صبيحة "اليوم السوري للبيئة" المصادف الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر، التهمت حرائق واسعة، ساندتها رياح شرقية جافة شديدة السرعة، آلاف أشجار الزيتون المثقلة بالثمار هذا العام، في مناطق الساحل السوري: (ريف "جبلة" حتى "البدروسية")، وأطرافاً واسعة من ريف "حمص" الغربي حتى منطقة "مشتى الحلو" قرب "حماة". وإلى حين تمكّن عناصر الإطفاء، بإمكانات بسيطة وجهود جبارة، من إخماد الحرائق بعد عدة أيام من اندلاعها وانتشارها، كانت مئات دونمات الزيتون، ومعها أشجار حراجية وغابوية، قد ترمّدت، رافقها احتراق بعض البيوت، من دون وجود أضرار بشرية.
كان النصيب الأكبر من الحرائق الأخيرة في محافظتي"اللاذقية"، و"حمص". ووفق معلومات محلية مصدرها مديريات الزراعة في هاتين المحافظتين، فإنّ هناك ثمانين موقعاً اشتعلت فيها النيران بشكل مفاجئ، ودفعة واحدة، مما يجعل من حضور العامل البشري في إشعالها كبيراً.
وهذه ليست المرة الأولى، التي تنال فيها الحرائق من أهم محصول لدى سكان الساحل السوري، إذ سبق أن غطّت النيران مساحات شاسعة من مناطق جبال "القرداحة"، و"حمص"، و"بانياس"، في حرائق العامين 2009 و2016، فيما قُدّرت مساحة أراضي الزيتون المنكوبة في "اللاذقية" بما نسبته ثلاثة في المئة من إجمالي إنتاج سوريا من الزيتون وزيته في حرائق العامين 2019 و2020.
____________
من دفاتر السفير العربي
مدن سوريا
____________
في الحرائق الأخيرة، التي اندلعت في الريف الغربي لمحافظة "حمص"، قدّرت بشكل أوّلي المساحات المتضررة من الحرائق بحوالي 4741 دونماً زراعيّاً، وعشرين دونماً حراجيّاً، فيما بلغ عدد أشجار الزيتون المحترقة 68.8 ألف شجرة. وفيما لم يُعلن حتى الآن عن الخسائر في "اللاذقية"، فإن المتوقع وفقاً للخرائط الجوية المنشورة، أن تكون أكبر من "حمص"، بسبب المساحات الشاسعة التي احترقت قرب عشرات القرى، حيث ينتشر شجر الزيتون.
خلال سنوات الحرب، تعرضت بساتين الزيتون في سوريا لعمليات تحطيب واسعة وقاسية. ففي "درعا"، تناقص عدد أشجار الزيتون بشكل حاد، من نحو ستة ملايين شجرة عام 2012 إلى ما يقارب النصف بحلول عام 2018. وفي مناطق شمال "حلب"، لا سيما "عفرين" المعروفة بجودة ونوعية زيتها، جرى تجريف مساحات شاسعة من حقول الزيتون لإقامة مواقع سكنية جديدة للاجئين السوريين العائدين من تركيا.
تُظهر هذه الأحداث المأساوية مدى تأثير الحرائق على الزراعات والغابات المحلية، خاصةً شجرة الزيتون التي تُعتبر مزيجاً بين الزراعة والتحريج، وفي الوقت نفسه تعتبر جزءاً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي لعدد من العائلات السورية، وجزءاً من التراث الزراعي، الممتد قروناً طويلة. وتحتاج عمليات الترميم إلى عقود حتى تعود الشجرة إلى إنتاجها. ويؤدي تخريب هذه الزراعات وشبكاتها المتصلة إلى تصاعد المشاكل، في وقت تعاني فيه سوريا من أسوأ أوضاعها في كل شيء. كما أنّ الأثر البيئي لهذه الحرائق، يتجاوز مجرد الخسائر الزراعية، حيث تؤدي إلى تدهور التربة.
