تتقلب مدن وقرى "ولاية الجزيرة" وسط السودان – سلّة غذاء البلاد - في موجات متصلة من الفظائع، التي ترتكبها "قوات الدعم السريع" بحق المدنيين، ابتداء من القتل وإلقاء الجثث في قنوات الري، وذبح الأطفال، وليس انتهاء بإذلال كبار السن على أيدي صبية فاضت نفوسهم غلاً وتشفياً.
"ولاية الجزيرة"، ومنذ دخول "الدعم السريع" إليها في كانون الأول/ ديسمبر 2023، بعد انسحاب مخزٍ للجيش، واجهت بطشاً غير مسبوق، وكانت الموجات الأولى قد استهدفت قرى جنوب وغرب "الجزيرة"، فيما كانت مناطق شرق "الجزيرة" آمنة نسبياً، بحكم أنها ضمن الحواضن الاجتماعية لقائد "قوات الدعم السريع" في الجزيرة، "أبو عاقلة كيكل".
لكن ما أن انشق "كيكل" عن "قوات الدعم السريع" وانضم إلى الجيش، في 20 تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، دَفعت هذه المناطق ثمناً مرعباً، حيث شنت "قوات الدعم السريع" حملات انتقامية مباغتة ضد الجميع، فقتلت بالرصاص من قتلت، وذبحت من ذبحت، وأفرغت غالبية المناطق من سكانها بعد ما نهبت ما يملكون من سيارات، وذهب، وأموال، وكل ذلك تحت مزاعم الاشتباه في التعاون مع "كيكل".
الحرب تُلقي "سلة غذاء العالم" في براثن الجوع
05-06-2024
والحقيقة أن هذه المناطق نجت من الموجات الأولى من الانتهاكات، لأن "قوات الدعم السريع" كانت تضع اعتباراً لقائدها فقط لا غير. وبعدها امتدت الهجمات إلى قرى شمال "الجزيرة" تحت ذرائع أن سكان هذه القرى يمتلكون أسلحة. وفي قرية واحدة قتلت "قوات الدعم السريع" أكثر من 140 مواطناً بحسب تقارير صحافية، وفوق ذلك فرضت جبايات باهظة على إخلاء الجرحى، بعدما نهبت كل ما يملكون، ومنعت بعضهم من دفن موتاهم.
أسئلة ليست للإجابة!
أيقظت هذه الفظائع المستمرة سؤالاً قديماً متجدداً، عن حماية المدنيين. منذ تفجر هذه الحرب في نيسان/ أبريل 2023، يتحمل المدنيون كل فظاعاتها، ولأنها لا تشبه أية حرب، فقد صار المشهد يمضي بتناغم: ينسحب الجيش من منطقة ما وتدخل "قوات الدعم السريع" من دون قتال، ثم تطلق يدها الباطشة ضد المواطنين، أو يسترد الجيش منطقة ما لساعات ويحتفل مع المواطنين، ثم يغادر، لتأتي بعده "قوات الدعم السريع" وتفتك بالمواطنين انتقاماً، وكأن ما يجري عقاباً متفق عليه.
هذا الواقع، الذي تشكل من عجز الجيش عن حماية الناس مقابل توحش "قوات الدعم السريع"، دفع بعدد من سكان القرى إلى الدفاع عن أنفسهم في مواجهة عصابات النهب المسلح. وعلى الرغم من أن الذين اختاروا الدفاع عن أنفسهم لزموا منازلهم ولم ينخرطوا في أية معسكرات إلى جانب الجيش، إلا أنهم لم يَسْلموا، كما لم يَسلم العزل الذين لم يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم بالسلاح... الكل متساو في "ولاية الجزيرة"!
في ظل استمرار هذا النزيف، يضيع حق حماية المدنيين، يضيع تماماً في أتون الخصومة السياسية العمياء التي بلغت مراحل من الوضاعة والتجرد من الأخلاق، يتفوق على فظاعات الحرب، إذ يسعى بعض السياسيين حلفاء "قوات الدعم السريع" إلى شرعنة هجمات هذه القوات على هذه القرى الآمنة، محاولين بكل لؤم إلباس صفة المقاتلين لمواطنين قرروا الدفاع عن أنفسهم، ملتزمين بحدود منازلهم، حينما تركهم الجيش نهشاً لصنيعه، "قوات الدعم السريع".
أما المصطفّون في معسكر الجيش، فقد صاروا يحرِّمون مجرد السؤال عن دور الجيش في حماية الناس، أو حتى محاولة إنقاذهم، ويعتبرونه سؤالاً موغلاً في الخيانة الوطنية، ويخدم أجندة الطرف الآخر، بل بلغ العته ببعضهم إلى إسقاط هذا الدور عن الجيش تماماً. وبين هذا وذاك تستمر مذابح المدنيين، طالما أن الحواضن السياسية للطرفين تقوم بدور الشيطان: تزّين لـ"قوات الدعم السريع" أفعاله، وتهوّن على الجيش تملصه من المسؤولية الأخلاقية والدستورية.
