لا وقتَ للنهايات، عند هذه النهاية التي جاءت إلينا بطيئةً سريعة. بطيئةً طال انتظارهُا بعد أكثر من خمسين ألفًا من الأرواح التي غادرتنا، ومئات الآلاف من الكوارث والمآسي والقصص التي وضعت ندوبها في قلوبنا إلى الأبد. سريعةً كما لم نتوقّع، وكما لم يتحمّل يأسنا وطأة النهاية.
ليسَ هذا الوقت إلى النهاية، إنها نهايةُ إطلاق النار والموت العادي السريع بالقذائف والصواريخ، وبدايةٌ أُخرى لموتٍ آخر، لحربٍ أُخرى، يموتُ فيها الناس بطيئاً، ضحايا لقهرهم غير العادي، وجروحهم التي لن تنتهي في يومٍ وليلة.
عامٌ ليسَ لنا، أم عالمٌ ليس لنا؟
02-01-2025
إعادة تكوين العقل الغزّي
26-09-2024
لا أُخفي وطأة اللحظات الأخيرة على نفسي، رجفةٌ في الجسد طوال الليل، ليست من البرد. رجفةٌ من الخوف والقلق والترقّب. رغبة طويلة في المشي والدوران حولَ نفسي، لعلّي أقهرُ التفكير الذي ينخرُ في الرأس كمطرقة حديديّة، تتجاوزُ صوت الصواريخ والقذائف من حولي. خوفٌ من اللحظات الأخيرة، من لحظة النهاية، من القادم المجهول المعلوم. المجهول لخوف الإنسان من لحظةٍ حاسمة طالَ انتظارها، وخوفهِ من بداية الأشياء والتفاصيل الطويلة التي لن نستوعبها بعد هول المذبحة. المعلوم لارتباطه بالشوق والعودة واللقاء بعد انتظارٍ طويل، للأهل والأحبة والناس والذكريات والبيت والمكان.
فينا جميعاً رغبةٌ طويلة في البكاء..
انفتحت الرغبة كطاقةٍ كبيرة من القهر في الإعلانات السابقة عن ترقّب الصفقة والموافقة عليها، خصوصاً في أيار/مايو الماضي. وها هي تنفتح، كُلما طلَ خبرٌ جديد، واحتفلَ الناس وصفّقوا وهللّوا. رغبة في البكاء الطويل، بكاءٌ مؤجّل لأكثر من 460 يوماً، بكاءٌ لم نبكه، صارت دموعهُ متحجّرة، لكنها ذائبة في اللحظة الحاسمة. رغبة ملأت عيونَ الجميع. الكُل يبكي، والكل حرّر الدموع من سجن الحرب. حانت لحظتها.
هذا وقتُ طويلٌ للبكاء.
ووقتُ أطول للرثاء، لكن من نرثي؟ الشهداء الكثيرين الذين بقيتُ أكثر من يوميْن أحاول تعداد أسمائهم، فيخرجُ لي أحدهم فجأةً من نافذة عقلي، وأنا في السيارة من مكانٍ إلى آخر. يخرجُ غيرهُ سريعاً كي يقول لي: لا تنسني من الرثاء، أنا هُنا، أنا مِتُ، لكنني لستُ رقماً بين كلّ الأرقام التي تعرفها، أنا أنا، كما تعرفني.
من نرثي؟ وهذا البُكاء المؤجّل اللا متناهي لن يكفي لأسمائهم، فكيف يكفي لأحلامهم وذكرياتهم وقصصنا معهم، وضحكاتهم وتفاصيلهم الجميلة التي صارت تأسرنا حتّى في قلب عتمة الخيمة والنزوح والمأساة.
من نرثي؟ ومن نترك؟ من نُعطيه حقه؟ وهل تكفي الكلمات؟
مطلب الشهداء!