خلال الأسبوع الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، عادت النيران لتلتهم عشرات دونمات الزيتون في مواقع مختلفة من "اللاذقية"، على الرغم من هطول المطر. يحتاج البحث في أسباب هذه الحرائق إلى التفكير باحتمالات الغباء البشري في تحريق الأعشاب اليابسة الآن، واحتمالات وجود مافيات كبيرة تخطط للاستفادة من هذه الأزمات، مثل الاستيلاء على الأراضي الزراعية بأثمان بخسة، أو الحصول على الفحم. لقد علمتنا التجربة في سوريا، أنّ لا شيء يحدث هنا من دون أن يكون له معنى في الأيام اللاحقة.
نوعيات متأقلمة مع البيئة ذات إنتاجية عالية
تمتاز شجرة الزيتون (المؤنثة دائماً) بقدرتها على التكيف مع الظروف المناخية الصعبة. يتداول السوريون قولاً مفاده: "شجرة الزيتون أغنى شجرة في أفقر أرض". وهذا واحد من أسباب انتشار الزيتون في عموم سوريا، حيث الأراضي الزراعية في الغالب فقيرة وغير مروية ـ وهذا الأهم ـ ومن النادر سقاية هذه الأشجار، إلا في بعض المناطق تبعاً لقساوة المناخ وتوفّر المياه. تشير بعض الدراسات إلى أن عمر الزيتون في سوريا أكثر من ستة آلاف عام.
خلال سنوات الحرب، تعرضت بساتين الزيتون في سوريا لعمليات تحطيب واسعة وقاسية، أثرت على امتدادها وعراقتها. ففي "درعا"، تناقص عدد أشجار الزيتون بشكل حاد، من نحو ستة ملايين شجرة عام 2012 إلى ما يقارب النصف بحلول عام 2018، نتيجة التحطيب والأعمال العسكرية. وفي مناطق شمال "حلب"، لا سيما "عفرين" المعروفة بجودة ونوعية زيتها، جرى تجريف مساحات شاسعة من حقول الزيتون لإقامة مواقع سكنية جديدة للاجئين السوريين العائدين من تركيا، وكأنه لا يوجد غير هذه الحقول صالحٌ للبناء. ولم تسلم بساتين الزيتون في الساحل السوري أيضاً، حيث شهدت بعض المناطق قطعاً للأشجار مع ارتفاع أسعار الحطب اللازم للتدفئة، واستبدال زراعة الزيتون بمحاصيل أخرى. إلى جانب ذلك، نالت بساتين الزيتون نصيبها من تبعات القصف والحرائق، التي رافقت الصراع السوري، لتترك وراءها إرثاً زراعياً مهدداً وعائلاتٍ فقدت مصدر رزقها.
وعلى الرغم من كل هذه الخسائر، بلغ عدد أشجار الزيتون المثمرة بحسب "وزارة الزراعة السورية" 101.2 مليون شجرة، منها 91 مليون شجرة مثمرة وعشرة ملايين شجرة صغيرة (إحصاءات 2023). أغلب أصناف الزيتون المنتشرة في سوريا ثنائية الغرض، أي لإنتاج الزيت و/ أو لزيتون المائدة، ويتجاوز عددها مئة صنف. ولكن الاستثمار الفعلي للزيتون، يقتصر على عدد محدود من أصناف الزيتون، وهي خمسة: "الزيتي، والصوراني، والقيسي، والدعيبلي، والخضيري". وتشكل تلك الأصناف 90في المئة من مجمل المساحة المزروعة بالزيتون في سوريا، وفقاً لما أورده الدكتور "سمير نصير"، المختص بزراعة الزيتون في "موسوعة الزيتون السوري".
سوريا: هل من ناجٍ أخير؟
22-09-2022
سوريا والتغير المناخي: التطنيش سيّد اﻷحكام!
30-11-2022
أما الإنتاجية فإن سوريا تحتل مركزاً متقدماً بين دول حوض البحر المتوسط، بمعدل 2250 كلغ / الهكتار الواحد متقدمة على تونس والمغرب، وتحتل المرتبة السادسة عالمياً في الإنتاج والمساحات المزروعة (إحصائيات 2011) حيث أسهمت الرعاية المستمرة من قبل المزارعين - لا الحكومات السورية المتعاقبة - في رفع هذا المستوى من الإنتاج، بالرغم من حدوث أمراض عدة، أثرت على الأشجار، وانتشار الفطريات والحشرات (ذبابة الزيتون).
