المساعدات الإنسانية: تحسين لشروط الإبادة الجماعية

حال الدمار الشاملة والمتراكمة بعد كل عدوان، إضافة إلى القيود الهائلة على دخول المواد اللازمة لإعادة الإعمار، تجعل من العملية شبه مستحيلة. فمثلاً، قُدِّرت كلفة إعادة إعمار جامعة الأقصى بمليار دولار بعد تدميرها على إثر عدوان عام 2008. كما أعلنت إحدى المؤسسات الدولية أثناء حملة إعادة الإعمار بعد عدوان عام 2014 بأن إعادة الإعمار دون كسر الحصار ستحتاج على الأقل إلى قرن كامل.
2023-11-03

أنمار رفيدي

باحثة من فلسطين


شارك
يزن أبو سلامة - فلسطين

ضجت الأنباء في اليوم الخامس عشر للعدوان بخبر دخول عشرين شاحنة تحمل على متنها مساعدات إنسانية لقطاع غزة، ورغم أنها لم تحمل الطعام أو الماء، إلا أنها جاءت محملة ببعض الأدوية غير الضرورية والأكفان، ولعل في ذلك عبرة لا يمكن تجاهلها حول "مساعدة" قطاع غزة. تبع دخول هذه الشاحنة أعداد محدودة من الشاحنات في الأيام اللاحقة للعدوان، لا تكفي حتى لتوفير ما هو أدنى من الحد الأدنى من متطلبات العيش اليومية ل2.5 مليون نسمة في القطاع. كما أنها في أحسن أحوالها لا تمثل إلا جزءاً بسيطاً من عدد الشاحنات التي كانت تدخل قبل العدوان، أو المطلوب دخولها والتي يجب أن تصل الى مئة شاحنة يومية بحسب الأمم المتحدة. كنتيجة مباشرة لموجات "النكوص التنموي" بحسب ما أسمته سارة روي عام 1985 ومجدداً عام 1999، تنبأت الأمم المتحدة قبل عدة أعوام بأن غزة ستصبح غير صالحة للعيش في عام 2020. الاعتداءات المتكررة طوال السنوات الماضية أدت إلى تدمير بنيوي للقطاع يقوّض أي آفاق لإعادة الإعمار أو حل جوهري "للكوارث الإنسانية".

كما يحضر هنا السؤال المهم: هل ما يحدث يمكن تسميته "كارثة إنسانية" أم هو نتاج طبيعي لا مفر منه للوقوع تحت الاستعمار؟ فبينما قد نسمي زلزالاً يضرب منطقة بأكملها ويذهب ضحيته الآلاف، كارثة إنسانية، بيد أن الذي يحدث في قطاع غزة هو نتاج توجهات سياسية معلنة من قوى استعمارية لطالما عبّرت بوضوح عن نيتها إبادة هذا المكوِّن الوطني بشكل كامل.

"أضعف الإيمان"

في إحدى خطبه، توجه أبو عبيدة المتحدث باسم كتائب القسام الى الزعماء العرب مستهزئاً أن يوجهوا طاقاتهم نحو إدخال شاحنات الإمدادات الإنسانية طالما لن يقاتلوا إلى جانب فلسطين. ونداؤه هذا تعبير مكثف عن مبدأ "أضعف الإيمان" عندما يتعلق الأمر بالنضال ضد الاستعمار. حقيقةً، هناك ضرورة لا يمكن تجاهلها تقول أن سنوات طويلة من الحصار والاعتداءات المتكررة على القطاع في العقدين الماضيين أفضت إلى حال مستعصية تتمثل بالنكوص الاقتصاديّ، جاعلة البقاء اليومي لسكان القطاع معتمداً بشكل شبه كامل على المساعدات الإنسانية.

إلا أن هذه المساعدات، عند النظر إلى السياق الكلي لقطاع غزة، ما هي إلا وسيلة لتحسين شروط الإبادة الجماعية فيما يتم انتظار العدوان اللاحق الذي سيعيد ويكرر هذه الحال ذاتها. ومن المهم الانتباه إلى أنه بعكس إدخال المساعدات الإنسانية أثناء عدوان 2014 فإن إدخال المساعدات الحالي لم يرتبط بأي إعلان عن وقف إطلاق النار أو هدنة مؤقتة، وهو شرط أمريكي عبّرت عنه واشنطن مراراً. وربما يكون ذلك بحد ذاته كافياً لاعتبار هذه المساعدات ليست إلا محاولة لتحسين ظروف الإبادة الجماعية.

