"شجراتُ الظلِّ"... مصرياتٌ يحترفن الخير والمبادرة

تبذل المبادِرات من النّساء مجهوداً مميزاً في نتاجه وحجم الدأب، يستوي في ذلك من تنجح في تحويل مبادرتها إلى منظومةٍ تملك مع الوقت أسباب الاستمرارية، أو من تواظب في السّعي من أجل التأثير في المجتمعات الصغيرة المحيطة. مئات التجارب من الصّنفين، تصطدم جميعها بسياقاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ متباينة الحدّة.. لم ينتج عنها توقف الروح التي تبثّ الحياة في مَنْ تُقدِّم يد المساعدة أولاً ثم في مَنْ تتوجه إليهم.
2022-04-05

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
| en
نور بهجت - سوريا

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

ما تتشارك به جميع الشّجرات على اختلاف الثّمر، هو طرح الظلّ على امتداد العمر، ولكن شريطة أن تحوز فرصة أن تورف وتقوى دون أن يسبق البطش الجهد، لكنّها حتى وإن وقع هذا العطب، تبقي جذورها ممتدةً تحت الأرض، تنتظر من جديد لحظة البعث.

هذا هو المنطق الذي يحكم كلّ من أدرك ذات لحظةٍ أنَّ عليه أن يرتِّب أموره لكي يصبح بهذه الحياة شجرة. هي خبرة كلّ من احترف/ت تطوعاً - وإن تباينت الأسباب - مدُّ يد الخير للغير ليصبح نهجاً يحكم الحياة، ووفقاً له، كثيراً ما تتبدل الخطط لتتوافق وهذا الاتجاه. بالطبع حين يصدر هذا الفعل عن امرأةٍ لا عن رجل، فهو أمرٌ مؤهلٌّ ليحمل ملامح أكثر رهافةً وحدّةً، في آنٍ واحدٍ.

وفي مصر، تبذل المبادِرات من النّساء مجهوداً مميزاً في نتاجه وحجم الدأب الواقف وراءه، يستوي في ذلك من تنجح في تحويل مبادرتها إلى مؤسسةٍ أو منظومةٍ تملك مع الوقت أسباب الاستمرارية والبقاء، أو من تواظب في طريق السّعي من أجل التأثير في المجتمعات الصغيرة المحيطة. تعجّ مصر بمئات التجارب من الصّنفين، وجميعها تصطدم بسياقاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ تتباين درجة حدّتها وضغطها، غير أنّه لم ينتج عنها يوماً توقف هذه الروح التي تبثّ الحياة في من تقدِّم يد المساعدة أولاً ثم في من تتوجه إليهم.

***

هو حصادٌ محدود تتحدث عنه صاحباته، بدأ في منتصف التسعينات من القرن الفائت، في غرفةٍ صغيرةٍ لا تشمل غيرَ حصيرةٍ وطبشورٍ أبيض يسطّر أولى الحروف فوق الجدران، ثم وبفضل جهد "المبادِرات الأوائل" تحوّلت الجمعية الصغيرة بأحد الأزقة بمحافظة الجيزة إلى مؤسسةٍ كبرى.

تسجّلُ سيدةٌ في متوسط العمر، في كراسةٍ بسيطةٍ، بياناتِ كلّ من يحتاج لمساعدةٍ بالمعيشة في محيط مدينتها الريفية الصغيرة، وكذلك بيانات كلّ المتبرعين الحاليينَ والمحتملين. تراسل كلّاً منهم على حدة، وتخلق وفق ثقافة "التشبيك" قاعدةَ بياناتٍ مبهِرة، قادرةً على تقديم صورةٍ حقيقيةٍ لشكل الحياة خلف بيوت تلك القرى.

وفي ذلك هي بالتأكيد ليست وحدها، لكنّها مثالٌ للنّموذج الأكثر حضوراً وانتشاراً وتكراراً، خاصةً في ظلِّ بيئةٍ قانونيةٍ وأمنيةٍ جديدةٍ، تمّ إرساء حدودها على مدار الأعوام السبعة الأخيرة، وساهمت في خلق ميلٍ واسعٍ للمبادرات المحدودة المؤثِرة في محيطٍ ضيق.