شبكات الزيتون السوري الاجتماعية
يحتل الزيتون قسماً من القاموس اللغوي الشامي (بلاد الشام كلها)، فيحضر في الأمثال الشعبية والمفردات اليومية بكثافة، دلالةً قاطعة على حضوره في الذاكرة والحياة، فيما يمتد أثر حضور الزيتون وقداسته إلى التعاملات اليومية وطقوس الجيرة، وإلى المطبخ الشامي.
يشكّل الزيتون زيتاً ومونةً لدى غالبية الأسر السورية المنتجة لزيت الزيتون، وغطاء أمان حقيقي للغذاء قبل التجارة. يقول المثل السوري: "إذا عندي طحين وزيت صفّقت وغنيّت". تترافق طقوس جني الزيتون مع طقوس اجتماعية عمرها آلاف السنوات، حوّلت عملية جني الزيتون إلى حدث اجتماعي وثقافي، يعتبره كثيرون رمزاً مقدّساً ممتلئاً بالخير والبركة، ومنتظراً سنوياً ومترافقاً مع الدعوات أن يكون الموسم دائماً جيّداً.
على الرغم من كل هذه الخسائر، بلغ عدد أشجار الزيتون المثمرة بحسب "وزارة الزراعة السورية" 101.2 مليون شجرة، منها 91 مليون شجرة مثمرة وعشرة ملايين شجرة صغيرة (إحصاءات 2023). أغلب أصناف الزيتون المنتشرة في سوريا ثنائية الغرض، أي لإنتاج الزيت و/ أو لزيتون المائدة، ويتجاوز عددها مئة صنف.
يُعتبر الزيتون محصولاً زراعياً استراتيجياً في عددٍ من دول العالم، خاصة في منطقة البحر الأبيض المتوسط. وتحتل إسبانيا المركز الأول بحوالي 30 في المئة من إجمالي إنتاج العالم، تليها إيطاليا. وتحتل سوريا المركز السادس عالمياً بإنتاجها، وعدد الأشجار المزروعة فيها (إحصائيات 2011). غير أن الحكومات السورية المتعاقبة، لم تفكر في نقل الزيتون إلى خانة المحاصيل الاستراتيجية، مثل "القمح"، و"القطن"، و"الشوندر".
تبدأ هذه العملية في غالب الأحيان بتجمع العائلات والأصدقاء، حيث يجري جني الزيتون بشكل جماعي، وتصبح هذه اللحظات فرصة للترابط الاجتماعي، بما فيها الزواج، حيث تتساعد العائلات والجيران معاً، ويحضر أفراد العائلات المقيمون في محافظات أخرى، ويبرز مفهوم "اليد الواحدة" في المجتمع الزراعي السوري بوضوح. ولعلّ تبادل الطعام والمساعدة بين الأفراد، يعزز من الشعور بالانتماء إلى مجتمع واحد.
في السنوات السابقة، اعتمدت العائلات في المدن الكبرى (دمشق وحلب وغيرها) على شبكات اقتصادية واجتماعية ممتدة على مساحة سوريا لتأمين "مونتها" من الزيت والزيتون الأخضر، شملت شراء الزيتون والزيت من: "إدلب"، و"اللاذقية"، و"عفرين"، ونقله إلى المدن عبر قوافل تجارية صغيرة. ولكن نتيجة لتدمير بعض الطرقات، والنقل الصعب، والتدخلات السلطوية مختلفة الأشكال، صار صعباً على هذه الشبكات العمل بالطريقة نفسها، ما جعل التبادل أقل يسراً، وهو ما أثر على قوة الشبكات والعلاقات الناشئة عنها، وأفقدها قدرتها على التعويض الاجتماعي من جهة، كما أضعفت هذه الخسارة قدرة العائلات في المدن الكبرى على حصولها على منتجات الزيتون بأسعار معقولة.
إضافة إلى ذلك، فإن الزيتون يعدّ واحداً من جملة محاصيل يمكن تخزينها فترات طويلة، ما يجعله خياراً مثالياً في المناطق التي تعاني من صعوبات اقتصادية، أو تعيش ظروف الحروب. وبالنسبة إلى عدد من الأسر في الريف السوري، يعد الزيتون والزيت من أجود العناصر الأساسية في التغذية، وفي بعض الحالات قد يكون الزيتون هو المصدر الوحيد للدهون في النظام الغذائي اليومي، مُسهماً في استمرارية الحياة اليومية، بسوية مقبولة حتى لدى الفقراء. وهذه الحال للأسف تغيرت في السنوات الأخيرة، مع ارتفاع كبير في أسعار زيت الزيتون، لأسباب كثيرة، أوّلها التضخم الكبير الذي ضرب البلاد.
