اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات رنانة. وبذلك أُفُرِغ مفهوم الصمود من دلالاته التطبيقية، وتمّ حرف مساره من قبل المانحين. وهناك جزء من المجتمع الفلسطيني، تماهى مع أجندة المانحين، بدليل تبني عددٍ من المشاريع التنموية (الوهمية) ضمن إطار "الصمود".
2024-11-17

مسيف جميل

باحث في الاقتصاد الفلسطيني


شارك
في انتظار الطعام، غزة

القصد من هذه المقالة، ليس زيادة التشاؤم، وإنما رصد دلالات الواقع الاقتصادي الحقيقي، والإقرار بحقيقة التدهور والتراجع غير المسبوق، الذي أنتجته حرب الإبادة، وذلك بهدف توصيل رسالة واضحة إلى المجتمعين الدولي والفلسطيني، من أجل عدم القفز على الأولويات الحالية والملحة، ومن أجل الابتعاد عن الشعارات الاقتصادية الجذابة، التي لا تغني ولا تسمن من جوع.

الاقتصاد الفلسطيني ما قبل حرب الإبادة وما بعدها

ما قبل حرب الإبادة الجارية حالياً، رَصدت عددٌ من الدراسات والمقالات في السنوات الثلاثين الماضية، (بعد اتفاقية أوسلو)، المشهد الاقتصادي الفلسطيني المتقلب وغير المستقر، وكانت نتيجة هذا الرصد أن هناك وضعاً اقتصادياً فلسطينياً يعيش في حال من الصمود المتواصل، مع إضفاء قليل من الأمل لإحداث تنمية اقتصادية فلسطينية، على الرغم من التشوهات الهيكلية في الاقتصاد الفلسطيني، الناجمة عن سياسات الاحتلال، الذي لم يتوانَ عن اتباع كافة الإجراءات، التي من شأنها تقويض التنمية الفلسطينية. وبعد العام 2000، زادت هشاشة الاقتصاد الفلسطيني وزاد ضعفه، كما زادت تبعيته للاقتصاد الإسرائيلي. واستمر هذا التراجع بشكل متوازن حتى العام 2006، (أي لم يؤدِّ إلى الانهيار الاقتصادي)، ذلك لأن "قطاع غزة"، بقي يشكل حوالي ثلث الاقتصاد.

هذا الثلث من المساهمة، بدأ يتلاشى تدريجياً مع كل صدمة جديدة يتعرض لها "قطاع غزة"، الذي تلقى سبع صدمات اقتصادية منذ العام 2000 حتى اليوم، ابتداءً من "انتفاضة الأقصى"، والقيود المشدَّدة التي طُبقت عليه، والتبعات الناجمة عن الانقسام عام 2007، ومن ثم خمس حروب أخرى، آخرها حرب الإبادة الدائرة حالياً، وكل ذلك يندرج في إطار إغلاق وحصار شبه شامل على "قطاع غزة" منذ 18 سنة. وكانت النتيجة أن مساهمة اقتصاد "قطاع غزة" وصلت إلى 17 في المئة فقط قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وكانت النتائج تراجع أكثر من 70 في المئة من قدرات "قطاع غزة" الاقتصادية. ولم يقتصر هذا التأثير على "القطاع" فحسب، بل انسحب أيضاً، ليؤثر على "الضفة الغربية"، ولكن بوتيرة أقل. وقد أكد الخبراء الاقتصاديون، إضافة إلى التقارير الأممية والدولية، أن الاقتصاد الفلسطيني مزقته الحروب، مع خضوعه لتبعية سلبية للاقتصاد الإسرائيلي، الأمر الذي حدَّ من نموه، وجعله أسيراً للسياسات الإسرائيلية المعطِّلة والمحبطة لأي مسار تنموي.

خلال حرب الإبادة الحالية، جرى تدمير لا مثيل له للاقتصاد الفلسطيني، في كل من "قطاع غزة"، و"الضفة الغربية"، حيث سجلت مؤشراته أكبر هبوط في التاريخ الحديث، إذ وصلت مستويات البطالة في "قطاع غزة" إلى أكثر من 85 في المئة، وفي "الضفة الغربية" إلى 36 في المئة، وذلك بسبب تعطل ملحوظ في القطاعات الإنتاجية الفلسطينية، ووقف العمالة في إسرائيل، الأمر الذي رفع من مستويات الفقر بشكل غير مسبوق، لتصل في المجمل إلى 60 في المئة في الأراضي الفلسطينية كافة، مع ملاحظة أن 70 في المئة من سكان "غزة"، كانوا يعتمدون على المساعدات الخارجية قبل هذه الحرب.

