إعداد وتحرير: صباح جلّول
أدخل الصحافي "أيمن الجدي" زوجته إلى المستشفى ليل الخامس والعشرين من كانون الأوّل/ديسمبر 2024 لتضع مولودهما الأول – فرحتهما الكبرى. اتجه إلى عمله الميداني قبل أن يتسنى له أن يرى بكره. ثمّ كان فجر يوم السادس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر.. قُتلَ "أيمن" في غارة إسرائيلية استهدفت بشكل مباشر عربة البث الخارجي التابعة لقناة "القدس اليوم" التي يعمل فيها. قًتل الأب، ترمّلت الأمّ، ويُتِّم مولودهما في يومه الأول في هذه الحياة. ذنبه وذنب والده ليسَ إلّا أنهما أبناء غزّة... غزّة، حيث عشرات آلاف القصص التي توثَّق ولا توثَّق، وتبلغ فصول مأساتها حداً لا يحتمله عقل بشريّ أو قلبٌ نابض بشيءٍ من شعور.
ميلادٌ آخر بلا عيدٍ
26-12-2024
لم يكن أيمن وحده. استشهد إلى جانبه 4 صحافيين عاملين في القناة، هم فيصل أبو القمصان وإبراهيم الشيخ خليل وفادي حسونة ومحمد اللدعة، بعد احتراق سيارتهم بالكامل. لكلّ منهم قصص عن حياة لم نسمع عنها. كلهم، وسواهم، لم يدركوا العام الجديد.
هكذا، لم يلحظ أهل غزّة أي فرقٍ بين أوّل سنتهم ومنتصفها وآخرها، وبدايةِ سواها. كل يومٌ هو فرصة إسرائيلية جديدة للتفنن في قهر الناس وذبحهم، في قتل الغزيين وتصفية الصحفيين أيضاً، على مرأى العالم (المحتفِل!).
كانت نقابة الصحافيين الفلسطينيين قد أعلنت منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر 2024 أنها أحصت استشهاد أكثر من 190 صحافياً وصحافية، وأكثر من 400 إصابة لصحافيين في قطاع غزة منذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. انتهى العام بعدّاد أكبر من ذلك، وبدأ عام 2025 والأرقام تتزايد ببرودة قاسية، كأنّ الرقم لا يعني شيئاً. .
قتل الاحتلال الإسرائيلي المصوّر حسن القيشاوي في الثاني من كانون الثاني/ يناير 2025 بقصف من طائرة مسيّرة على غرب مدينة غزة، خلال تغطية القيشاوي استهداف طائرة مسيّرة أخرى عدداً من المواطنين في المنطقة!
في الثالث من كانون الثاني/يناير 2025، استشهد الصحافي عمر الديراوي في قصف لمنزل عائلته في الزوايدة وسط القطاع.
مدرسة إعلاميّي غزّة: وترٌ وحيدٌ.. يُقاوِم
26-10-2023
وفي اليوم نفسه، استشهدت المصورة الصحافية "أريج شاهين" رفقة والدتها. "كانت مصورة، وكانت عم تشتغل عاللابتوب ومبسوطة بالصور التي صوّرتها ذلك اليوم (...)"، تقول اختها التي نجت من الغارة، وتضيف "كنت أقول لها "ابقي في البيت"، فتقول لي "بدي أطلع، بدي أشوف الناس"". كانت "أريج" تحب تصوير الجمال في "غزة"، وتعمل في تصوير حفلات الزفاف والتخرج وأعياد الميلاد. كانت حرفتها الأفراح، إلى أن اضطرت إلى تصويب عدستها إلى الحرب وغمّها. إلى أن سرقتها الحرب هي أيضاً..
ثمّ ماذا؟ الإدانات قاصرة والضجيج حول قتل الصحافيين والأطباء والأطفال والأبرياء من كل مشارب الحياة في غزة يخفت حتى كأنه لا وجود له. ليسَ هذا الجنون الوحشي لحظياً، وليسَ خارج التغطية. ليسَ سرّاً، وليسَ استثناءً عابراً. إنه يومي، موثّق، منظّم، تتمّ تغطيته مباشرة، متكرر، مؤكّد، رهيب، له ألف صورة مقيتة وألف فيديو بشع ومليون (بل مليونان ونصف) قصة تشلع القلب. لقد طالت الإبادة واستطالت ومدّت أذرعها، ولم يوقفها أحد أو شيء. وكم تبدو مسؤوليتنا بالتذكير بهذا الآن باهتة أمام واقع الحياة في غزة، حيث يسحق الاحتلال مظاهر الحياة أنّى حاولت التفتّح، ببطشه منقطع النظير. فهذا الاقتصاص من الحياة، من الجميع، الأمهات والآباء والأطفال والعمال والمعلّمين وكل من يؤدون مسؤولياتهم بإخلاص أمام ناسهم، وبخاصة الأطباء والصحافيين (ككل من ذكّرنا ممن استشهدوا في الأيام الأخيرة وعشرات سبقوهم..) – لهو اقتصاص ممنهج متعمّد. بل هو "الإبادة" عينها.
عامٌ ليسَ لنا، أم عالمٌ ليس لنا؟
02-01-2025
في أول ايام السنة الجديدة، نزل صحافيون وناشطون ضدّ الابادة للتظاهر ضدّ صمت وتواطؤ المؤسسات الإعلامية الأميركية في أماكن مختلفة في مدينة "نيويورك" الأميركية. وقفوا مع صور صحافيين شهداء أمام شركة "نيوز كوربوريشن" (الشركة الأم لـ"فوكس نيوز")، وأمام مبنى صحيفة "وول ستريت جورنال" و"نيويورك بوست" ومحطة "إن بي سي" و"إيه بي سي نيوز" في ساحة "تايمز سكوير".
حمل المتظاهرون صوراً لصحافيين فلسطينيين قتلهم الاحتلال الإسرائيلي، واستنكروا الإعلام الأميركي والغربي الذي يلعب دور الجندي للاحتلال، مروّجاً دعاياته وأكاذيبه. وقف الحاضرون دقائق صمت على أرواح نحو 200 صحافية وصحافي شهيد. طالبوا صحافيي هذه المؤسسات بالتضامن مع صحافيي غزّة، الذين يدفعون أثماناً لا يدفعها معظم صحافيي العالم، بشجاعة تفوق ما تطلبه منهم أية وظيفة في الكون، لنقل الحقيقة التي يطمسها هؤلاء من مكاتبهم الفارهة..
من الضروري أن يثار ضجيج كثير كل يوم لكلّ هؤلاء المظلومين. لكننا ما زلنا نسأل "ثمّ ماذا؟"...