"المُلالاة" ترنيمة المرأة الريفية في اليمن

تقوم "المُلالاة" بشكلٍ رئيس على معاناة المرأة الريفية في اليمن من تداعياتِ غربةِ الزوج خارج الوطن، وما يترتب على هجرته من اضطلاع الزوجة بمسؤوليةِ إعالة الأسرة والاعتناء بالأرض، سيما وغياب بعض المهاجرين يمتد لسنوات طويلة، بينهم مَنْ تتعثر حظوظه، فلا يظفر بالمال الذي كان سبباً في هجرته، ومنهم مَنْ تنقطع أخباره فتستحيل عودته.
2023-05-11

عبده منصور المحمودي

استاذ جامعي وشاعر وناقد، اليمن


شارك
مظهر نزار - اليمن

"المُلالاة" موروثٌ شعبي غنائي يمني، تحيل مضامينه على تجارب حياتية موجزة في أبيات شعرية ذات وزنٍ موسيقيٍّ واحد، كل بيتٍ منها مستقلٌ بقافية خاصة به، يشترك فيها صدره وعجزه. كما يتبع كل بيتٍ ــ عند الغناء ــ المقطع الصوتي": "ألَا ليَليْ لَيْلي لَيْلي لَي لَي لَيييييي"، الذي تبدأ به كل "ملالاة"، وإليه تعود تسميةُ هذا اللون الفني من الثقافة الشعبية اليمنية، الذي تشتهر به أرياف محافظة "تعز"، ويتناقله التداول الشفاهي أجيالًا متعاقبة، مع إغفالٍ عفويٍّ لاسم مؤلفه، أفضى إلى أن ينتظم كثيرٌ منه في نسق الإبداع الشعبي "مجهول المؤلف".

المرأة والغربة

تقوم "المُلالاة" بشكلٍ رئيس على معاناة المرأة الريفية في اليمن من تداعياتِ غربةِ الزوج خارج الوطن، وما يترتب على هجرته من اضطلاع الزوجة بمسؤوليةِ إعالة الأسرة والاعتناء بالأرض، سيما وغياب بعض المهاجرين يمتد لسنوات طويلة، بينهم مَنْ تتعثر حظوظه، فلا يظفر بالمال الذي كان سبباً في هجرته، ومنهم مَنْ تنقطع أخباره فتستحيل عودته.

تعيش زوجة المهاجر اليمني ــ في هذه الحال ــ واقعاً قاسياً، فتتخذ من هذا الموروث الغنائي سبيلاً للتخفيف من معاناتها، تنتقي منه ما يتسق مع خصوصية حياتها واحتياجاتها، تترنم به ناضحاً بمشاعر الحزن والأسى، منه ما تخاطب فيه الحبيب البعيد، كلما داهمتْها ليلةُ الخميس من كل أسبوع، بما في هذه الليلة من خصوصية مجبولة على الأنس والسعادة:

"ليلةْ خَمِيْس، يا مُغْتَربْ بِـ "جُدَّةْ" *** وانِيْ أَحِنْ نُهْدَةْ تَجُرّ نُهْدَةْ".

ومنه ما تشتعل معانيه بالعتاب في رسائل المرأة، شفويةً وكتابيةً ومجازية، يحملها الطير المجازي المتعاطف في بكائه مع خطاب الحزن والآهات الشجية:

كتبتُ لكْ مكتوبْ يُبَكِّي الطيْرْ *** لا سامحكْ ربي، ولا الْحَقَكْ خير
أَطَلِّعَ النُّهْدةْ واني بلا روح *** خلوا على اللهْ كل قلب مجروحْ.

وتتسع "الملالاة"، فتشمل موضوعات بعيدة عن معاناة الغربة، كأن تُرَدّدها المرأة وهي تهدهد طفلها الرضيع في حضنها، حتى يغشاه النوم. أو تتغنّى بمقاطع خاصة منها متسقة مع ما تعيشه من تجربة عاطفية، أو تجربةِ فقْدِ عزيزٍ، أو شعورٍ بظلمٍ أو انكسار. وفي هذا الفضاء الذي تتنوع فيه "الملالاة"، تشير رئيسة "بيت الموروث الشعبي اليمني"، الأستاذة أروى عثمان، إلى أن "المرأة تقوم بغناء الملالاة للتنفيس عن نفسها أو للتعبير عن مكنوناتها العاطفية أو أثناء قيامها ببعض الأعمال، وليس فقط للتعبير عن معاناتها بسبب غياب الزوج أو الابن، حيث تكتسي ملالاة المرأة اليمنية بألوان الحزن والألم والحنين واللوعة، ولا تخلو من الفرح والنشوة".