وبين تنوّع المسارات، على اختلاف قامات جهودها، تسري مئات التجارب والمساعي النّسائية التي استطاع كثيرٌ منها تسطير نجاحاتٍ كبرى تألقت في مناحي التنمية المستدامة لمجتمعات محلية، وكذلك في حالات الطوارئ والكوارث وانتشار الأوبئة.

نقف في نهاية المطاف عند تجربةٍ أخيرةٍ ملهمةٍ، انطلقت صاحبتها من معاناتها الشخصية لرفعها عن رفيقاتٍ لاحقاتٍ.

التعليم هو البداية.. للتّأثُّر والتّأثير

من مقرّها الرئيسي الكائن وسط ديمغرافيا سكانية متكدسة، نبتت جمعية "المرأة والمجتمع" في صيف عام 1994 داخل شارعٍ صاخبٍ في منطقة "أرض اللواء" بمحافظة الجيزة.

"محو الأمية مش كفاية.. هي بس بداية"، كان الشّعار الّذي سطرته المؤسِّسات الثلاث، "سهام نجم"، "آمنة قنديل" و"وفاء المصري" على جدار الغرفة غير المطلية الّتي جمعن ثمن إيجارها وتأثيثها لإطلاق أول فصولهنّ لـ "محو أمية" النّساء.

"سهام" المؤسِّسة الأولى، وصاحبة الفكرة، توحدت عبر حياتها مع فكرتها، إلى أن أصبحت الآن وهي بالعقد السادس من عمرها رائدةً في مجالها.

 لم يتخطَ عمرها عند الانطلاق 40 عاماً، زوجةٌ لديها ابن وابنة وأسرةٌ مستقرةٌ على الرغم من كلّ الظروف الصعبة. تخرجت سهام من كليّة التجارة لكنّها اختارت أن تتوجّه نحو "التنمية" فعملت كمعلمةٍ أولاً ثم حصلت على الدّراسات العليا في مجال "تعليم الكبار"، ثم استقالت لتؤسّس جمعيةً أهليةً تقوم على مساهمات المؤسِّسات وبعض الداعمين والأصدقاء. مرّت بطريقٍ طويلٍ نجحت خلاله في إرساء كيانٍ أصبح مستقلاً عنها، بينما هي وعبر سنوات من التّقدم والتّعلم، حملت لقب "خبير دولي" في مجال "تعليم الكبار" و"تنمية المجتمعات المحليّة". كان يمكنها بالطبع أن تحقق طموحاتٍ مهنيةٍ بديلة، لولا أنها قررت السعي نحو ذلك الحلم.

تحكي لي، كيف كانت تتنقل يومياً من حي المهندسين المترف إلى الحيّ الشعبيّ اللصيق، فتعايش حياة سيداته، تقضي هناك أغلب الوقت، تشتري مثلهنّ، ومن البائعين أنفسهم، الخضار ومستلزمات المنزل. تسمع منهنّ عن وصفاتٍ مميزةٍ، تكتسب هي الأخرى مزيداً من التّعليم والخبرة، وتعود في نهاية اليوم إلى الحيّ المترف بروحٍ لا تشبه روحَ جاراتها. تقول ابنتها الّتي أصبحت الآن في مثل عمر الأم حين بدأت: "أدركتُ منذ زمنٍ أنّ الجمعية هي أختٌ لنا، وفخورةٌ بما أنجزته أمي. جميلٌ أن ينظر الإنسان لعمره، فيجد أنّه قد اختصره في تقديم يد العون".

على مدار خمسة وعشرين عاماً، اجتهد القائمون على تلك الجمعية في تطوير برامجها التي لم تستهدف المرأة وحدها ولم تقف عند التعليم وحده، ولكن تخطّته إلى مبادراتٍ مشارِكة مع وزارة التعليم الأساسيّ وكذلك برامج للتمكين الاجتماعي والاقتصادي للأسر الأكثر احتياجاً باتباع سياسة الإقراض الحسن.

ولكن كيف يمكن الاستمرار مع اختلاف الظروف السياسيّة وتغيّرها؟ وكيف يمكن الاستدامة وإدارة الأمور الماليّة؟ هي مراحل زمنية ثلاث، الأولى تتعلق ب "الجهود الذاتية" على مدار ثلاثة أعوام، وبعدها وحتى عام 2008 تمّ الاعتماد فيها على الشراكة مع مؤسسات مصريّة ودوليّة وبعض الشَّراكات مع القطاع الخاص، جاءت إحداها على شكل "وديعة" باسم الجمعية، ممّا ساعد على الانتقال للمرحلة الثالثة وهي استقرار وضعية العمل واستمراره حين جاء الزمن الشحيح بدايةً من 2014. قد شهدت مصر في الأعوام الأخيرة عدة إجراءات سياسيّة وقانونيّة عرقلت التّعاون الأهليّ سواءً مع المؤسسات الخارجيّة أو حتى المحليّة، مما أثّر على استمراريّة الكثير من المؤسسات.

في كتابٍ يوثّق تجربة الجمعية على مدار سنواتِ عملها، نجد بعض البيانات المعبّرة عن الحصاد. ففي مجال "محو الأمية " أدّى جهد عامين داخل الغرفة الصغيرة إلى انطلاق مشروعٍ ضخمٍ منذ عام 1996 وحتى 2001 بدعمٍ تمويليّ من منظمة "save children" العالميّة، نجح في تعليم 6650 فتاة في 5 مناطق نائية مختلفة داخل محافظة الجيزة هي "صفط اللبن"، "المعتمدية"، "بولاق الدكرور"، "بشتيل"، "البراجيل". تكررت التجربة ليتضاعف عدد الفتيات والمناطق المستفيدة لتصل إلى 12 منطقة ويتم إفتتاح 106 فصل.

مشروعٌ آخرٌ حققت به الجمعية إضافةً كبيرة، هو إلحاق الفتيات الصغيرات بالتعليم، فقد قام فريق العمل المكوّن من 8 أفراد بالتعاون مع محافظة الجيزة بعمل مسحٍ ميدانيّ للمناطق السكنية للوصول إلى الفتيات، إذ لم تكن هناك قواعد بياناتٍ جاهزةٍ عنهنّ. وهكذا وفي كلّ صباحٍ ينطلق أفراد الفريق ومعهم "شيخ الحارة" يطوفون على المنازل، يطرقون الأبواب ويسألون مباشرة: "هل لديكم فتاة وصلت سنّ الثامنة ولم تلتحق بالتعليم؟".

كانت هناك أزمةٌ كبيرةٌ تتعلق بأنّ عدداً كبيراً من الفتيات (20 في المئة من العدد الاجماليّ) يعشن في منازل غير مسجّلة العناوين بشكلٍ رسميّ. وهنا قامت الجمعية بالتدخل من أجل اعتماد عنوانها هي كضامنٍ لعنوان السكن في الأوراق الرسمية المقدمة من أهالي الفتيات للالتحاق بالمدرسة.

رصدت الجمعية تسجيل 1600 فتاةٍ واستمرار 93 في المئة منهنّ داخل المدارس، وانتقالهنّ للمرحلة الإعدادية بينما لم يتمكن الفريق من متابعة استكمال تعليم 7 في المئة منهنّ بسبب انتقال 5 في المئة منهنّ لمحافظةٍ أخرى طبقاً لعمل الأب ووفاة 2 في المئة من الفتيات.