03-11-2023
عيون شهداء غزّة.. نافذةٌ على جمالها
12-11-2023
هل أرثي أحمد عبد الرحمن، زوج أختي، الرجل الشهم الذي رحلَ في أول أسبوعٍ من الحرب حين كان في عمله داخل سيارة الإسعاف، ذاهباً لينقذَ النازحين الفارّين من الموت يلاحقهم على "طريق صلاح الدين". لم يكتفِ الموت بذلك، لاحقهُ هو أيضاً، ويلاحقنا إلى اليوم. هل أرثيه وأنا الذي لم أكُن قوياً بما يكفي، لأسندَ ابنهُ "الجدع" مُحمّد، ذي الثلاثة عشر عاماً، حين عرف برحيل والده، وهو معي، ولم يتحمّل صدمةً غياب الأب.
هل أرثي إبراهيم لافي. إبراهيم الصديق الوديع الجميل. رأيتهُ للمرّة الأخيرة يوم الخامس من تشرين الأول/أكتوبر 2023، مليئًا بالضحكات والفرح والمرح، أحملُ لعبة أطفالٍ صغيرة أمامه تُخِجُ الفقاعات، وأسخرُ من هذه التفاصيل البسيطة، فيضحكُ ويصوّرني صوراً لن آخذها، لأنها رحلت معه؟ هل أرثي ضحكته الطفولية، إبراهيم الذي لطالما سخرتُ من عُمره، فهو الشاب المثابر والقوي والمجتهد. أسألهُ "انت مواليد 2002 بس؟ وبتعمل كل هاد!".
هل أرثي هيثم عبد الواحد. هيثم الجميل. أبو النمر، أو "الكزن" كما كُنا نناديه. هل أرثي آخر لقاءٍ بيننا، الخميس الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر، في كافيتيريا "الباقة" الشهيرة، قبل أقل من 48 ساعة على غيابه، نمسكُ بالأرجيلة نفسها، نشربُ منها، نتحدّث ونلعب الورق، ونضحكُ كثيراً على شاطئ بحر غزّة، من دون أن نعرف أنها اللحظة الأخيرة معاً. هيثم الذي لا نعرفُ مصيره حتى الآن، لا نعرف، هل كان حياً أم جثةً؟ هل اعتقلوه أم قتلوه؟ فهو مفقودٌ منذ ساعات صباح "السابع من أكتوبر"، مع الصديق نضال الوحيدي، حينما كانا يؤديان عملهما الصحافي بتوثيق المشهد شمال غزّة.
أحياناً أشعرُ أننا كنّا في لقاءٍ أخير معهُ، لقاءٍ مثالي، كما تستحقها هذه الصداقة الخفيفة. أصدقاء من الشباب والفتيات، نجلسُ بعد يومٍ طويل من العمل والتعب، نهاية أسبوعٍ طويل. نُنهي جلستنا عند المغرب، ونُغادر كل إلى مكانه، إلى وداعٍ لم نعرف أنّهُ الأخير.
هل أرثي الدكتور رفعت العرعير، أبو عُمر، الذي كان أخاً كبيراً. أعرفهُ منذ ثلاثة عشرَ عاماً، لم يكُن فيها إلا ناصحاً لأصدقائه، يمدُ اليد إليهم. متصدقاً معطاءً، لا يتوقّف عن الخير، أقول ذلك، وأعرفه في أشياءَ لا يعرفُها غيري. ليس كلاماً منمقاً، ولا يحتاجُ على شهرته بعد رحيله إلى كلام مثلَ هذا، فإن أقل من يحكي عنه، إنهُ المُعلم والدكتور المحبوب بين طلابه، إنهُ القدوة، ولم أعرف قدوةً مثله أبداً.
هل أرثي رشدي السراج؟ رُشدي الهادئ الحليم البسيط، الذي يضحكُ بخفّة، كأنّما يُمسك ضحكتهُ ويمنعها من أن تطول، إلّا أنها طبيعيةٌ جداً، عفوية، خفيفة. ولا أنسى أنني كنتُ موعوداً بجولةٍ على الخيل، معه ومع هيثم وإبراهيم. تحدثتُ إلى هيثم مرةً عن رغبتي في ركوب الخيل وتجربته، وهم الثلاثة كانوا يقومون بجولاتٍ مثل هذه. قال إن الخريف أفضل وقتٍ لذلك، قد نفعلها في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر. جاءت الحرب، اختفى هيثم، ورحل إبراهيم ورُشدي، ولم أحظَ بهذه الفرصة المستقطعة من فكّ الحياة.