ولهذه المؤشرات دلالاتها الاقتصادية والتنموية ذات البعد التدميري والتراجعي، وهي كفيلة بحرف كافة الجهود الفلسطينية الرامية إلى الصمود. والمأزق كبير في "قطاع غزة" مقارنة بـ"الضفة الغربية"، ولكن التأثير السلبي ينسحب على المناطق الفلسطينية كافة.

مفهوم الصمود والبقاء الاقتصادي

برز مفهوم "اقتصاد الصمود" كمصطلح اقتصادي جذّاب تبناه عرابو الدول المانحة، وصار إطاراً متفقٌ عليه في بعض من المشاريع الإغاثية، التي لم تحرز تغييراً جوهرياً في الحياة الاقتصادية للفلسطينيين. وعلى الرغم من ذلك، فقد استوعب صانعو القرار والمثقفون الفلسطينيون هذا المصطلح، وصار يُتداول بكثرة، في الأدبيات السياسية (كونه مرتبطاً بالمقاومة) والاقتصادية والجوانب العملية والتطبيقية.

كتب "رجا الخالدي" عن "الصمود في فلسطين .. من التصدي للاحتلال إلى استدامته"، وبيّن أنه لا توجد جدوى للصمود ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. ما يلفت الانتباه فيما كتبه، هو كيف أن المانحين استخدموا الصمود كإطار أو مصطلح جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي المرتبط بالصمود، ويعطي رونقاً وزخماً للعملية التنموية في فلسطين، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات رنانة، تتوافق مع مشاعر الشعوب المضطهَدة، وبذلك أُفُرغ مفهوم الصمود من دلالاته التطبيقية، وتمّ حرف مساره من قبل المانحين. الخطورة، هنا، أن جزءاً من المجتمع الفلسطيني تماهى مع أجندة المانحين، بدليل تبني عددٍ من المشاريع التنموية (الوهمية) ضمن إطار "الصمود".

حرب الإبادة الجماعية الجارية تجب ما قبلها، بمعنى أنها طمست كافة المفاهيم والمصطلحات الاقتصادية، التي يمكن إسقاطها على الاقتصاد الفلسطيني، ويمكن القول إنها شُطِبت من السجل الاقتصادي الفلسطيني، كما شُطِبت آلاف العائلات الفلسطينية في "قطاع غزة" من السجل المدني. فلم يعد هناك نمو أو تنمية، أو اقتصاد صمود، ودخلنا في مرحلة اقتصاد جديد، يمكن تسميته "اقتصاد البقاء".

أنتجت حرب الإبادة هذا النوع من الاقتصاد العاجز (اقتصاد البقاء)، وذلك لأن الاقتصاد في "قطاع غزة" حالياً يواجه عرضاً أو إنتاجاً محدوداً جداً، وطلباً يائساً، لانعدام القوة الشرائية وغياب مصادر الدخل، وحصاراً وإغلاقاً أمام الواردات والصادرات، مع ارتفاع حاد في الأسعار، تصاحبه سوق سوداء وتجار حرب وعصابات نهب للمساعدات، في الوقت الذي تشح فيه المساعدات.

التساؤل هنا: ما الذي كشفت عنه حرب الإبادة الجماعية فيما يخص المفاهيم الاقتصادية المتداوَلة عملياً ونظرياً؟ الإجابة المباشرة، هي أن هذه الحرب تجب ما قبلها، بمعنى أنها طمست كافة المفاهيم والمصطلحات الاقتصادية التي يمكن إسقاطها على الاقتصاد الفلسطيني، بمعنى أنه يمكن القول إنها شُطِبت من السجل الاقتصادي الفلسطيني، كما شُطِبت آلاف العائلات الفلسطينية في "قطاع غزة" من السجل المدني. فلم يعد هناك نمو أو تنمية، أو اقتصاد صمود، وأدخلتنا في مرحلة اقتصاد جديد، يمكن تسميته "اقتصاد البقاء". لتوضيح ذلك، ننطلق من ثلاثة تعاريف أساسية هي: النمو والتنمية، واقتصاد الصمود، واقتصاد البقاء. يتناول النمو الاقتصادي زيادة في مستوى الإنتاج المادي للفرد والمجتمع، بينما التنمية الاقتصادية مرتبطة بزيادة في الإنتاج من خلال التغير الهيكلي والوظيفي، إلى جانب تحسين الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للبلد. فالنمو يتوقف في مرحلة من الزمن، بينما التنمية تبقى مستمرة، وبذلك يكون النمو جزءاً من العملية التنموية، والعكس غير صحيح.