شاركت "المرأة والمجتمع" في عضويّة الفريق القوميّ لتعليم الفتيات الذي شكلته الدولة بالتعاون مع الجمعيات، وشمل دورها التواصل مع القيادات المجتمعية بمحافظة الجيزة، وكافة الوزارات المعنيّة، لتوفير قطعة أرضٍ ملائمةٍ لإنشاء مدارس، والمشاركة في تسجيل الفتيات والوصول إليهنّ، وقد نجحت المبادرة حتى العام 2014 في افتتاح 78 مدرسة لتعليم الفتيات في مراكز محافظة الجيزة تضم 14980 تلميذة.

لم يقتصر جهد "سهام" وفريقها على التّعليم بل انتقل للتمكين الاقتصادي والاجتماعي. فعبر إدارة وديعةٍ بنكيةٍ باسم الجمعية، تمّ منذ العام 2005 تقديم عددٍ من قروض للمشروعات المنزليّة والصغيرة بمتوسط 140 قرض سنوياً، واستمر العمل ليصل عدد القروض في عام 2018 وحده إلى 24450 قرضٍ بقيمةٍ تزيد عن 2.2 مليون جنيه مصري، وهو ما اعتبرته "الجمعية" نجاحاً بنسبة 118 في المئة من المخطط.

وعلى النهج نفسه، ترعى الجمعية الآن مبادرةً سنويةً بعنوان "المبادرة العربية لتمكين المتحررات من الأمية اجتماعياً واقتصادياً". وعلى مدار خمس سنواتٍ تمّ تلقي طلبات ترشيح أكثر من 500 سيدة من مصر والعالم العربي، تُكرَّمُ العشراتُ منهنّ سنوياً ويُمنَحنَ جوائز لمساعدتهنّ على استكمال التعليم والنجاح الاقتصادي.

التشبيك مفتاح التأثير على الرغم من المتاهة

لم يعد السعيّ سهلاً، فالأفكار التعاونية القائمة على المساهمات الأهلية تلاقي، كما قلنا، صعوباتٍ قانونيةٍ وأمنيةٍ واقتصاديةٍ عدّة، منها إقرار قانون الجمعيات الأهلية الجديد وتعديلاتٍ بقوانين الحصول على تمويلٍ من المؤسسات الدوليّة.

أصبح ترخيص عمل جمعيةٍ أمرٌ شديد الصعوبة يستدعي المرور بشبكة استعلام أمنيّ مركبة ومربكة كما يشترط رسوماً باهظةً من أجل مزاولة النشاط، كما فُرِضت قواعد جديدة لتنظيم الحصول على تبرعات محليّة أو تمويلات خارجيّة، وهو الملف الذي يشهد بالطبع مساحات فسادٍ شاسعةٍ إضافةً إلى مخاوف أمنيّة محقة لكونه مدخلاً لتمويل الإرهاب. غير أنّ التعامل مع تلك المخاوف والاتهامات من جانب السلطات لم يتجه نحو مزيد من الرقابة والتدقيق بقدر ما خلق مناخاً للمنع إضافة إلى ما يشبه الإلزام للجهات الدولية بتوجيه تمويلاتها لمشروعاتٍ تنمويةٍ تشرف عليها الدولة.

نعم، لم يعد السعي سهلاً لكنه في الوقت نفسه فتح باباً للاجتهاد حول إمكانيات البقاء والتأثير مع مرور الوقت، على الرغم من شحّ مصادر الدعم.

هكذا يمكن وصف القصص البسيطة لكن الملحميّة لكلٍّ من "هبة" و"حسناء" و"سامية" ممّن ينشطنَ في أماكنَ مختلفة، هي على التوالي محافظات الجيزة، كفر الشيخ (دلتا مصر)، بني سويف (الصعيد).

استطاعت "هبة" على مدار ما يقارب الـ 15 عاماً أن تضع خطاً موازياً لحياتها العملية، فهي حاصلةٌ على بكالوريوس تجارة ومن خلاله ارتقت بالسلّم الوظيفيّ في عددٍ من شركات القطاع الخاص لكنّ هذا ترك أثره على شكل حياتها، فهي تعمل من الثامنة صباحاً حتى السادسة مساءاً، وتريد أن "تساعد" على الرغم مما يداهمها من صعوبات تخصّ الوقت والحياة.