شبكات الزيتون الاقتصادية
في مناطق شاسعة من سوريا، يمثِّل الزيتون أيضاً ركيزة اقتصادية مهمة على مستوى الأفراد والمجتمعات المحلية. فحتى في أعقاب تدمير عددٍ من الأراضي الزراعية بسبب القذائف والحرائق، ظل الزيتون مصدر رزق لكثيرٍ من الأسر السورية، إذ تعتمد العائلات على محصول الزيتون ليس فقط للغذاء، بل كأداة تجارية تُسهم في تحسين الوضع المالي للأسرة. ويباع الزيت عبر شبكة اقتصادية تشمل: المزارعين، التجار، والعاملين في مجال النقل والتوزيع، وأصحاب الصيدليات الزراعية، والموردين والمصدرين. ثم يُنقل الزيتون ومنتجاته عبر شبكات تجارية محلية، تربط بين المناطق المنتِجة والمستهلِكة. في الماضي، شملت هذه الشبكات المناطق الساحلية: (اللاذقية وطرطوس)، والداخلية: (إدلب، وحلب، ودمشق، وحمص)، والجنوبية: (السويداء ودرعا)، والشرقية: (دير الزور، والرقة، والحسكة)، متفوقةً على مختلف أنواع الخطابات السياسية، التي تتحدث عن الوحدة الوطنية والتضامن والأخوة.
يترافق جني الزيتون مع طقوس اجتماعية عمرها آلاف السنوات، حوّلت العملية إلى حدث اجتماعي وثقافي، يعتبره كثيرون رمزاً مقدّساً ممتلئاً بالخير والبركة، ومنتظَراً سنوياً ومترافِقاً مع الدعوات أن يكون الموسم دائماً جيّداً.
في مناطق شاسعة من سوريا، يُمثِّل الزيتون ركيزة اقتصادية مهمة على مستوى الأفراد والمجتمعات المحلية. فحتى في أعقاب تدمير عددٍ من الأراضي الزراعية بسبب القذائف والحرائق، ظل الزيتون مصدر رزق لكثيرٍ من الأسر السورية، إذ تعتمد العائلات على محصوله ليس فقط للغذاء، بل كأداة تجارية تُسهم في تحسين الوضع المالي للأسرة.
في محافظتي "إدلب"، و"حلب"، وريفهما، حيث تنتشر أشجار الزيتون بشكل كثيف، يشكّل الزيتون سلعة محورية في تسوية الديون، أو حتى في تنظيم حفلات الزواج والمناسبات الاجتماعية. وعلى هذه الشبكات المحلية اعتمد التجار المحليون في الحصول على الزيت والزيتون ومنتجاته الأخرى (مثل "العرجون" وهو بقايا الزيتون المعصور، وهو صالح للتدفئة بدلاً من الحطب، ويمكن تخميره واستخدامه كوسط عضوي للزراعة، إضافة إلى ماء عصر الزيتون (ماء الجفت)، الذي يستخدم كمصدر سمادي، ويوَزّع عبر أسواق المدن الكبرى (دمشق، وحلب)، مشكّلين بذلك شبكات اقتصادية مترابطة.
اليوم لا يصل زيت "إدلب" الشهير إلى العاصمة "دمشق" بسهولة، وتحوز تركيا على ما يفيض عن حاجة "إدلب". بالمثل فإن تكاليف النقل العالية من الساحل إلى المحافظات الأخرى، مع ارتفاع أسعار الزيت عالمياً، أوصلت سعر ليتر زيت الزيتون إلى مئة ألف ليرة (حوالي7 دولار)، في حين أن سعر لتر زيت "عباد شمس"، أو أي نوع آخر رديء، بحدود 25 ألف ليرة سورية (2 دولار تقريباً)، وهو ما دفع كثيراً من المستهلكين لخلط زيت الزيتون مع هذه الزيوت، وانتشار واسع لزيت الزيتون المغشوش في الأسواق.