بلا تعليق

بالنظر إلى تعريف الصمود واقتصاد الصمود، يتبين أن الصمود يتجلى في مواجهة أفعال وسياسات هادفة إلى إلغاء الطرف الآخر، وهذا تنجم عنه مقاومة وتصدٍّ من قبل الطرف الذي يتعرض لسياسات وأفعال الإلغاء والاضطهاد، وتظهر مؤشرات الصمود في التمسك بالأرض، أو في الحفاظ على المنطقة الجغرافية للساكنين. وهذا الصمود مرتبط بالدرجة التي يتحملها المتصدي أو الصامد في مقاومة الأفعال المدمِّرة المستمرة، وقدرته على البقاء صامداً. ومن هنا، يمكن الحديث عن اقتصاد الصمود، الذي يتيح للسكان تأمين احتياجاتهم الأساسية، وتمويل متطلبات الإغاثة. هذه الحالة ينتج عنها ما يمكن تسميته "اقتصاد البقاء"، عندما يتعرض اقتصاد الصمود إلى صدمات كبيرة مثل الإبادة الحاصلة في "قطاع غزة"، إذ أن اقتصاد الصمود حالة مستمرة، وقد تكون طويلة الأمد، بينما اقتصاد البقاء حالة مؤقتة تنتهي بانتهاء الحدث المفاجئ والمدمر، وفي حال انتهاء الحدث، تتم العودة إلى اقتصاد الصمود. بمعنى في حالة اقتصاد البقاء يجد السكان أنفسهم في حال من الكساد الاقتصادي العميق، وحال عالية من مستوى البطالة، وانعدام للدخل، وتدهور حاد في مستوى المعيشة، وشبه غياب للخدمات الأساسية، خاصة الصحية منها، فيصبح الهدف الأساسي للسكان هو البقاء على قيد الحياة. وهنا يمكن تعريف اقتصاد البقاء بأنه الحالة التي يستطيع السكان فيها تلبية احتياجاتهم المعيشية بالحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة، مع انتظار وترقب مرحلة تحسين الأوضاع الاقتصادية، وقد تكون هذه المرحلة هي الوصول إلى مرحلة اقتصاد الصمود.

مرحلة اقتصاد الصمود يمكن استمرارها، من خلال اتخاذ مجموعة من السياسات الاقتصادية المتعلقة بدعم القطاعين الزراعي والصناعي، وتعزيز حصة المنتج الوطني، وسياسات لخلق فرص عمل إضافية، وسياسات ضريبية محابية للفقراء، وغير ذلك من السياسات التي تخدم الصمود. وقد تفيد هذه السياسات عملية النمو الاقتصادي في مرحلة ما. بينما اقتصاد البقاء يحد من القيام بسياسات اقتصادية بشكل كبير جداً، بسبب الأفعال المعادية المدمرة، ونقصد هنا حرب الإبادة الجماعية. حتى إنه لا يمكن تسمية هذه المرحلة بأنها مرحلة اقتصاد حرب، لأنه في اقتصاد الحرب تبقى السياسات الاقتصادية فعالة، ويمكن تغييرها وتطويرها، ولكن في حالة اقتصاد البقاء، تصبح جميع السياسات الاقتصادية عاجزة.

حرب إبادة أنتجت بؤساً اقتصادياً وفقداناً للأمل

أنتجت حرب الإبادة هذا النوع من الاقتصاد العاجز (اقتصاد البقاء)، وذلك لأن الاقتصاد في "قطاع غزة" حالياً يواجه عرضاً أو إنتاجاً محدوداً جداً، وطلباً يائساً، لانعدام القوة الشرائية وغياب مصادر الدخل، وحصاراً وإغلاقاً أمام الواردات والصادرات، مع ارتفاع حاد في الأسعار، تصاحبه سوق سوداء وتجار حرب وعصابات نهب للمساعدات، في الوقت الذي تشح فيه المساعدات. فقد كشفت هذه الحرب عن زيف المساعدات والمشاريع السابقة، التي كانت تقدَّم ضمن مشاريع "النمو المستدام"، و"التنمية المستدامة"، وتبين أنها تنمية مؤقتة جداً، ونمو شبه معدوم، وأن اقتصاد الصمود كان له أثر معقول ما قبل هذه الحرب، ولكن سرعان ما تلاشى وصار غير ملحوظ، بدليل تراجع وانهيار كافة المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية لـ"قطاع غزة".