من أرثي؟ وهل أرثي أحمد بدير، أحمد المندفع، الحالم، الذي لطالما كانت أحلامه أبسط من أن يتحمّلها العالم. انقطعنا طويلاً منذُ انتقالي إلى عملٍ آخر بعد 2020، لتقلَّ الصداقة والتواصل، لكنهُ يعرف كثيراً، يعرف قدرهُ في قلبي. رحلَ أحمد وأنا المتألّم على عدم وجود كلمة أخيرة، أو عتبٍ أخير.
ماذا أحكي أكثر؟ هل يُجدي الحديث إن رغبتُ في الكتابة عن عمّتي فاطمة. عمتي التي وُلدت سنة النكبة، وماتت في نكبةٍ أُخرى، في شمال غزّة، تحت وطأة الجوع والحصار والمرض وانعدام الأدوية وقلّتها. ماتت بألمها من المرض الذي عانت منهُ طويلاً. كنت من الأقرب إليها، أعرفها أكثر مما يعرفها غيري. تُناديني وتصرخُ في ألمها، فأنزل من خمسة طوابق إلى بيتها لمساعدتها في الفجر، كي تتوضأ وتصلّي صلاتها وتقرأ قرآنها وتأخذ أدويتها. رحلتْ، رحلت بكل بساطة وأنا بعيد، رحلت في الشمال وأنا نازحٌ في الجنوب، أعاني وطأة البُعد. رحلت دون أن أودّعها، دون أن أُلقي النظرة الأخيرة، فكيفَ أرثيها؟
هل أرثي حمزة الدحدوح؟ ابن وائل، الذي رأيتهُ قبل يوميْن من رحيله، اتفقتُ معه على أن ننشر قصص أهله الشهداء على منصة الشُهداء، وليساعد في نشر المنصة عنده. لم أستوعب أنه رحل بعد وقتٍ قصير، دون أن نُتمّمَ المُهمة. رحل سريعاً.
مدرسة إعلاميّي غزّة: وترٌ وحيدٌ.. يُقاوِم
26-10-2023
هل أرثي رمزي مقداد، ابن خالي الذي غادر نهاية الحرب، بعد أن كان يمزحُ ويمرح في المجموعات الإلكترونية للعائلة، ساخراً من هذا الوضع، مفتعلاً المشاكل هنا وهناك. جاء خبرهُ سريعاً، قالوا: "رمزي أُصيب". لم نستوعب الأمر، حتى قالوا: "رمزي استشهد". واستشهد فعلاً. استشهد ليلحق بابنه وابنيْ شقيقه الذين رحلوا بداية الحرب. لم تُخطئهم قذيفةً من الدبابات الإسرائيلية حين كانوا ذاهبين لشراء بعض المصّاص والسكاكر في "حي الشيخ رضوان" قُرب بيتهم.
كيف أرثي ميسرة الريّس؟ ميسرة الطبيب المُبدع والناجح. غادرنا، سافر إلى بريطانيا، عادَ محملاً بالحُب والأمل والعمل. عاد طبيباً متفوقاً ومُبدعاً، مع لورا، زوجته التي عرفها هُناك. تزوّج وكان يبدأُ حياته كما يجب. رحلَ ميسرة. كان يقول للناس إنه يشعر أنه سيموت فجأةً، ومات في بيتهِ فجأةً. رحلَ ولا أتذكر، إلا آخر لحظة رأيته فيها، قبل الحرب بشهريْن، عند الحلاق نفسه الذي كنتُ أحلق شعري عنده، ابتسمنا وسلمنا على بعضنا، كأنهُ وداعٌ أخير.