خلال السنوات الأخيرة من الحرب اليمنية، التي اندلعت شرارتها الأولى في 25 آذار/مارس 2015، ظهرت مبادرات شبابية، تستهدف التراث الشعبي بما في ذلك الأغنية الشعبية. كانت غاية تلك المبادرات هي التعريف بهذا الإرث الإنساني الثقافي، والحفاظ عليه من النسيان والضياع.

وعلى ما في هذه الجهود الشبابية الجديدة من إيجابيةٍ في التعاطي مع هذا الموروث والمحافظة عليه، إلا أنها لم تبلغ مدىً بعيداً في تقليص الفجوة الهائلة بين حيويته الاجتماعية وبين ما يحتاج إليه من دراساتٍ واشتغالاتٍ منهجيةٍ تكفي لأن يستضيء بها المهتمون، ويسترشد بها الباحثون في أنثروبولوجيا الشعوب وتاريخها الثقافي.     

ومن هذا الفن الشعبي ما يأتي على لسان الرجل، وهو ما اصطلحت عليه المحكية اليمنية بتسميةٍ خاصةٍ به: "المَهْجَل". يتميز أداؤه بنبرةِ الصوت الشديدة، خلافاً لما هي عليه "مُلالاة" النساء من ميزةٍ في طبقاتها الصوتية الرقيقة والهامسة.

ويغلب أن يكون الرعاة هم مَنْ يستمتعُ بترديد "المهاجل" وسماعها على قمم الجبال، ومثلهم الفلاحون المنهمكون في أعمال الأرض والزراعة على اختلاف مواسمها ومراحلها: بذراً، وعنايةً، وحصاداً. كذلك قد يتغنى الرجل بـ "مَهْجلٍ" من "المهاجل" الخاصة بمواقفَ غزلية، ذات غايةٍ وجدانيةٍ ومعانٍ متجانسةٍ مع عاطفته تجاه فتاةٍ استحوذت على مشاعره.

محاولاتٌ لم تكتمل

في سبعينيات القرن العشرين الفائت، حاول عددٌ من كبار الفنانين اليمنيين استلهامَ ألحانِ "الملالاة"، وتوظيفها في أغانيهم، كالفنان أيوب طارش عبسي، والفنان عبد الباسط عبسي الذي وظّف "المُلالاة" في مقدمة أغنيته "مسعود هَجَر"، التي أصدرها في العام 1972، ونالت شهرة واسعةً ممتدةً حتى اللحظة الراهنة، كتب كلماتها الشاعر سلطان الصريمي، على لسان امرأةٍ معذبةٍ بهجرةِ زوجها بعد أسبوعٍ واحدٍ من حفل زفافهما. طال غيابه، ولم تأت الأنباء عنه بجديد، كما لم تصل إليه بُشرى ارتزاقه مولوداً، ولا تداعيات غربته على أسرته الصغيرة المنهكة بالفقر والمرض.

"ليلةْ خَمِيْس، يا مُغْتَربْ بِـ "جُدَّةْ" / وآِنيْ أَحِنْ نُهْدَةْ تَجُرّ نُهْدَةْ.
كتبتُ لكْ مكتوبْ يُبَكِّي الطيْرْ / لا سامحكْ ربي، ولا الْحَقَكْ خير
أَطَلِّعَ النُّهْدةْ وآني بلا روح / خلوا على اللهْ كل قلب مجروحْ". 

وفي السياق ذاته، يؤكد الكاتب اليمني ريان الشيباني، على هذه المحاولات في فترة من تاريخ الأغنية اليمنية، حيث اشترك الشاعر سعيد الشيباني مع الفنان الراحل أحمد بن أحمد قاسم، في العمل على توظيف الموروث الريفي في إنتاج أغانٍ عدنية. ومثلهما الراحلان: الزعيم اليساري عبد الفتاح إسماعيل، والفنان محمد مرشد ناجي (1).

لم تتجاوز تلك المحاولات المحدودة بداياتها غير المكتملة. فقد ظل هذا الفن مرتبطاً بشعبيته الاجتماعية الريفية، ولم يحظ بدراساتٍ موسيقية تستبطن ما فيه من إمكانياتِ تطويرٍ، تنتقل به إلى مستوىً من الأداء المتميز المتكئ على أصوله اتكاءً مدروساً، وفقاً لما يراه رئيس البيت اليمني للموسيقى الفنان فؤاد الشرجبي.