قد يبدو اعتباطياً استخدام مصطلح العدوان "الحالي"، او حتى متشائم إلى حدٍ ما، إلا أنه في الحقيقة ليس كذلك. فوجود الاستعمار يعني، بطبيعة الحال، استمرار مثل هذا العدوان "الحالي" مرات لن تُعد ولن تُحصى ولن تنتهي إلا في حال التحرير. وبالتالي، فلا بد من الاستفادة من تجارب العدوانات السابقة. 

المساعدات وحدها، الحالية والمستقبلية، لن تعيد الشهداء، ولن تعالج أزمات المياه والكهرباء المتجذرة أو الأزمة الصحية. إنها تلعب دور "إبرة التخدير" ريثما ينتهي العدوان الحالي ويعتاش عليها الناس في انتظار العدوان اللاحق الذي سيعيد دائرة التدمير البنيوي للقطاع.

في الأيام الأولى للعدوان الحالي قطعت إسرائيل الكهرباء والماء والغذاء بإعلان رسمي من وزير الحرب الصهيوني، ودمرت البنى التحتية الخدماتية والصحيّة بطريقة ممنهجة. وكما في الاعتداءات السابقة، أحدثت دماراً في القطاع يصعب إصلاحه حتى من خلال مبادرات "إعادة الإعمار"، كما ومنعت الإمدادات الغذائية عبر الحدود المصرية الفلسطينية. وأصلاً، في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر لهذا العام، كانت غزة تعاني من انقطاعات متكررة في التيار الكهربائي وكانت التعذية تصل في أحسن أحوالها إلى 8 ساعات في اليوم، إذ يمنع الاستعمار إنتاج الطاقة في قطاع غزة ويبيعها له بأسعار باهظة وبكميات محدودة، كما ويمنع الحصار دخول الوقود اللازم لتوليد الطاقة. أما معدل استهلاك المياه الآمنة اليومي للفرد فهو بالكاد يصل إلى خُمس ما هو موصى به بحسب منظمة الصحة العالمية. كما يشمل الحصار الحظر على دخول المواد الصحية والغذاء والوقود والمواد الضرورية لأي مبادرة "إعادة إعمار" جذرية.

الضرورات التحررية

قد يبدو اعتباطياً استخدام مصطلح العدوان "الحالي"، او حتى متشائم إلى حدٍ ما، إلا أنه في الحقيقة ليس كذلك. فوجود الاستعمار يعني، بطبيعة الحال، استمرار مثل هذا العدوان "الحالي" مرات لن تُعد ولن تُحصى ولن تنتهي إلا في حال التحرير. وبالتالي، فلا بد من الاستفادة من تجارب العدوانات السابقة.

عطفاً على ذلك، يدور سؤالٌ في الأذهان حول ماهية الضرورة الإنسانية في الحرب مقابل الضرورات التحررية الأخرى. في إحدى المساهمات الأكاديمية التي قامت بتحليل إمكانية إعادة إعمار قطاع غزة، كان الجواب المفصلي يشير إلى أن حال الدمار الشاملة والمتراكمة بعد كل عدوان، إضافة إلى القيود الهائلة على دخول المواد اللازمة لإعادة الإعمار، تجعل من العملية شبه مستحيلة. فمثلاً، قُدِّرت كلفة إعادة إعمار جامعة الأقصى بمليار دولار بعد تدميرها على إثر عدوان عام 2008. كما أعلنت إحدى المؤسسات الدولية أثناء حملة إعادة الإعمار بعد عدوان عام 2014 بأن إعادة الإعمار دون كسر الحصار ستحتاج على الأقل إلى قرن كامل. هنا نستذكر آلية "إعادة إعمار غزة" والتي تم طرحها بعد عام 2014 والتي تُعطي بشكل ضمني الحق للمستعمِر بالتحكم بما يسمح بدخوله الى القطاع. وبالتالي من الطبيعي أن نفترض منعه لأي مواد حيوية لإعادة إعمار فعليّة لقطاع غزة.

يؤشر ذلك كله إلى عمق "الكارثة الإنسانية" في قطاع غزة والتي لن تُحلّ لا بدخول 20 شاحنة ولا حتى 200 شاحنة، أو حتى بمطالبات "استدامة المساعدات الإنسانية". هذه المعالجة لكوارث القطاع ليست ذات نفع، بينما التاريخ يعيد نفسه. وسيكون من السخافة بمكان التزام الخطاب الدائم للمساعدات الإنسانية ولاحقاً خطاب إعادة الإعمار. ويتحتم علينا الوقوف لمراجعة هذا الخطاب المتكرر والذي تصبح فيه المساعدات الإنسانية غير مسيسة ومنزوعة عن السياق السياسي الأوسع.