لماذا لم يصبح الزيتون محصولاً استراتيجياً سوريّاً؟
يُعتبر الزيتون محصولاً زراعياً استراتيجياً في عددٍ من دول العالم، خاصة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، حيث يسهم في دعم اقتصاداتها وغذائها. وتحتل إسبانيا المركز الأول بحوالي 30 في المئة من إجمالي إنتاج العالم، تليها إيطاليا. وتحتل سوريا المركز السادس عالمياً بإنتاجها، وعدد الأشجار المزروعة فيها (إحصائيات 2011). غير أنّ الغريب أن الحكومات السورية المتعاقبة، لم تفكر في نقل الزيتون إلى خانة المحاصيل الاستراتيجية، مثل: "القمح"، و"القطن"، و"الشوندر".
يحقق الزيتون الشروط الأساسية في اختيار محصول ما ليكون استراتيجياً، وهي: وجود الطلب السوقي على الزيوت الصحية والمفيدة حول العالم، وملاءمة شجره للمناخ في المناطق الجافة، وكونه ذا استدامة ودودة للبيئة، وتحقيقه العائد الاقتصادي العالي، والإسهام في الأمن الغذائي، إذ يوفّر قيمة غذائية وطبية عالية، وله استخدامات متنوعة، من الطبخ إلى صناعة الصابون.
القمح غذاء أساسي للسكان، ومن المحاصيل ذات الأولوية على مستوى الأمن الغذائي، ولذا فقد حصل على المركز الأول في استراتيجيات الحكومات الزراعية. وبفضل هذه السياسة، تمكنت سوريا من تفادي استيراد القمح عقوداً طويلة، قبل أن تغيّر الحرب السورية هذا الوضع، وتتجه سوريا إلى الاستيراد للمرة الأولى في تاريخها الحديث.
في عشرينيات القرن الماضي، إبان الاحتلال الفرنسي، حصل القطن على مرتبة استراتيجية لتصديره خاماً إلى المعامل الفرنسية، وفي الخمسينيات تحوّل إلى محصول استراتيجي، بحكم إسهامه في دعم الصناعات النسيجية الناشئة، وتشكيله جزءاً مهماً من صادرات البلاد، التي تتيح الحصول على النقد الأجنبي اللازم، لتأمين المشاريع الصناعية والزراعية الأخرى.
يمكننا تفسير تجاهل الحكومات السورية اعتبار الزيتون محصولاً استراتيجياً بعدة أسباب، اقتصادية أو اجتماعية أو حتى سياسية.
1. اقتصار الاهتمام على المحاصيل التقليدية:
عبر تاريخها الحديث، ركّزت السلطات السورية على القمح والقطن والشوندر، وربطتها ربطاً وثيقاً بالاستراتيجيات الزراعية الوطنية في البلاد. وهذا يعود إلى اعتبارات تاريخية واقتصادية، ونمط من التفكير التقليدي، لم يَرق إلى الابتكار في حقب كثيرة، كانت فيها سوريا تتفوق على كثير من دول العالم في إنتاجها الزراعي، بما فيه الزيتون والشوندر. وهذا النمط نفسه من التفكير، لم يفطن إلى التراجع عن قرارات اتخذها في زمن مضى، وتغيرت ظروفها الراهنة وريعيتها بالنسبة إلى الدولة قبل المزارعين.
ولأن القمح غذاء أساسي للسكان، ومن المحاصيل ذات الأولوية على مستوى الأمن الغذائي، فقد حصل على المركز الأول في استراتيجيات الحكومات الزراعية. وبفضل هذه السياسة تمكنت سوريا من تفادي استيراد القمح عقوداً طويلة، قبل أن تغيّر الحرب السورية هذا الوضع، وتتجه سوريا إلى الاستيراد للمرة الأولى في تاريخها الحديث.
كوارث القمح السوري: المحصول الذي يستهدفه الجميع!
01-06-2019
سوريا تستورد القطن... وكل شيء!