حربٌ ومبادرات شبابية

خلال السنوات الأخيرة من الحرب اليمنية، التي اندلعت شرارتها الأولى في 25 آذار/مارس 2015، ظهرت مبادرات شبابية، تستهدف التراث الشعبي بما في ذلك الأغنية الشعبية. كانت غاية تلك المبادرات هي التعريف بهذا الإرث الإنساني الثقافي، والحفاظ عليه من النسيان والضياع. وفي ذلك "يبدو الأمر كما لو أن الفنون شكلت ملاذاً جاذباً للفارين من ويلات الحرب، وفعل مقاومة للدمار الذي تحدثه في الإنسان وسياق حياته الفردية والجمعية"، على حد تعبير الكاتب اليمني لطف الصراري (2).

من هذا الفن الشعبي ما يأتي على لسان الرجل، وهو ما اصطلحت عليه المحكية اليمنية بتسميةٍ خاصةٍ به: "المَهْجَل". يتميز أداؤه بنبرةِ الصوت الشديدة، خلافاً لما هي عليه "مُلالاة" النساء من ميزةٍ في طبقاتها الصوتية الرقيقة والهامسة.

نالت "الملالاة" نصيباً وافراً من هذا الاهتمام، حيث كان الدور البارز في ذلك للفرقة الموسيقية "مشاقر تعز"، التي أنشأتها الفنانة هاجر نعمان بمعية عددٍ من أصدقائها الشباب والشابات. كما تداول القائمون على هذه المبادرات مقاطع وتسجيلات من "الملالاة" على صفحاتهم في السوشيال ميديا وقنوات اليوتيوب. فتمخضّ عن مُجْملِ هذه الجهود الشبابية انتشارٌ واسعٌ لـ "الملالاة"، وظهورٌ لأشكال جديدة منها، متنوعة بتنوع موضوعاتها، التي يجمعها ارتباطُها بيوميات الإنسان اليمني وواقعه المعاصر، سيما ما يتعلق منها بالحرب، وكارثيتها التي ظهرت أشجانًا غنائية في هذا اللون من التراثي الشعبي.

وعلى ما في هذه الجهود من إيجابيةٍ ملموسة في التعاطي مع هذا الموروث والمحافظة عليه، إلا أنها لم تبلغ مدىً بعيداً في تقليص الفجوة الهائلة بين حيويته الاجتماعية وبين ما يحتاج إليه من دراساتٍ واشتغالاتٍ منهجيةٍ تكفي ــ في حدِّها الأدنى على الأقل ــ لأن يستضيء بها المهتمون، ويسترشد بها الباحثون في أنثروبولوجيا الشعوب وتاريخها الثقافي.

______________________

1- خولة فؤاد: "الملالاة في تعز .. ترانيم الحقول التي رددت صداها قلوب الشابات"، منصة خيوط، 16ـ 3ـ 2020: https://www.khuyut.com/blog/6285   
2- لطف الصراري: "أغاني المطر في اليمن .. امتداد لثقافة تقديس الأرض عبر الزمن"، منصة السفير العربي، 18 ـ 8 ـ 2022: https://bit.ly/44JEwNp

مقالات من اليمن

حلم أمريكا المتجدد: إضافة سقطرى إلى سلسلتها النارية العابرة للمحيطات

تمضي المواجهة العسكرية في المياه البحرية لليمن بوتيرة بطيئة نوعاً ما، لكن إيقاعها غير المتسارع، ينذر بتحوّلات جذرية لصراع القوى الإقليمية والدولية المتنافسة على النفوذ في مضيق باب المندب، الذي...

"تنصير" العيد في اليمن

يُعْجَنُ الرماد الناتج عن اشعال الحطب للطهي، بمادة "الكيروسين" أو "الديزل" المساعِدَتين على الاشتعال. ثم تقطّع العجينة وتُوْضَع داخل علب صغيرة معدنية، بينما يُكْتفى في مناطق أخرى بتشكيل هذه العجينة...

هل تكون اللغة المهرية مفتاح لغة اليمن المندثرة؟

تُصنّف اللغة المهرية ضمن اللغات السامية التي نشأت جنوب الجزيرة العربية، وأبرزها اللغة اليمنية القديمة المعروفة بلغة "المُسند" أو كما يسميها المستشرقون "العربية الجنوبية القديمة". وإلى جانب المهرية توجد خمس...

للكاتب نفسه

"تنصير" العيد في اليمن

يُعْجَنُ الرماد الناتج عن اشعال الحطب للطهي، بمادة "الكيروسين" أو "الديزل" المساعِدَتين على الاشتعال. ثم تقطّع العجينة وتُوْضَع داخل علب صغيرة معدنية، بينما يُكْتفى في مناطق أخرى بتشكيل هذه العجينة...