر التقني لوسائط الميديا والإنترنت، فأتاح لهنّ التحليق في الأثير لالتقاط أصوات جميع أسلافهن المقموعات والمغدورات، وتسجيل أغانيهن ونشرها. أمّا المفارقة فتكمن في أن الكثير من أغاني المواجهة العاطفية الجديدة، يكتبها شعراء بصوت امرأة أكثر ممّا تكتبها شاعرات. على سبيل المثال، لو لم تكن كلمات الأغنية التالية مذيّلة باسم شاعر، لاعتقدنا أن شاعرة هي التي كتبتها: "شاعاندكْ في كلّ شيْ * حِناكْ لَوْمَا اجَنِّنَكْ؛ أجِيْ أراضيكْ العَشِيْ * وامسحْ دموعَكْ واحضُنَكْ؛ واعاهِدَكْ واطبَعْ وَشِيْ * ما عادْ ازِيْدْ واطمِّنَكْ؛ وارجع اسوِّيْ كلّ شِيْ حِناكْ لَوْما اجَنِّنَكْ". والمعنى أنها ستعانده في كلّ شيء نكايةً به إلى أن يفقد عقله، ثم ستأتي في المساء لتصالحه وتعاهده، من خلال طبْع وجهها بألّا تعود إلى العناد والنكاية به. طبع الوجه هو تقليدٌ يمني قديم يتعامل به الرجال، للتأكيد على الوعد. وفي استخدام المرأة لطبع الوجه هنا إشارة ضمنية إلى الوعود التي يقطعها الرجل لزوجته بمنحها ما تطلبه منه أو الإقلاع عن أمور تزعجها، لكنه لا يفي بوعوده. لذلك، تخبره بأنها ستطبع وجهها كما يفعل معها، ثم تعود إلى العناد والنكاية به إلى أن يفقد عقله. كما تقول في بقية كلمات الأغنية إنها لم تعد تجد حرجاً في أن تخبره بذلك صراحةً لأنه سبق أن أوصلها إلى الجنون، ولذلك سوف تتقاسم جنونها معه، وتعلّمه كيف يكون وقع التحجّج بالنسيان لتبرير خلف الوعد.

هناك أغانٍ كُثر من هذا النوع، وهناك ما يقابلها من أغانٍ بصوت الرجل، كما لو أن الأمر أصبح سجالاً صريحاً بين المرأة والرجل. على سبيل المثال، تقول كلمات أغنية بصوت رجل: "أنا وَرِّيكْ من عيني * إذا ما اغيبْ وابَكِّيكْ؛ إذا ما اشْفي غليلي فيكْ * والّا لا تسمّيني". وأخرى يقول فيها رجلٌ أيضاً: "أحيانْ احبّكْ وأحيانْ اكرهكْ * واحيانْ ادوِّرْ من الدنيا سلاكْ [رضاك]؛ ولا لقيت في الهوى من يشبهكْ * أحيان شيطانْ وبعض احيانْ ملاكْ".

ما الذي يقوله علم النفس؟

بالتأكيد، لا تكفي هذه النماذج من الأغاني للنفاذ إلى عُمق ما يحكيه الشِّعر الغنائي عن الصحة العاطفية لليمنيين. لكن بقاء هذا الجانب من الصحة غير مطروق من قبل المختصين والمهتمّين، يدفع المرء، على الأقل، إلى طرقه ولو من خلال النقر عليه بمفاصل أصابعه. قد نجد علامةً لاعتلالٍ هنا أو مؤشراً لعافيةٍ هناك. صحيح أنه جانبٌ حساس وشائك، وأنّ الأداء الوظيفي للعاطفة عموماً - سيما بين الرجل والمرأة - ينطوي على إشكالية عابرة لطبيعة النفس البشرية، لكن ما الذي يمنع الأطباء والباحثين في علوم النفس والأعصاب والاجتماع من دراسة الأغاني العاطفية باعتبارها إحدى مُخرجات اللاوعي الجمعي، ومؤشراً للصحة العاطفية؟ أليست الصدمات العاطفية في طليعة أسباب الاضطرابات النفسية والعصبية، واختلال العلاقات الاجتماعية؟

باستثناء الأهازيج، ظلّ صوت السارد في القصيدة اليمنية المُغنّاة، حكراً على الرجل. حتى الأغاني التي كان صوت المرأة يأخذ فيها موقع السارد، غالباً ما يكون كتّابها رجال ومغنّوها رجال أيضاً. بالطبع كانت هناك نساء يغنّين في حفلات النساء، لكن المرأة لم تبدأ في الانخراط في المشهد الفني العام وتسجيل أغانٍ خاصة بها، إلّا في النصف الثاني من القرن العشرين.

في الأغاني العاطفية بصورة عامة، كان وما زال الرجل هو من يذرف الدموع أمام المحبوبة العنيدة. وعلى الواقع، المرأة هي من تبكي أكثر، لكنها تعرف أنها قد تنزف دمها إذا ظهرت دموعها بسبب اضطرارها إلى فراق رجل تحبه أو إلى الزواج من آخر لا تحبه. 

يقول "ثيودور رايك"، منتقداً توسيع "فرويد" لمفهوم الجنس بحيث يشمل الحبّ والحنان والصداقة، إن الجهد الذي بذله هذا الأخير لم يكن فعلياً سوى دوران حول مشكلة الحبّ دون حلّها. وبالتالي، فقد بدت العاطفة للمحللين النفسيين من أتباع "فرويد" المخلصين، كما لو أنها "نسخة هزيلة من الرغبة الجنسية". يرى "رايك" أن الحب والجنس أمران مختلفان: الجنس مقيد إلى الجسد، والحب إلى الروح، وإذ يهدف الجنس إلى الإرضاء الجسدي، يهدف الحب إلى إثراء الشخصية وتضخيمها، في حين تهدف دوافع الأنا إلى تحقيق الانتزاع والسيطرة.

مقالات ذات صلة

لكن لماذا تبدو رؤية فرويد للوحدة الموجودة بين الحب والجنس أكثر إقناعاً لعامة الناس؟ لقد درس آلاف الحالات لكي يتوصل إلى نتائجه العلمية، فأين أخطأ؟ هذا ما يحاول "رايك"، تلميذه المتمرد على مدرسته الإجابة عنه في كتابه "سيكولوجيا العلاقات الجنسية"[3] (ترجمة ثائر ديب). فهو يفترض أن "الجنس كان له في الأصل طابع العراك"، حيث كان الرجل يغتصب المرأة أكثر مما يعانقها، وأن "أنثى ما قبل التاريخ" كانت تلجأ إلى عضّ الرجل المعتدي أثناء ذلك العراك. وإذ يخلص إلى القول إن البشرية اضطرت إلى "قطع طريق طويل من العضّة إلى القُبلة"، يرى أن "الدافع الجنسي لدى الأطفال والقبائل البدائية" يعتبر أفضل مصدر للحصول على المعلومات اللازمة للبحث السيكولوجي لهذا الدافع.

______________________

  1. الغيل هو الماء الجاري على الارض
  2. باريس وهيلين أشهر قصص الحب وفقاً للأساطير اليونانية، وقد تسبب الحبّ الذي جمع بينهما في سقوط طروادة.
  3. - الصادر عن دار المدى، بغداد، 2005

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه