الإجراءات الجنائية في مصر.. شرعنة انتهاك الحريات العامة

تسوِّق السلطات هذا المشروع على أنه خطوة إصلاحية لمعالجة الثغرات القائمة في نظام العدالة الجنائية. إلا أن مراقبي حقوق الإنسان يرون فيه تهديداً مباشراً للحريات العامة، وتكريساً لممارسات الاعتقال التعسفي. فبدلاً من توفير الضمانات اللازمة لحماية حقوق المتهَمين، يمنح المشروع سلطات واسعة لأجهزة الأمن والنيابة.
2024-12-05

فؤاد درويش

باحث حقوقي من مصر مقيم في بريطانيا


شارك
محبوسين ومحبوسات احتياطيا افرج عنهم في تموز / يوليو 2024

يشهد الواقع التشريعي في مصر جدلاً واسعاً حول "مشروع قانون الإجراءات الجنائية" الجديد، الذي طرحته الحكومة، وبدأ "مجلس النواب" مناقشته في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، ولا تزال جلسات النقاش بشأنه ممتدة.

تسوِّق السلطات هذا المشروع، على أنه خطوة إصلاحية لمعالجة الثغرات القائمة في نظام العدالة الجنائية. إلا أن مراقبي حقوق الإنسان يرون فيه تهديداً مباشراً للحريات العامة، وتكريساً لممارسات الاعتقال التعسفي. فبدلاً من توفير الضمانات اللازمة لحماية حقوق المتهَمين، يمنح المشروع سلطات واسعة لأجهزة الأمن والنيابة، مما يهدد بمزيد من الانتهاكات لحقوق الإنسان.

تتزامن هذه التطورات مع أزمة حقوقية عميقة تعيشها مصر منذ سنوات، حيث تشهد البلاد ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الاعتقال التعسفي والحبس الاحتياطي المطول. أما ما هو أهم، فهو أن هذا القانون الجديد مطروح كأمرٍ واقع، من دون إجراء أيّة مشاورات أو نقاشات مع الجهات ذات الصلة بالمجتمع المدني.

وعلى الرغم من تنظيم "حوار وطني" زعمت السلطات أنه يهدف إلى إشراك حقيقي لمختلف الأطراف، فقد تم إعداد هذا المشروع في جلسات مغلقة. وهو ما دفع عدداً من المشاركين في هذا الحوار، إلى التصريح بأن مشروع القانون قد جاء بعيداً كل البعد عن التوصيات المقدمة من جانبهم، والتي تتعلق بالحبس الاحتياطي وإصلاح النظام العقابي.

فإذا كانت هذه هي ملابسات طرح القانون للنقاش، فإلى أي مدى ذهبت بنوده؟

الحبس الاحتياطي: تعديلات لا تلبي التوقعات

يكتسب عادة كل قانون يتعلق بالإجراءات الجنائية أهمية بالغة في ضمان الشفافية والعدالة، ويهدف بشكل أساسي إلى تحقيق التوازن بين مصلحة المجتمع في مكافحة الجريمة من جهة، وحماية حقوق الأفراد من جهة ثانية، بما في ذلك حق المتهم في الدفاع عن نفسه. إلا أن واضعي القانون الجديد قد التزموا بنهجٍ شديد الوضوح، عماده شرعنة كافة الإجراءات، التي تواجه انتقادات حقوقية واسعة، وعلى رأسها يأتي "الحبس الاحتياطي".

فبينما كان من المفترض أن مشروع القانون يسعى إلى تعديل مدة الحبس الاحتياطي، إلا أنه يظل متمسكاً بمدد حبس طويلة، ويمنح النيابة العامة سلطة واسعة غير مقيدة. هذا التناقض يضعف من جدوى التعديلات المقترحة، ويؤكد أن المشروع لم يتناول الجوانب الجوهرية، التي تضمن حماية حقوق المتهمين.

في خطوة تعكس تضامن النقابات المهنية، أعلن نقيب المهندسين "طارق النبراوي"، عن دعمه لموقف نقيب الصحافيين الرافض لبعض نصوص القانون. ودعا "مجلس النواب" إلى التريث، وعدم التسرع في إقرار القانون، وأوضح أن التجارب السابقة أثبتت أن القوانين التي تُقر بوتيرة متعجلة أو من دون توافق مجتمعي سرعان ما تواجه عقبات في التطبيق، لأنها ببساطة لا تعكس احتياجات المجتمع الحقيقية.

تتضمن المادة (123) من مسودة القانون المقترح تقليص مدة الحد الأقصى للحبس الاحتياطي إلى 4 أشهر بدلاً من 6 أشهر في قضايا الجنح، و12 شهراً بدلاً من 18 شهراً في قضايا الجنايات، وخفض المدة إلى 18 شهراً بدلاً من 24 شهراً في حال كانت التهمة قد تؤدي الى السجن المؤبد أو الإعدام. إلى جانب ذلك، لم يضمن المشروع وقف ممارسات تدوير المتهمين من قبل الأجهزة الأمنية، التي تسيء استخدام سلطتها بالتحايل على فترات الحبس الاحتياطي المقررة في القانون، وإعادة عرضهم على النيابة بتهم جديدة، أو بالتهم نفسها.

انتقادات نقابية وحقوقية

عبّر نقيب الصحافيين المصريين، "خالد البلشي"، عن استيائه الشديد من التعديلات المقترحة، مؤكداً أنها تشكّل خطراً على الحريات الصحافية وحقوق الإنسان بشكل عام. وأوضح النقيب أن المشروع يعزز من الوضع الاستثنائي بدلاً من تغييره بما يتوافق مع نصوص الدستور. كما استنكر التسرع في طرح هذا القانون، من دون إفساح المجال لحوار مجتمعي واسع. وركّز النقيب على أن عدداً من مواد المشروع تهدد حرية الصحافة، وتزيد من صعوبة ممارسة العمل الصحافي بحرية واستقلالية. وأشار إلى أن استمرار حبس عدد كبير من الصحافيين من دون محاكمة هو دليل واضح، على أن الحبس الاحتياطي يستخدم كأداة للضغط على الصحافيين وتكميم أفواههم.

وعلى الرغم من الاستجابة لمطالب الصحافيين بإلغاء المادة (267)، التي كانت تحظر نشر الأخبار عن وقائع جلسات المحاكمات، إلا أن "مشروع قانون الإجراءات الجنائية"، لا يزال يحمل في طياته قيوداً أخرى على حرية الصحافة. فالمادة الجديدة (266)، التي حلت مكان سالفتها، تشترط الحصول على موافقة مسبقة لنشر وقائع الجلسات، وهذا قيد مباشر على حق الحصول على المعلومات.

من المفترض أن مشروع القانون الجديد، يسعى إلى تعديل مدة الحبس الاحتياطي، إلا أنه ظلّ متمسكاً بمدد حبس طويلة، وهو يمنح النيابة العامة سلطة واسعة غير مقيدة. هذا التناقض يضعف من جدوى التعديلات المقترحة، ويؤكد أن المشروع لم يتناول الجوانب الجوهرية، التي تضمن حماية حقوق المتهمين.

في خطابهم الموجه إلى الرئيس "السيسي"، بتاريخ 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، أشار المقرِّرون الأمميون إلى أن الصياغات الغامضة لبعض الأحكام قد تُستخدم لتقويض حقوق الأفراد، بما في ذلك حرية التنقل، وحرية التجمع السلمي، وحرية الرأي والتعبير. وأكدوا أن هذه التعديلات تبدو، في أجزاء منها، مخالفة للدستور المصري وللالتزامات الدولية، خاصة "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية"، الذي وقعته مصر عام 1982.

كانت "اللجنة التشريعية" في "مجلس النواب" قد أصدرت بياناً حاد اللهجة، هاجمت فيه نقيب الصحافيين على خلفية انتقاداته لمشروع القانون، متهمة إياه بتشويه الحقائق وإرباك الرأي العام. كما وصفت اللجنة تصريحات النقيب بأنها مليئة بالمغالطات والاتهامات غير الموضوعية، وادَّعت أنها تفتقر إلى الدقة، وتستهدف تشويه صورة البرلمان من دون مبرر.

وفي خطوة تعكس تضامن النقابات المهنية، أعلن نقيب المهندسين "طارق النبراوي"، دعمه لموقف نقيب الصحافيين الرافض لبعض من نصوص القانون. ودعا "مجلس النواب" إلى التريث، وعدم التسرع في إقرار القانون، وأوضح أن التجارب السابقة أثبتت أن القوانين التي تُقر بوتيرة متعجلة أو من دون توافق مجتمعي سرعان ما تواجه عقبات في التطبيق، لأنها ببساطة لا تعكس احتياجات المجتمع الحقيقية. كما أشارت نقابة المحامين إلى أن بعض المواد المطروحة في المشروع تتناقض مع الضمانات الدستورية والقانونية التي تكفل حق الدفاع العادل، لاسيما تلك التي تتعلق بتوسيع صلاحيات سلطات الضبط والتحقيق على حساب ضمانات الدفاع. إضافة إلى عدم خضوع المشروع لدراسة كافية قبل طرحه.

أبرز ما يثير القلق هو المادة (72) من مسودة القانون، التي تُعطي عضو النيابة العامة سلطة منع المحامي من الحديث أثناء جلسات التحقيق، حيث تنص على أنه "لا يجوز لوكيل الخصم الكلام إلا إذا أذن له عضو النيابة العامة". هذا النص لا يكتفي بتقييد المحامي في ممارسة دوره، بل يضع قيوداً صارمة على حق الدفاع المكفول بموجب المادة (98) من "الدستور المصري"، مما يعتبر انعداماً للتوازن بين أطراف العملية القضائية.

من ناحية أخرى، تفرض المادتان: (162) و(210) وضعاً قانونياً يحصر حق الطعن أو الاستئناف  في القضايا المتعلقة بمساءلة رجال الضبط القضائي، حيث تمنع المدعي بالحق المدني من الطعن أو الاستئناف على القرارات الصادرة، أي تقضي بأنه لا مبرر لاستمرار الدعوى، وبإخلاء السبيل، سواء جاء ذلك من النيابة العامة أو من قاضي التحقيق. وتستثنى الجرائم المنصوص عليها في المادة (123) من "قانون العقوبات"، التي تشمل عدم تنفيذ الأحكام القضائية أو الأوامر الصادرة من الحكومة.

وفيما يتعلق بإجراءات التحقيق والمحاكمة، فقد أجاز للمحكمة أو جهة التحقيق إمكانية تنظيم الإجراءات عن بُعد مع المتهمين. وعلقت "المفوضية المصرية للحقوق والحريات" على ذلك في "ورقة موقف"، ذكرت فيها أنه على مدار السنوات السابقة، وتحديداً بعد أزمة تفشي "فيروس كورونا" وإقامة المحاكمات عن بعد، عززت هذه التقنية من معاناة المتهمين، خاصة في القضايا ذات الطابع السياسي. وأن التجربة العملية لهذه الآلية أظهرت عدة إشكاليات، أبرزها تقييد قدرة المتهم على التواصل المباشر مع محاميه أو القضاة، حيث تُجرى جلسات تجديد الحبس غالباً في غرف مخصصة داخل أماكن الاحتجاز نفسها، ما يبقي المتهم تحت الإشراف المباشر لقوات الأمن التابعة لوزارة الداخلية. هذه البيئة المغلقة، التي تفتقر إلى الحد الأدنى من الحيادية، تُضاعف من مخاوف المتهمين، لا سيما في ظل تعرضهم لصور متعددة من التعذيب وسوء المعاملة داخل السجون.

تهديد للخصوصية 

جاءت المادة (47) لتُضفي مزيداً من الغموض والخطورة على التعديلات. فهي تمنح مأموري الضبط الحق في دخول المنازل وتفتيشها من دون الحاجة إلى إذن قضائي في حالات تتعلق بالخطر. ويُعد هذا تعديلاً خطيراً مقارنة بالنصوص الحالية التي تقتصر على ظروف محددة. أما النص الجديد، فقد ترك تعريف "الخطر" مفتوحاً لتقدير مأموري الضبط أنفسهم، وبالتالي يمهد هذا التعديل لتدخلات غير مبررة في خصوصيات الأفراد.

يُضاف إلى ذلك غياب الضمانات الإجرائية وهي مذكورة في القانون الحالي، مثل اشتراط حضور المتهم أو ممثله أثناء التفتيش، أو وجود شاهدين على الأقل، كما ورد في المادة (51) من النصوص القائمة حالياً. وفي ظل غياب هذه الضمانات، يصبح التفتيش معتمِداً بالكامل على مصداقية القائمين عليه.

شهد المشروع أيضاً توسعاً في صلاحيات مأموري الضبط القضائي، حيث شملت المادة (25) ضباط ومعاوني "الأمن الوطني" ضمن هذا التعريف. ولم تتوقف التعديلات عند هذا الحد، بل تعدت إلى صميم عمل النيابة العامة. ففي خطوة غير مسبوقة، أتاح المشرِّع للنيابة العامة، بموجب المادة (62)، التحقيق بشكل اختياري في قضايا الجنح، بدلاً من الإلزام بالتحقيق. كما منحت المادة (63) النيابة العامة صلاحية تفويض مأموري الضبط القضائي القيام بأعمال التحقيق، بما في ذلك استجواب المتهمين.

أبرز ما يثير القلق هو المادة (72) من مسودة القانون، التي تُعطي عضو النيابة العامة سلطة منع المحامي من الحديث أثناء جلسات التحقيق، حيث تنص على أنه "لا يجوز لوكيل الخصم الكلام إلا إذا أذن له عضو النيابة العامة". هذا النص لا يكتفي بتقييد المحامي في ممارسة دوره، بل يضع قيوداً صارمة على حق الدفاع المكفول بموجب المادة (98) من "الدستور المصري"، مما يعتبر انعداماً للتوازن بين أطراف العملية القضائية.

جاءت المادة (47) لتُضفي مزيداً من الغموض والخطورة على التعديلات. فهي تمنح مأموري الضبط الحق في دخول المنازل وتفتيشها في "حالات تتعلق بالخطر"، من دون الحاجة إلى إذن قضائي. ويُعد هذا تعديلاً خطيراً، مقارنة بالنصوص الحالية، التي تقتصر على ظروف محددة. والنص الجديد يترك تعريف "الخطر" مفتوحاً لتقدير مأموري الضبط أنفسهم. وهكذا يمهد هذا التعديل لتدخلات غير مبررة في خصوصيات الأفراد. 

يرى المحامي "ياسر سعد" أن المادة (81) من التعديل المقترح تُعدّ إهداراً لحقوق وحريات المواطنين، فضلاً عن انتهاك تلك النصوص لنص المادة (54) من "الدستور المصري"، فهي تعطي الحق لعضو النيابة العامة بأن يأمر بمراقبة "مواقع التواصل الاجتماعي، والبريد الإلكتروني، والرسائل النصية أو المصورة على الهاتف الخلوي، وضبط الوسائط الحاوية لها". ولم يحدد المقترح إذا كانت هذه المراقبة تسري على المشتبه به فقط أم تسري كذلك على أشخاص قريبين منه، مما يتيح مراقبة حسابات عدد كبير من الناس من دون حاجة حقيقية لذلك.

مخاوف أممية

أبدى مقررو الأمم المتحدة المختصون بالشأن، مخاوفهم بشأن التعديلات التي تعكف الحكومة المصرية على إدخالها ضمن "مشروع قانون الإجراءات الجنائية"، بينما تسعى الحكومة المصرية إلى تقديم هذا المشروع كخطوة إيجابية نحو تعزيز سيادة القانون وحقوق الإنسان. إلا أن الخبراء الأمميين يرون فيه تهديداً مباشراً لهذه الحقوق.

في خطابهم الموجه إلى الرئيس "السيسي" بتاريخ 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، أشار المقرِّرون إلى أن الصياغات الغامضة لبعض الأحكام قد تُستخدم لتقويض حقوق الأفراد، بما في ذلك حرية التنقل، وحرية التجمع السلمي، وحرية الرأي والتعبير.

أكد الخطاب أن هذه التعديلات تبدو في أجزاء منها، مخالفة للدستور المصري وللالتزامات الدولية، خاصة "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية"، الذي وقعته مصر عام 1982. وركز المقررون على المواد المتعلقة بالحق في الحرية والأمن، والخصوصية، وحرية تكوين الجمعيات، والمحاكمة العادلة، معتبِرين أن بعض المواد قد تؤدي إلى الإخلال بمبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان.

وتعوِّل الحكومة المصرية على مشروع القانون لتحقيق مكاسب دولية، حيث وصف وزير الخارجية "بدر عبد العاطي" مشروع القانون بأنه "ثورة تشريعية"! وأشار خلال تصريحاته أمام البرلمان إلى أن المشروع يمثل جزءاً من سجل مصر في تحسين أوضاع حقوق الإنسان، والذي سيتم عرضه خلال الجولة الرابعة للمراجعة الدورية الشاملة لحقوق الإنسان في كانون الثاني / يناير المقبل.

وفي الخلاصة، ينذر المشهد بمزيد من التغول على الحقوق الدستورية والحريات العامة، وهو تغول لا يأتي هذه المرة باسم أمن الوطن، وأنما باسم القانون وسطوته المشروعة.

مقالات من مصر

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...