تحكي: سألتُ نفسي ما الذي يمكن أن أقدمه كمبادرة مجتمعيّةٍ على ضوء ظروف حياتي؟ ففكرتُ في الاستفادة من إمكانات التواصل الضخمة حولنا، وبشكلٍ خاصٍ في مواقع التواصل الاجتماعي. جمعتُ بدايةً المعلومات عن الجمعيات والروابط الموجودة في محيط دائرتي، جنوب محافظة الجيزة، ثم نشطتُ في الانخراط في أنشطةِ عددٍ منها بدايةً، ثم ساهمت في خلق حلقة تواصلٍ بين بعضها البعض، فتبادل المعلومات والمهارات حول الحالات التي تحتاج الى مدّ يد المساعدة، سواءً في ملف العلاج أو الإطعام، أمرٌ أساسيٌّ وضروريٌّ، فالشريحة التي تحتاج المساعدة تتسع ولا يمكن لأيّ طرفٍ أن ينشط وسطها لوحده.

على مدار الأعوام الطويلة، نجحت هبة نتيجة هذا "التشبيك" في خلق "قاعدة بياناتٍ" قويةٍ تضم قائمةً بالمتبرعين والمساهمين بخدماتٍ مجانيةٍ، وقائمةً مقابلها بالحالات الأكثر احتياجا، وقائمةً ثالثةً بالجمعيات الأهليّة الفاعلة، سواءً تلك ذات الصبغة الدينيّة أو غيرها، فأصبحت من دون أن تدري "مثلث وصل" لا يمكن قياس حجم إنجازاته بدفاتر رسمية، وإنما يمكن تلمُّس قدر تأثيره بمجرد متابعة حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وبشكلٍ خاصٍ في أوقات الذروة، عند انتشار وباء كورونا مثلاً قبل عامين، حين شاركت بالتعاون مع عددٍ من الجمعيات في جمع التبرعات من أجل شراء 9 "مولدات أكسجين" يتخطى سعر الواحد منها 30 ألف جنيه.

ومن الجيزة إلى مدينة بلطيم في كفر الشيخ حيث تزيد أعوام انخراط "حسناء" في ذلك النشاط عن "هبة"، لتصل إلى 25 عاماً، بدأتها وهي في الثامنة عشر من عمرها، انضمت لجمعياتٍ ومكاتبَ خدمة، لكنّها ومع مرور الوقت وتوالي مراحل الحياة من زواجٍ وعملٍ وإنجابٍ، أخذت الصورة أمام عينيها تشحب لكنّها في الوقت نفسه كانت تشاهد اكتظاظ قائمة المحتاجين وتنوع قائمة الاحتياجات، فاستمرت، وكان بين يديها دوماً قسطٌ وافرٌ من الحصاد.

تقول: مع بداية شهر رمضان من كل عام، وبمساعدة أخرين، نجحتُ في الاتصال بعددٍ كبيرٍ من المتبرعين، تلقينا تبرعاتٍ معقولة جداً ساعدتنا على توزيع ما يقارب الـ 200 شنطة رمضانية ووجباتٍ ساخنة، أحتفظ ببيانات كل المستفيدين من أجل الاستمرار والتنقيح الدائم والمراجعة، وأحرص في وسط ذلك كله على "الخصوصية"، يأتي كلُّ واحدٍ منهم على حدى أو أذهب إليهم دون أن يعلم أحدهم شيئاً عن باقي المستفيدين.

أحد أهم اهتماماتها الآن هو استكمال الحلم الذي شاركت كثيراً في جمع التبرعات من أجله دون أن تكون عضواً في مجلس إدارة الجمعية القائمة على إدارته، ولكن يكفيها أنه داخل مدينتها، وهو "مستشفى بلطيم لعلاج أمراض الكبد والجهاز الهضمي". مشروعٌ ضخمٌ بدأ قبل 7 أعوام، تمّ خلالها الانتهاء من إنشاء المبنى كاملاً (5 أدوار وعياداتٌ خارجيةٌ وغرف عمليات)، وتبدأ الآن مرحلة جمع التبرعات والمساهمات من أجل التجهيزات الطبية.

على النهج نفسه، تحكي "سامية حنا" من قرية "محرص" بمحافظة المنيا عن تجربتها. حصلت على مساعدةٍ من إحدى الجمعيات الشهيرة بالصعيد من أجل "محو أميتها"، وكان ذلك في العام 2012، لتبدأ بعد ذلك بعامين تدريباً داخل الجمعية من أجل العمل كمنسقةٍ لإدارة فصلٍ "لمحو الأمية" في قريتها، وكان عدد السيدات اللاتي تخرجن على يدها، 16 سيدة. تحصل مقابل عملها هذا على مكافأةٍ بسيطةٍ من الجمعية الداعمة، وقد أكملت في الاتجاه نفسه، فشاركت معهم في تأسيس "مكتبة الحي والقرية" التي تساعد الطلبة على تحصيل مزيدٍ من المعرفة وتوفير كتبٍ لا تصل لمناطقهم النائية.

طوال ذلك الطريق لم تهمل تعليمها، فهي الآن طالبةٌ جامعيةٌ، وفي ضوء ذلك ونزولها للمدينة انفتحت شهيتها أكثر للعمل الاجتماعي فنشطت في المساعدة على وصول "قوافل طبية" من خلال زيارة مستشفياتٍ أهليةٍ وحكوميةٍ كبرى والتنسيق معهم من أجل زيارة أطباء مختصين للقرية. توقف ذلك النشاط مع انتشار وباء كورونا ثم عاد قبل أشهرٍ، وكانت البداية مع قافلةٍ لـ "أمراض العيون".

غرس الورد لسد الدَين

طلبت "فاتن" ألا أنشر صورتها، فالمجتمع ــ وفق تفكيرها ــ غير مؤهلٍ بعد للترحيب بمبادرتها إن أعلنت عن تفاصيلها كاملة. هي سيدةٌ بسيطةٌ ذهبت إلى سجن النساء الرئيسي في مصر، الكائن بالمدينة الريفية الشهيرة "القناطر الخيرية".

ذهبت إلى هناك - كمئاتٍ مثلها سنوياً ـ بتهمة عدم سد الدَين، تلك الظاهرة المنتشرة تحت اسم "الغارِمات" والتي تحدث غالباً بسبب شراء "الأم" أجهزة كهربائية وغيرها من لوازم تزويج الابنة، فتوقع مقابل ذلك "شيكات" بدون رصيد بمبالغ تفوق قيمة ما حصلت عليه، وحين تتعثر يتم تقديم تلك المستندات للمحكمة فتحكم عليها بالحبس.

خلال فترة حبسها التي امتدت لمدة عامين تعلّمت "الزراعة" وبشكلٍ خاصٍ العناية بنباتات الزينة والزهور. أرسلت خطاباً إلى جمعية أهلية ترعى "الغارِمات" وتسعى لسدّ ديونهنّ، فحصلت على قرارٍ بالعفو لكنّها حين خرجت لحياتها، وعلى الرغم من قصر مدة حبسها، شعرت أنّ كل شيءٍ قد تبدّل، ولم تعرف كيف يمكنها الاستمرار.

تحكي: "كانت ردود الأفعال غريبةً، أصبحتُ أحمل لقب سجينة، هذا ما يتذكره الناس ولا يرون غيره، ففكرتُ بالرحيل لمكانٍ جديد، فأنا أرملةٌ، تزوجتْ ابنتي، ومعي صبيّان في سنّ المراهقة، لذا عدت للجمعية التي مقرها أيضاً بمدينة القناطر الخيرية، وسألتهم المساعدة".