ماذا عن وائل أبو طه؟ هل تعرفونه؟ بالتأكيد لم يعرفهُ أحدٌ ممن حولي. هذا الرجل الأصيل، الذي عرفته أسبوعاً واحداً في مدينة "رفح"، حيثُ كنتُ نازحاً هناك. احتجتُ من أجل تنفيذ نشاطٍ إنساني لتوزيع المساعدات على الناس، إلى مكانٍ للتنفيذ، فتحَ بيتهُ لنا، دون كلمة. قال لي قبل يوم استشهاده: "وقت ما بدك أي شي بدك ياه احكيلي، تعال". رحلَ الرجل في قصف مسجد "علي" في شهر كانون الأوّل/ ديسمبر، ولم أحظَ بفرصةٍ كي أعرفهُ أكثر، لكنني رأيتهُ في وجوه أبنائه الذين رأيتُ تربيته في معاملتهم، يخدمون الناس، يقومون على مساعدتهم، يفرشون الخيم للنازحين، يساعدون هنا ويمدّون اليد هُناك. كانوا كأبيهم، كما عرفتهُ أسبوعاً منهُ، وعرفته منهم أشهراً.
لو قلتُ عن خليل أبو يحيى، خليل البطش، لن أستطيع أن أُكمل أكثر من قصتهُ الشهيرة. خليل أُصيب بالسرطان فجأةً قبل نحو ثلاثة أعوام، تعبَ وصار مرهقاً، قاومَ المرض. انتقل بصعوبةٍ إلى القُدس للعلاج في مستشفياتها باعتبار أنّها أفضل من غزّة، المقطوع عنها الدواء والمعدات والإمكانات الصحيّة. كانت تلك اللحظة، أعظم لحظة في حياة خليل. قال حينها إنه لو كان وقت موته قد حان، فسيكون راضياً جداً، لقد أخذ كفايته من العالم بأن دفعهُ المرض إلى زيارة القدس ورؤيتها ولو مرّةً في حياته.
لم يمُت خليل من المرض، كان إصرارهُ على الحياة أكبر وأعظم من ذلك. أكمل حياتهُ ليبقى ويروي للناس عن لحظته التاريخيّة حينَ رأى القُدس. كان معي في دراستي في برنامج إعداد السياسات والتفكير الاستراتيجي، وهو البرنامج الذي مكّننا من القدرة على كتابة الأوراق والدراسات والأبحاث. كان مثقفاً حقيقياً، يؤمن بجدوى المقاطعة وأحد أعضاء حركتها العالميّة، لم يتوقّف عن المساهمة بلغته الإنجليزية الإبداعية في دعم فلسطين. استشهد خليل في حرب الإبادة، وقد كان مثقفاً كما تحتاجُه فلسطين.
عمّن سأحكي أيضاً؟ من سنرثي؟ هل أحكي عن عبد الله مقداد، الذي استشهد قبل نحو شهر تقريباً. كان ينتظر نهاية الحرب أيضاً مثلنا. دخلت الطائرة على البيت، ألقت قنبلةً عليه ورحلت. استشهدت أُمه، أُم أحمد في بداية الحرب، مع طفله وزوجته. ويبدو أنّ الحياة ما كانت لتكون طبيعيّة إن لم يرحل عبد الله ويلتقي بهم في الجنة.
في أحيانٍ كثيرة كان الناس يموتون مجموعات، عائلاتٍ كاملة، هل يسهلُ الرثاء في هذه الحال؟ أن ترثي عائلة؟ أم يبدو صعباً؟ أحيانا أخرى كانوا يموتون عائلاتٍ متفرّقين. مثل: عبد الله ورمزي وغيرهم الذين رحلوا ورحل قبلهم أحدٌ من أهلهم. كذلك رحلت شيماء ابنة الدكتور الشهيد رفعت العرعير مع ابنها وزوجها، ليلتقوا به "فوق". كذلك كان رمزي الذي التقى بابنه "فوق" أيضاً.
كذلك هديل أبو سعدة، إحدى أعضاء "حملة الإحسان التطوعيّة" التي لا أعرفها إلا بسيطة هادئة. استشهدت هديل في أوّل أيام الحرب، ببساطة وبسرعة، في يوم زفافها المُقرَّر. كانت قد خطبت قبل وقتٍ قصير، وفي ذلك اليوم بدلاً من أن تلبس فستانها، ألبسوها الكفن. استشهدت مع أمها وأخواتها وشقيقها. رحلوا عائلةً واحدة كاملة، لكن اللقاء كان "فوق" مختلفاً أيضاً. ففي المكان نفسه الذي استشهدت فيه هديل مع عائلتها، كان والدها قد استشهد عام 2009 في الحرب الأولى.
