قبل عشر سنوات، صُنفت قرية "نجع عون"، التابعة لمركز "كفر الدوار" في محافظة "البحيرة"، ضمن القرى الأكثر فقراً فى مصر. فعلى الرغم من أن أغلب قرى مصر تعاني الفقر والتهميش والإهمال، إلا أن "كفر عون" كانت تعاني من أزمة مضاعفة بسبب عزلتها الجغرافية، وعدم تمكن الأهالي من الخروج من القرية للعمل خارجها، نظراً لبعدها عن طرق المواصلات الرئيسية. كان النجع الذى يضم 500 منزل ينتظر المعونات الاقتصادية التي تأتيه كل عام من مدينة الإسكندرية القريبة، فى صورة تبرعات أو زكوات أو" شنط رمضان"، التي تضم في الغالب مجموعة من الأطعمة تكفي الأسرة الواحدة لمدة وجيزة.
ربما تكون تلك هي نقطة البداية - مع سواها بالطبع من العناصر والمحفزات - التي قرر من بعدها أهالي الكفر البحث عن وسائل لتحسين دخولهم ذاتياً وعدم الاكتفاء بانتظار المساعدات.
المثير للدهشة أن ذلك قد تحقق بالفعل، في أقل من سبع سنوات . تحقق حتى صار نموذجاً فريداً لكيفية التحول من العوز إلى الكفاية، يمكن تدريسه واستنساخه إذا ما توافرت عناصر الإرادة والتعاون والقدرة على الفعل. فبعد مجموعة من التجارب في مشروعات متفرقة، لم تصادف نجاحاً يُذكر، وفشلت تباعاً نتيجة ضعف الخبرة، أو قلة الإمكانيات، تمكنت القرية أخيراً من وضع أقدامها على طريق النجاح، وتنوعت فيها المشروعات التي صارت تدر دخلاً كبيراً، يضع "النجع"، في مصاف القرى المكتفية ذاتياً، والمتعففة بالضرورة عن تلقي المساعدات.
تربية "دودة القز" وصناعة الحرير
روى "مبروك عبد الله"، أحد أهالي "النجع"، والذي كان يمتهن صيد الأسماك من بحيرة "مريوط " القريبة من النجع، أن تلك البحيرة، التي كانت تبلغ مساحتها 200 كيلو متراً مربعاً في بداية القرن العشرين، قد تقلص حجمها اليوم إلى 50 كيلو متراً مربعاً نتيجة جفاف أطرافها، علاوة على نمو وانتشار كثيرٍ من النباتات الطفيلية، التي أعاقت حركة قوارب الصيد. وتعرضت مياه البحيرة للتلوث بسبب الصرف غير المعالَج للمصانع القريبة، مما أضرَّ بالثروة السمكية فيها، فتوقف كثير من الصيادين عن العمل، اعتباراً من العام 2015، وانقطع أحد أكبر مصادر دخل السكان، وكان على هؤلاء أن يجدوا مصادر رزق بديلة من حرفة الصيد .
كان الأمر شديد الصعوبة فى البداية، لكن السكان لم يكفّوا عن المحاولة . ذكر "مبروك" أن طرف الخيط جاء على يد المهندسة "كوهينور عثمان"، وهي واحدة من رائدات العمل الخيري في الإسكندرية، وكانت تعمل على توصيل المعونات الاقتصادية لأهل القرية، عندما اقترحت عليهم فكرة تغيير نشاطهم الاقتصادي والبدء من جديد .
"بعد سنوات قليلة من المثابرة، تخطت كل البيوت حد الكفاية، بل صار كثير من الأهالي أثرياء بالفعل. وشاركت سيدات وفتيات القرية فى العمل مع الرجل جنباً إلى جنب. وصرن يشاركن فى المعارض التى تقام في المدن الكبرى ويحصدن ثمار عرقهن وكفاحهن. والآن نسعى إلى تصدير التجربة إلى القرى المجاورة والقرى الأبعد. نود أن نرى كل القرى وهي تقفز تلك القفزة".
وكان من جملة مقترحاتها التنموية مشروع تربية "دودة القز"، علاوة على غيره من المشروعات. وعلى الفور التقط "رجب عوض" طرف الخيط ليبدأ في التنفيذ . يقول رجب: "لا نريد أن نكون عبئاً على أحد، نجلس في انتظار مساعدات قد تنقطع لأى سبب. نريد بناء مجتمعنا وخلق فرص عمل للشباب للحد من معدلات البطالة والفقر".