برز مفهوم "اقتصاد الصمود" كمصطلح اقتصادي جذّاب، تبناه عرابو الدول المانحة، وصار إطاراً متفقٌ عليه في بعض من المشاريع الإغاثية، التي لم تحرز تغييراً جوهرياً في الحياة الاقتصادية للفلسطينيين. وعلى الرغم من ذلك، فقد استوعب صانعو القرار والمثقفون الفلسطينيون هذا المصطلح، وصار يُتدَاول بكثرة في الأدبيات السياسية (كونه مرتبطاً بالمقاومة)، والاقتصادية، والجوانب العملية والتطبيقية.

على المجتمعين الدولي والفلسطيني أن يدركا أن مفاهيم التنمية والنمو والسياسات الاقتصادية والصمود الاقتصادي جميعها، قد أُسقطت بآلة حرب الإبادة، وصارت بلا معنى، ولن تسترجع مضمونها ما لم يتم وقف آلات وآليات الموت للوصول إلى نقطة الصفر، ومن ثم بدء الانطلاق من حالة البقاء الاقتصادي الحالية إلى الصمود الاقتصادي، وبعدها مرحلة التنمية والنمو الاقتصادي.

وضعت حرب الإبادة هذه غالبية سكان فلسطين على حافة الهاوية الاقتصادية، ولم تكن "الضفة الغربية" بمنأى عن هذه الهاوية، إلا أن الأوضاع الاقتصادية في "قطاع غزة" قد تجاوزت كل التصورات الكارثية، وزجت السكان في حالة البحث عن البقاء، والبحث عن كيفية مواصلة الحياة، والحصول على الحد الأدنى من متطلباتها.

لذلك كله، صار الاقتصاد الفلسطيني، خاصة في "قطاع غزة"، يواجه حالة البقاء الاقتصادي، ولم يعد بالإمكان التعامل مع الوضع الاقتصادي الحالي كما كانت الحال عليه قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بسبب التغير الجوهري، الذي مزّق وأسقط الأدوات والمفاهيم الأساسية، التي على أساسها يتم بناء السياسات والبرامج الاقتصادية. بمعنى أن الحديث حالياً يتركز في عدم الترحيل والتهجير القسري، وعدم التجويع، وتوفير الإيواء ولو بحده الأدنى، وليس الحديث عن النمو الاقتصادي، أو الصمود الاقتصادي، أو البرامج التنموية التي تعزز من الرفاه الاقتصادي والاجتماعي، فجميعها تسقط وتفقد معانيها في ظل الإبادة الجماعية.

الخلاصة هنا، أنه على المجتمعين الدولي والفلسطيني أن يدركا أن مفاهيم التنمية والنمو والسياسات الاقتصادية والصمود الاقتصادي جميعها قد أُسقطت بآلة حرب الإبادة، وصارت بلا معنى، ولن تسترجع مضمونها ما لم يتم وقف آلات وآليات الموت للوصول إلى نقطة الصفر، ومن ثم بدء الانطلاق من حالة البقاء الاقتصادي الحالية إلى الصمود الاقتصادي، وبعدها مرحلة التنمية والنمو الاقتصادي، وهذا ما يجب أن يركّز عليه المجتمع الدولي، للتخلص من حالة البؤس وفقدان الأمل.

مقالات من فلسطين

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

الزيتون يا أبي

يتعلّق قلب أبي بأرضه، وهذا ما جعلني الآن أُدرك كيفَ تعلقَ أجدادنا بأرضهم، ويجعلني أُدركُ كيف يتعلق أولئك الذين نزحوا أو هاجروا ببلادهم، ثم يقررون بعد عشرات السنين العودةَ إليها....

للكاتب نفسه

معضلة الضمان الاجتماعي الفلسطيني

مسيف جميل 2018-11-10

عدم الثقة بمؤسسة الضمان الاجتماعي، وعدم القناعة بالحكومة باعتبارها ضامناً، وغياب اللوائح التفسيرية والأنظمة الأخرى التي كان يجب أن تتوفّر قبل البدء بتطبيق القانون، كلّها عوامل أدّت إلى توسيع الفجوة...