18-10-2021
في عشرينيات القرن الماضي، إبان الاحتلال الفرنسي، حصل القطن على مرتبة استراتيجية لتصديره خاماً إلى المعامل الفرنسية، وفي الخمسينيات تحوّل إلى محصول استراتيجي، بحكم إسهامه في دعم الصناعات النسيجية الناشئة، وتشكيله جزءاً مهماً من صادرات البلاد، التي تتيح الحصول على النقد الأجنبي اللازم، لتأمين المشاريع الصناعية والزراعية الأخرى. بعد التسعينيات تحوّل القطن والصناعات النسيجية تحديداً إلى عبء اقتصادي، نتيجة ضعف المنافسة والجودة أمام الصناعات العالمية، مع ذلك بقي القطن على رأس أولويات الحكومة الزراعية، عبر دعم مزارعيه بالبذور والمبيدات والقروض وغيرها، خلافاً لدعم مزارعي الزيتون.
2. تميز الزيتون بالاستدامة وليس العائد السريع:
تحتاج شجرة الزيتون إلى وقت طويل، كي تبدأ في الإنتاج بشكل كبير (من أربع إلى ست سنوات)، بينما يمكن حصاد المحاصيل الأخرى مثل القمح أو القطن سنوياً وتدر عوائد أسرع. هذا البعد الزمني في إنتاج الزيتون، قد يكون سبباً في عدم إدراجه كأولوية استراتيجية في سياسات التنمية الزراعية، حيث تميل الحكومات إلى التركيز على المحاصيل التي تضمن عوائد سريعة ومتجددة. وبالضرورة بالتكامل مع بقية العوامل، التي تجعل محصولاً زراعياً ما يحمل صفة الاستراتيجي.
3. قلة الترويج للاستهلاك المحلي والتصدير:
على الرغم من أن زيت الزيتون السوري يتمتع بسمعة طيبة على مستوى الجودة في الأسواق العالمية، إلا أنه لم تكن هناك استراتيجية لتسويقه وتوزيعه في الأسواق العالمية، حيث اقتصرت الجهود على تصدير زيت الزيتون بشكل غير منتظم وبكميات محدودة، فضلاً عن أن عدداً من الأسر المنتجة، كانت تستهلك معظم الإنتاج محلياً.
هذا العام، وبعد انطلاق عمليات عصر الزيتون في سوريا مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، أخرجت "هيئة المواصفات العالمية والمجلس الدولي لزيت الزيتون" الزيت السوري من التصنيف الدولي، بسبب عدم مطابقته للمعايير، ومنحت الحكومة مهلة حتى عام 2026 لتحسين جودته، وفق تصريحات أدلى بها الدكتور "محمد الشهابي"، رئيس "قسم تكنولوجيا الأغذية في البحوث العلمية الزراعية"، خلال مؤتمر "الأمن الغذائي والتنمية المستدامة" في "جامعة دمشق" مطلع الشهر الحالي. والأسباب برأي "الشهابي" تركزت في طرق جمع الثمار، وعدم عصرها مباشرةً، ونوعية العبوات (البلاستيكية في غالبها)، التي تؤثر على مستوى الحموضة والبروكسيد في الزيت. ترافق تصريح "الشهابي" مع تصريحات حكومية، باحتمال تصدير عشرة آلاف طن من الزيت الفائض عن حاجة السوق المحلية.
تصريح "الشهابي" لم يلقَ قبولاً من المنتجين والمزارعين، حيث اعتبروا أن التحديات التي تواجه صناعة زيت الزيتون في سوريا تتجاوز مسألة الجودة، مشيرين إلى نقص الدعم الحكومي في مجالات المراقبة والبحث، إضافة إلى قلة الموارد المالية والتقنية اللازمة لتحسين عمليات الإنتاج والعصر. كما أبدى بعض المزارعين قلقهم، بشأن التكاليف المرتفعة لإعادة تأهيل بساتين الزيتون المتضررة من الظروف المناخية الصعبة والنزاعات المستمرة، بما فيها الحرائق الأخيرة، مما أثر سلباً على إنتاجية المحاصيل. واعتبروا أن تحسين جودة الزيتون يتطلب استثمارات أكبر في البنية التحتية والمعدات الحديثة، بالإضافة إلى تدريب المزارعين على أساليب الزراعة المستدامة. وفي وقت لاحق تراجع "الشهابي" عن تصريحاته.
4. الهشاشة الاقتصادية للقطاع الزراعي:
يواجه القطاع الزراعي في سوريا تحديات كبيرة، تتعلق بالموارد الطبيعية المحدودة، مثل قلة المياه والجفاف، والتغيرات المناخية، والإجهادات البيئية الناتجة عنها، إضافة إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج، بالإضافة إلى نقص الدعم الحكومي للبنية التحتية الزراعية، مثل شبكات الري والنقل. ومؤخراً تخلّت الحكومة عن دعم هذا القطاع بالوقود والبذور والتسويق. يتطلب الزيتون، على الرغم من قدرته على التكيف مع الظروف المناخية الصعبة، إدارة دقيقة واهتماماً خاصاً لضمان استدامته، وهذا يعني استثمارات إضافية لم تفكر الحكومة في توفيرها، في ظل الأزمات الاقتصادية المستمرة، على الرغم من أنها يمكن أن تشكّل بديلاً حقيقياً للخسائر في قطاعات زراعية أخرى.
5. تأثير الحروب والصراعات:
أثّرت الحروب والصراعات التي شهدتها سوريا في العقد الأخير تأثيراً كبيراً على قطاع الزيتون، حيث تعرضت مساحات من أراضي الزيتون للدمار والحرائق والتجريف، إضافة إلى تلوث التربة ببقايا القذائف، وتعرضت شبكات التوزيع والخدمات اللوجستية للشلل.
6. غياب خطة استراتيجية شاملة لقطاع الزيتون:
في حين أن الزيتون يشكل مصدر دخل رئيسي لعدد كبير من الأسر السورية في المناطق الزراعية، إلا أن غياب خطة استراتيجية وطنية لتطوير قطاع الزيتون وتوسيع شبكة الإنتاج والتسويق كان سبباً آخر في عدم إعطائه المكانة التي يستحقها. ولم تتبنَ الحكومات المتعاقبة مشاريع تنموية طويلة الأمد لدعم هذا القطاع، رغم امتلاكه إمكانيات كبيرة، من حيث الأراضي الصالحة للزراعة وجودة الزيت.
7. تحديات في التحسينات التقنية والإنتاجية:
على الرغم من أن سوريا تعد من أكبر الدول المنتجة للزيتون في العالم، إلا أن تقنيات زراعة الزيتون في البلاد قديمة وغير محدثة بشكل كافٍ. كما أن المشاكل المتعلقة بالتسميد، والمكافحة البيولوجية والكيميائية للآفات، وتحسين الأصناف، إضافة إلى عمليات الخدمة الأخرى، لا تزال تمثّل تحديات. على الرغم من تطور تقنيات زراعة الزيتون في دول مثل إسبانيا وإيطاليا، فإن الزراعة السورية تفتقر إلى هذه التطورات التي قد تساعد في زيادة الإنتاجية، وتوفير نوعية أفضل من الزيت، التي يمكن أن تسهم بشكل أكبر في الاقتصاد الوطني.
8. النفط والمصادر البديلة:
من الممكن أن تكون المصادر الأخرى للطاقة والمصادر الغذائية قد جلبت اهتمام الحكومات بشكل أكبر من الزيتون. فعلى الرغم من أن الزيتون يعتبر محصولاً رئيسياً، فإن النفط والمصادر البديلة للطاقة تُعتبر في كثيرٍ من الأحيان أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية، كونها من محركات الاقتصاد العالمي.
***
كل العناصر السابقة توضِّح قصور التفكير لدى الحكومات السورية المتعاقبة في اعتماد الزيتون كمحصول استراتيجي يستحق الدعم، وعلى الرغم من أن بعضاً من هذه العناصر ليس سهلاً حله بشكل مفرد (العملية كلٌّ متكامل)، لكن ذلك لا يبرر بشكل نهائي، عدم طرح الموضوع على البحث في الهيئات السيادية والوزارية.
الزيتون يا أبي
03-11-2024
من الصحيح أن البلاد لم تتعافَ بعد من كوارثها المتعاقبة، ولا يزال بعضها ماثلاً في الواقع بقوة، ولكن الخروج من عباءة التفكير التقليدي، والدفع نحو مقاربات جديدة للثروات السورية يمثل تحدياً يخص الجميع. هذا التحول سيسهم في تعزيز قيمة الزيتون كمصدر اقتصادي مستدام، ويعزز من دوره في التنمية الزراعية والاقتصادية.