اشترى "عوض" على الفور صندوقاً يحتوى على 18 ألف بيضة "دودة قز"، وقام ببناء ورشة عمل على قطعة أرض عائلية محاطة بأشجار التوت. قُسِّمت الورشة على عدة غرف لرعاية الديدان ونشر الشرانق. في البداية، وبعد عدة محاولات فاشلة خلال العامين الأولين من المشروع، خسر "عوض" ماله، بسبب افتقاره إلى الخبرة اللازمة، لكنه اعتبر أنها "كانت عملية تعلّم "[1].
يقول: بعد مشاهدة مقاطع فيديو على الإنترنت لمزارعين صينيين يُطعمون الديدان وينظفونها، بدأتْ الأمور تتحسن. وبدأ الإنتاج يعرف طريقه إلى النجاح، بعد سد كل الثغرات، التي كان يتسلل منها الفشل.. الآن، تنتج ورشة "عوض" أكثر من 720 كيلو غراماً من الحرير سنوياً مما أسهم في زيادة دخله بشكل كبير، وساعده على توسيع رقعة التجربة.
بين آذار/ مارس وتموز/ يوليو من عام 2016، قام "عوض" بتربية 125 ألف دودة، وتبرع بمئات منها لربات البيوت فى القرية، ليقمن برعايتها، لنشر التجربة وتحفيز السيدات وتدريبهن على الحرفة المستحدثة. ثم اشترى لاحقاً إنتاجهن من الشرانق بأسعار معقولة، شجعتهن على الاستمرار في التجربة.
كان أغلب السكان يعملون في صيد الأسماك من بحيرة "مريوط " القريبة. لكن تلك البحيرة، التي كانت تبلغ مساحتها 200 كيلو متراً مربعاً في بداية القرن العشرين، قد تقلص حجمها اليوم إلى 50 كيلو متراً مربعاً نتيجة جفاف أطرافها، علاوة على انتشار كثير من النباتات الطفيلية، التي أعاقت حركة قوارب الصيد، كما تعرضت مياه البحيرة للتلوث، بسبب الصرف غير المعالَج للمصانع القريبة، مما أضرَّ بالثروة السمكية فيها.
يقول "مبروك عبد الله"، الصياد السابق: "في البداية، كنا نقوم بفك الشرانق يدوياً وبيع الخيوط لأحد التجار في منطقة "سقارة" في محافظة "الجيزة" بأسعار جيدة. كان الإنتاج سخياً والمكسب معقولاً، إلاّ أن عملية فك الشرانق بتلك الطريقة كانت تؤدي إلى هدر كثير من الخيوط الثمينة، ونحن نسعى الآن إلى شراء آلة فك الشرانق الميكانيكية، التي تحافظ على الخيوط وتضمن سلامتها. ساعتها سنكون قد استكملنا كل عناصر الإنتاج الكبير. وقد توقفنا عن بيع إنتاجنا من الخيوط، واتجهنا إلى تصنيعها محلياً في القرية. قمنا بإنتاج السجاد الحريري الأغلى في العالم، والذي يبلغ سعر المتر المربع الواحد منه 20 ألف جنيه.
بمرور الوقت، وفي مراحل مختلفة، انضم قرويون آخرون إلى المشروع. وبحسب "عوض"، فإن قرية "نجع عون" صار لديها الآن ما يصل إلى 3700 شجرة توت. علاوة على إنتاج أكثر من 100 ألف نبتة توت، يتم بيعها تجارياً إلى القرى التي ترغب في بدء التجربة لديها.
ويبلغ اليوم عدد الأسر، التي تعمل في تربية "دودة القز" وإنتاج الحرير في "النجع" أكثر من 70 أسرة، ومعظم من يعملون فيها، هن من الفتيات والسيدات اللاتي يمثلن رأس الحربة في كتيبة عمال القرية في المشروعات المختلفة.
زراعة الأسطح
بالتوازي مع مشروع إنتاج "دودة القز"، تعمل أُسر أكثر من 50 منزلاً في القرية في زراعة أسطح البيوت بمحاصيل الخضروات والفاكهة المختلفة . قامت تلك الأسر باستخدام تقنية الزراعات المائية، التى تعتمد على تغذية النبات بالمحاليل المائية، بدون تربة، أو ما يعرف باسم "الهيدروبونيك".
يقول "رجب ربيع" إن تلك التقنية تعتمد على إنشاء بنية تحتية محكمة، منها "المواسير والصوبيات وأنظمة التبريد والشفط، وغيرها من مستلزمات الزراعة الأخرى بهذه الطريقة، حيث يتم إحضار مواسير مختلفة الأحجام بحسب النباتات المزروعة، وأكواب للزراعة تكون مثقوبة من أسفل لخروج الجذور منها وامتصاص العناصر الغذائية، وكذا مضخّة غاطسة لسحب الماء والمحلول المغذي إلى داخل المواسير" . يؤكد "رجب" أن مزايا الزراعة المائية لا تنحصر فقط في عدم اشتراط وجود أرض زراعية لعملية الاستنبات، بل إنها تقوم بتوفير الماء اللازم إلى الربع، وعدم وجود الآفات الزراعية المرتبطة بالتربة، علاوة على إنتاج محاصيل عضوية أو "أورغانيك"[2]، لم يتم استخدام مبيدات زراعية فيها طوال مراحل زراعتها، مما يضمن خلوها من السموم، وبيعها بثمن مرتفع.