فنّانات غزّة وأديباتّها الشهيدات
27-11-2023
لن أنسى ولاء سعادة، الفنانة والإنسانة. قبل أسبوعٍ واحد من استشهادها كلّمتني ولاء، طلبت مني طلباً قد يبدو الأكثر إنسانيةً وسط هذه المأساة. قالت إنها تُريد أن تُشارك في أحد أنشطة "حملة الإحسان" التي تقوم على مُساعدة النازحين والمتضررين. وعدتها أن يكون ذلك قريباً في أيّة فرصة مُمكنة، حين يتم تنفيذ الأنشطة في وسط قطاع غزّة. رحلت ولاء بعد أيامٍ قليلة، لم يترُك لها الموت مجالاً لتحظَ بهذه الفرصة.
كانت ولاء فنانةً مُبدعة، مخرجة أفلام حالمة. قليلون هم مخرجو الأفلام في غزّة، ولذلك فإنّ المخرجين عادةً، أولئك الذين يخرجون عن النمط الطبيعي ويحاولون فعل شيء غير عادي وسط هذا البلد وهذه الظروف، هم بالتأكيد مميَّزين. كانت هذه ولاء، التي لا أعرفها سوى ضاحكة مُبتسمة. رحلت ولاء وأبقت في قلبي ندامةً على عدم الاستعجال في تنفيذ نشاط لتُشارك فيه!
بالتأكيد سأتحدّث عن آية شبير، وهي شخصٌ لم أعرفه إلّا إلكترونياً في تويتر. رحلت آية التي كانت بسيطةً، ساخرةً من الحياة بشكلٍ غير عادي. كانت آخر أمنياتها أن تأكل "الشيبس" وتحظى بكأس شايٍ من دون قلقٍ، وبعيداً عن صوت الطائرات. كذلك كانت عُلا عطا الله، الصحافية والكاتبة. استشهدت فجأةً، بعد أن كانت كلماتها تنتشر في كلّ مكان على منصة "إكس" من حولنا، وهي تحكي شهاداتها عن الحرب.
وهذه فرصة لأحكي عن ندا دهشان، ندا الأنيقة الضاحكة، لم أحكِ مع أحدٍ من أصدقائها، إلّا شبّهها بأنها "جنة" تمشي على الأرض بوداعتها وبساطتها.
علّني أتذكر أسماءً أخرى من الجيران مثلًا، ثائر عمر، محمد عقيلان، محمد الجبيري، إبراهيم مقداد، زكريا صلاح وأطفاله، وأم إبراهيم الحلبي، جارتنا التي استشهدت على طابور المخبز منتظرةً دورها في توصيل الخبز لأحفادها في الشمال. هل أتذكر أهل أصدقائي الشُهداء؟ أهل محمود أبو حمادة الذين رحلوا في قصف بيته، أو أهل لمى الحاج التي ودّعت شقيقها مع شقيقتها وزوجها وأطفالها. أهل عبد الرحيم عروق، الصديق الحبيب الذي رحلت والدته مع أخوته، من دون أن يراهم، فهو في بلادٍ وهي في أُخرى. هل أتذكر أهل أنغام؟ وأهل كل الناس الذين حولي، ممن حظوا بوداعٍ وممن لم يحظوا؟
الرثاء طويلٌ طويل، لا نهاية له. قد يقول الشعراء والكتّاب والناس الكثير فيه، ولا يستطيعون إيفائه الوقت والكلام المناسب. سيكون الرثاءُ عاماً. سيرثي الناس في الشوارع والبيوت وفي كلّ مكان، ناسهم الشُهداء، سترثي المنازل أهلها، والأنقاض مفقوديها، والشوارع ذكرياتها.
سنترك كلّ شيءٍ، ونتفرّغ لبُكاءٍ طويل، ورثاءٍ أطول.