"المساعدات الانسانية"، عند النظر إلى السياق الكلي لقطاع غزة، ما هي إلا وسيلة لتحسين شروط الإبادة الجماعية، بانتظار العدوان اللاحق الذي سيعيد ويكرر هذه الحال ذاتها. ومن المهم الانتباه أنه بعكس إدخال المساعدات الإنسانية أثناء عدوان 2014 فإن إدخال المساعدات الحالي لم يرتبط بأي إعلان عن وقف إطلاق النار أو هدنة مؤقتة، وهو شرط أمريكي عبّرت عنه واشنطن مراراً.

"الاقتصاد المقاوم" هو نموذج التنمية المستدامة غير المتجذر في السياق الاستعماري، بعكس مفهوم التنمية المستدامة الذي تتبناه الأمم المتحدة، وهو يقضي بتنمية ذات هدف مباشر هو تعزيز الصمود المحلي والانعتاق من المستعمِر كإحدى وسائل التحرر الوطني، وليس فقط "تحسين" مستوى الحياة تحت الاستعمار. 

نصل بالتالي إلى حقيقة مفادها أنها وعلى الرغم من أهمية دخول ما يسمى بالمساعدات الإنسانية - ففي النهاية الناس بأمس الحاجة إلى الغذاء والماء والدواء - إلاّ أن دخولها يجب ألاّ يحيّد انتباهنا عن ضرورة مواجهة النظام الاستعماري الذي خلق الحاجة إلى وجود مساعدات إنسانية. المساعدات وحدها، الحالية والمستقبلية، لن تعيد الشهداء، ولن تعالج أزمات المياه والكهرباء المتجذرة أو الأزمة الصحية التي ذهب ضحيتها ما يزيد عن 830 مريضاً من قطاع غزة منذ بداية الحصار، وبالتأكيد لن تزيل الاستعمار.

وقد تمتد المحاجة هذه لتشمل محاولات أخرى للتخفيف من وطأة وجود الاستعمار دون المواجهة الجذرية له، فهذه المساعدات تلعب دور "إبرة التخدير" ريثما ينتهي العدوان الحالي ويعتاش عليها الناس في انتظار العدوان اللاحق الذي سيعيد دائرة التدمير البنيوي للقطاع. كما لن توفر أية أرضية لتطوير ممارسات تنموية محلية مقاوِمة تعزز الاعتماد على النفس والانعتاق عن الاستعمار والمساعدة الدولية، المشروطة والمنقوصة في الغالب. غير أنها بحسب التأطيرات النظرية للتنمية تحت الاستعمار، تبنت منهجية "ما بعد استعمارية" (Post Colonial) موجهة نحو دعم مشروع "بناء الدولة" في ظل إطار اتفاقية أوسلو، متجاهلة بذلك السياق الاستعماري الذي يحكم العملية ككل، ونظرت إليها كأنها حال لدولة "في طور التنمية" بحسب النموذج النيوليبرالي.

الآني كمحطة للتأمل المستقبلي: الاقتصاد المقاوِم

قد يجدر هنا استغلال هذه اللحظة ومثال عدم كون المساعدات الإنسانية  خياراً مستداماً لإعادة التفكير في نماذج "التنمية بالحماية الشعبية" و"الاقتصاد المقاوم" كنماذج للتنمية المستدامة غير المتجذرة في السياق الاستعماري، بعكس مفهوم التنمية المستدامة الذي تتبناه الأمم المتحدة، الذي يقضي بتنمية ذات هدف مباشر هو تعزيز الصمود المحلي والانعتاق من المستعمر كإحدى وسائل التحرر الوطني، وليس فقط "تحسين" مستوى الحياة تحت الاستعمار. فمن السخف أن يتمحور اقتصاد مجتمع تحت الاستعمار حول المساعدات الدولية وأن تعتاش منطقة كاملة يبلغ عدد سكانها 2.5 مليون فلسطيني على المساعدات الإنسانية. فالمساعدات الدولية تتراجع في السنوات الأخيرة وتخضع لشروط الممولين وليس لمسوغات تنموية تحررية مستقاة من واقع العيش تحت الاستعمار والرغبة في التحرر منه. لا يقوض ذلك أي فرص انعتاق اقتصادي وتنمية محلية أصيلة فحسب، بل أيضاً فرص التحرر ككل.  

مقالات من فلسطين

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....

للكاتب نفسه