يبلغ اليوم عدد الأسر التى تعمل في تربية "دود القز" وإنتاج الحرير في "النجع" أكثر من 70 أسرة، أغلب العاملين فتيات وسيدات يمثلن رأس الحربة في كتيبة عمال القرية في المشروعات المختلفة. وقد توقف المنتجون عن بيع إنتاجهم من الخيوط، واتجهوا إلى تصنيعها محلياً في القرية. "قمنا بإنتاج السجاد الحريري الأغلى فى العالم، والذي يبلغ سعر المتر المربع الواحد منه 20 ألف جنيه".
بالتوازي مع مشروع إنتاج "دودة القز" والحرير، تعمل أُسر أكثر من 50 منزلاً في القرية في زراعة أسطح البيوت بمحاصيل الخضروات والفاكهة المختلفة . قامت تلك الأسر باستخدام تقنية الزراعات المائية، التي تعتمد على تغذية النبات بالمحاليل المائية بدون تربة، أو ما يعرف باسم "الهيدروبونيك". وهم يقومون الآن بإنتاج بذور تلك المحاصيل وبيعها للمزارعين.
على أسطح "كفر عون"، يتم إنتاج محاصيل: الفراولة، الجرجير، الفول، السبانخ، الباذنجان، الخيار، الطماطم، البصل، الخس الأحمر والأخضر، الكرنب وغيرها. وهي تعرف طريقها إلى البيع في المدن القريبة، وتسهم بشكل جدي، في تحسين دخول أصحابها إلى حد الكفاية.
يقول "مبروك" إنهم يقومون الآن بإنتاج بذور تلك المحاصيل وبيعها للمزارعين، وهو ما يمثل جدوى اقتصادية أكبر بكثير من زراعة المحاصيل نفسها، كما يضمن سلامة تلك البذور وخلوها من أية أمراض أو بقايا مبيدات ضارة.
زراعة الفطر
يُعد مشروع زراعة "عش الغراب" أو ما يعرف بـ "المشروم"، أحد أهم المشروعات، التي جذبت العديد من شباب "النجع". وفيه يُستخدم "قش الأرز" - الذي كان يتم حرقه والتخلص منه سابقاً لعدم الحاجة اليه، مما كان يتسبب في مشاكل بيئية وصحية عديدة - بعد تعقيمه، ثم وضع تقاوي "عش الغراب" مع القش المعالَج داخل أكياس كبيرة، فتوضع طبقة من القش وأخرى من التقاوي، وهكذا حتى يمتلئ الكيس، ثم يُغلق جيداً وتُعمل فيه ثقوب صغيرة أسفله لتسريب المياة الزائدة وأخرى بالأعلى لخروج غاز ثاني أكسيد الكربون أثناء فترة التحضين.
يضم "النجع" أيضاً 9 ورش، لصناعة الكليم والسجاد اليدوي، تعمل فيها سيدات وفتيات وشباب القرية، حيث يتناوب الجميع على العمل على مدار اليوم. يقول "رجب ربيع" إن لكل فئة عمرية عملها المحدَّد داخل تلك الورش، فيبدع الأطفال في الأعمال البسيطة مثل التريكو والإكسسوارات، والنساء في صناعة السجاد والكليم اليدوي والكروشيه..
تروي "فرحة عبد المالك"، إحدى المشرفات على العمل في ورشة صناعة السجاد اليدوي، أنها التحقت بالعمل منذ 5 سنوات، ويبلغ عدد السيدات العاملات معها 32 سيدة من أهالي نجع "كفر عون". وأشارت إلى أنه يتم شراء المواد الخام اللازمة لصناعة السجاد من مدينة "المحلة الكبرى"، لرخص ثمنها، ولتحقيق مكسب أكبر.
يقول "مبروك" إنهم يسعون فى المرحلة المقبلة إلى شراء ماكينة تعقيم قش الأرز، لضمان خلوه تماماً من أية فطريات أو آفات، يمكن أن تؤدي إلى نقص إنتاج الفطر.
يقول "وائل محمد"، أحد الشباب العاملين فى المشروع، أن تكلفة زراعة الكيس الواحد وزن 6 كيلو غراماً لا تتجاوز 50 جنيهاً، فيما بلغ سعر بيع محصوله في النهاية 300 جنيهاً، مما يضع المشروع ضمن أكثر المشروعات ربحاً فى القرية. ويتم تسويق المنتجات إلى المحلات الكبرى والفنادق.
صناعة الكليم والسجاد اليدوي والكروشيه
يضم "النجع" أيضاً 9 ورش لصناعة الكليم والسجاد اليدوي، تعمل فيها سيدات وفتيات وشباب القرية، حيث يتناوب الجميع على العمل على مدار اليوم. يقول "رجب ربيع" إن لكل فئة عمرية عملها المحدَّد داخل تلك الورش، فيبدع الأطفال في الأعمال البسيطة مثل التريكو والإكسسوارات، والنساء في صناعة السجاد والكليم اليدوي والكروشيه..
يقول "إن الفتيات كانت تنقصهن الخبرة والمهارة في بداية المشروع، وكان الإنتاج يفتقر إلى الدقة المطلوبة. لكنهن استطعن التعلم بسرعة وتلافي الأخطاء"
"الكليم اليدوي".. صناعة تنهار في مصر
08-04-2022
في رثاء شركة "ستيا" للغزل والنسيج بالإسكندرية (1-2)
26-03-2023
تقوم الفتيات الآن بإنتاج كميات كبيرة من المصنوعات بشكل يومي، ليتم عرضها وبيعها في مختلف المحافظات. وتروي "فرحة عبد المالك"، إحدى المشرفات على العمل في ورشة صناعة السجاد اليدوي، أنها التحقت بالعمل منذ 5 سنوات، ويبلغ عدد السيدات العاملات معها 32 سيدة من أهالي نجع "كفر عون". أوضحت "فرحة" أن كل مجموعة مسؤولة عن إنتاج نوع معين من السجاد، فمنها "الصوف البارز، والصوف المحرر" ، حيث تختار كل عاملة نوع السجاد، الذى تريد العمل عليه طبقاً لاستعدادها ورغبتها. وأشارت إلى أنه يتم شراء المواد الخام اللازمة لصناعة السجاد، من مدينة "المحلة الكبرى" لرخص ثمنها، ولتحقيق مكسب أكبر.
يروي "رجب عوض"، وهو الأب الروحي لكل المشروعات التى استطاعت القرية تنفيذها، أنهم فخورون بما حققوه لقريتهم في فترة وجيزة. فقبل ذلك، كانت أغلب بيوت القرية مبنية من خامات هشة وضعيفة، ومغطاه بقش الأرز وأكياس المُشمّع، وكانت عرضة لتسرب مياه الأمطار ومهاجمة الفئران والثعابين. وكان الوضع الاقتصادي لأغلب السكان متدهوراً إلى الحد الذي لا يكفي لشراء الضرورات الواجبة. أما الآن، فقد تم القضاء على البطالة بالكامل. في "نجع عون" لن ترى شاباً متسكعاً في طرقات القرية بلا هدف... فالكل يعمل لبناء مستقبله وتحسين دخله، حتى أن القرية بالكامل لا تضم مقهى واحداً، إذ لا يمتلك أحد وقتاً إضافيّاً خارج خريطة العمل والراحة، حيث إن ذاكرة القرية لا تزال تحمل بقايا تلك الأيام البغيضة، التي كانت تنتظر فيها المساعدات من الغير . .
وقد تخطت كل البيوت حد الكفاية، بل وصار كثير من الأهالي أثرياء بالفعل. وشاركت سيدات وفتيات القرية فى العمل مع الرجل جنباً إلى جنب. وصرن يشاركن فى المعارض التى تقام في المدن الكبرى ويحصدن ثمار عرقهن وكفاحهن. ووضعت "كفر عون" نفسها على خريطة إنتاج الحرير المصري بجدارة ووضوح، والآن نسعى إلى تصدير التجربة إلى القرى المجاورة والقرى الأبعد. نود أن نرى كل القرى وهي تقفز تلك القفزة. فقط عليها أن تتحمل صعوبة البدايات، وأن تتخطى الفشل الذى يمهد الطريق نحو النجاح، وأن تستفيد من تجربتنا الملهِمة والواعدة .
-
- https://www.chinadaily.com.cn/a/202409/26/WS66f4bd12a310f1265a1c4ea9.html ↑
-
- الزراعة العضوية، هي: جميع النظم الزراعية، التي تشجِّع إنتاج الأغذية بوسائل سليمة بيئياً، وتقلل إلى حد كبير من إضافات صناعية خارجية، كالأسمدة الكيماوية والمبيدات والعقاقير والبذور المعدلة وراثياً والمواد الحافظة . ↑