جاءت المساعدة في شكلٍ مبتكَر، تقول: "سألتني إحدى القائمات بالجمعية، ما خبرتك؟ فوجدت أنّ أهمّ ما تعلمته هو الزراعة داخل السجن". انطلق مشروعها، حصلت على مساعدةٍ ماليةٍ لاستئجار بيتٍ وقطعة أرضٍ في المدينة الريفية نفسها، وأسست مشروعاً صغيراً لنباتات الزينة. وتعهدت بالمقابل بتعليم ومساعدة "الغارِمات" المطلق سراحهنّ حديثاً على اكتساب الخبرة ذاتها، وتنفيذ مشروعٍ مماثلٍ في مناطق سكنهنّ.

تقول: أصبحتُ الآن من سكان "القناطر الخيرية"، لا أتبرع بإعلان تفاصيل قصتي، لكنني أكون سعيدة جداً حين تأتيني غارمة سابقة، وأساعدها على تأسيس مشروعها وتجاوز تجربة السجن.

عامان قد مرّا، قُدّرَت عدد من ساعدتهنّ بتسعِ سيداتٍ، تقوم هي بالتدريب، وتوفر الجمعية الدعم الماديّ، وفي نهاية موسم الربيع يجتمعن للاحتفال بحصاد أعمالهنّ. أمّا عن حلمها، فقالت "أتمنى أن أؤسس رابطةً إنتاجيةً نسائيةً ونسعى معاً للتصدير للخارج، لكن نحتاج من يمدّ لنا يد العون".

في الميزان

قصصٌ وسيداتٌ، تتميّز القصة الأولى إلى جانب حسن الإدارة بما يمكن وصفه بـ "مواتية الظرف" وهو ما ساعد النساء المؤسِّسات على تحقيق حلمهنّ الذي تكرر مع أخرياتٍ استطعن إرساء كياناتٍ كبرى مثل جمعية "تواصل" لتنمية المنطقة العشوائية "إسطبل عنتر"، التي أسستها "ياسمينة أبو يوسف"، وجمعية "مرسال" لمساعدة المرضى التي أسستها "هبة راشد"، وجميعهنّ سيداتٍ في منتصف أعمارهنّ متحمساتٍ لفكرة "التأثير"، ويمتلكن من الأدوات ما ساعدهنّ على تحقيق إنجازاتٍ ملموسةٍ شهد بها الجميع، لكنهنّ بلا شكٍ كنّ سيسعين بالاتجاه نفسه مهما تزايدت حدة الظروف وأحاطت بهنّ أسباب التكبيل التي أحاطت بأصحاب القصص التالية عليهنّ ومثلهم المئات. فالتميز الشخصي وروح المبادرة أمورٌ حاسمةٌ تتشابه بها "سهام" و"ياسمين" و"هبة" و"حسناء" و"سامية" و"فاتن".

فإذا كان عدد الجمعيات الأهلية في مصر، وفق بيانٍ رسميٍ صادرٍ عن الجهاز المركزيّ للتعبئة والإحصاء عام 2019، هو 16 ألفٍ و800 جمعيةٍ فإنّ عدد المنخرطات والمنخرطين في مبادراتٍ فرديةٍ أو جماعيةٍ غير معنونة يوازي بالتأكيد مئات الآلاف.

بعض القائمين على الجمعيات بطبيعة الحال جادٌّ ومجتهدٌ في ما يقدمه، والبعض الآخر أسماءٌ على ورق وكثير منها لا يمكن رصده. بعضهم يستثمر بشفافية الفرص التي يحصل عليها، والبعض يتخذها كمدخلٍ للفساد، أما أصحاب المبادرات الفردية فلا يمكن رصدهنّ/ م بدقة، ليس فقط بسبب الصّفة غير الرسميّة ولكن أيضاً بسبب رغبة أصحابها، لأسباب دينية، في عدم الإعلان عن أعمالهم رفضاً للتباهي.

***

ثم وبعد ذلك كله تبقى الاستمرارية والتطوير هو المعنى الضروري الذي يحتاج التأكيد عليه، فالطريق مفتوحةٌ للتقدم، ولكنّها محفوفةٌ بالخطر أمام كل من تحترف/يحترف "المحاولة". 

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...