تشكل الواقع المأساوي للناس من عجز الجيش عن حمايتهم مقابل توحش "قوات الدعم السريع". وهو ما دفع بعدد من سكان القرى إلى الدفاع عن أنفسهم في مواجهة عصابات النهب المسلح. وعلى الرغم من أن الذين اختاروا الدفاع عن أنفسهم لزموا منازلهم، ولم ينخرطوا في أية معسكرات إلى جانب الجيش، إلا أنهم لم يَسْلموا، كما لم يَسلم العزّل الذين لم يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم بالسلاح... الكل متساو في "ولاية الجزيرة"!
ويسري هذا الجنون حتى على ضحايا القصف العشوائي للمدافع والطيران، فكل ضحايا الطيران المدنيين في مناطق سيطرة "قوات الدعم السريع" هم أعداء ولا يستحقون التعاطف، وكذا هي حال الضحايا في مناطق الجيش. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الطرفين ومناصريهم صاروا يصنفون السكان الذين فضّلوا البقاء في مناطقهم تحت سيطرة "قوات الدعم السريع"، أو أولئك الذين ظلوا في مناطق الجيش ثم قرروا العودة إلى منازلهم الواقعة تحت سيطرة "قوات الدعم السريع"، أو العكس، هؤلاء جميعاً تلاحقهم شبهات التعاون مع "العدو"، وفعلياً صدرت عدة أحكام قضائية في مناطق الجيش ضد من يُطلق عليهم "متعاونون".
صحيح إن حرب الخامس عشر من نيسان/ أبريل أكدت اختلال المنظومات العسكرية، لكنها أيضاً أظهرت قبحاً سياسياً لا مثيل له، إذ يجتهد الجميع في تحويل كل هذه الفظاعات التي يواجهها المواطنون إلى أرصدة سياسية للفتك بالخصوم، وللثأر للحجج والبراهين فوق ما تبقى من أشلاء الناس.
من يحمي المواطنين إذاً؟
مع الدعوات المتصاعدة من المنظمات والحقوقيين إلى تدخل أممي، من أجل توفير الحماية للمدنيين، في ظل تمدد رقعة الجرائم والاعتداءات، وعجز الجيش عن التقدم عسكرياً، أعلن "انطونيو غوتيرش"، الأمين العام للأمم المتحدة، عن أن الوقت غير مناسب لنجاح نشر قوات محايدة لحماية المدنيين في السودان. صحيح أن "غوتيرش" أكد سوء الوضع الذي يواجهه السودانيون، لكن حديثه يؤكد كذلك أن الحرب في السودان لم تعُد شأناً مهماً بالنسبة إلى المجتمع الدولي، خاصة بعد الفشل المستمر لمنابر التفاوض، علاوة على تمدد رقعة الحرب الإسرائيلية إلى جنوب لبنان.
وبعيداً عن واجبات المجتمع الدولي المتملص هو الآخر من مسؤولياته تجاه الشعوب، فقد فرّخت الحرب المستمرة في السودان لأكثر من عام ونصف، عدداً لا يستهان به من المجموعات المسلحة المساندة للجيش، لتضاف إلى قائمة طويلة، من الجيوش التابعة للحركات السياسية.
وعلى الرغم من أن جميع هذه التشكيلات الجديدة أو القديمة تساند الجيش في حربه مع "قوات الدعم السريع" التي اصطرعت معه على السلطة وتمردت عليه، إلا أنها لم تتمكن جميعها من تحقيق مكاسب عسكرية كبيرة على الأرض لتوفير الأمن للمدنيين. وما أن تفشل أية محاولة للهجوم على هدف عسكري سرعان ما تتبادل هذه التشكيلات الاتهامات مع الجيش وفيما بينها.
صحيح إن حرب الخامس عشر من نيسان/ أبريل 2023 أكدت اختلال المنظومات العسكرية، لكنها أيضاً أظهرت قبحاً سياسياً لا مثيل له، إذ يجتهد الجميع في تحويل كل هذه الفظاعات التي يواجهها المواطنون إلى أرصدة سياسية للفتك بالخصوم، وللثأر للحجج والبراهين فوق ما تبقى من أشلاء الناس.
استمرار "قوات الدعم السريع" في هجماتها الوحشية، وعجز الجيش عن التقدم الكبير عسكرياً، وفشل مساعي التفاوض، يضع الملايين في مواجهة مصائر مجهولة. ولم يعد ترف النزوح متوافراً للغالبية العظمى من السودانيين، الذين فقدوا مصادر دخلهم، وتوقفت رواتبهم، ونُهِبت مدخراتهم، كما أن المدن الآمنة صارت لا تطاق، بسبب ارتفاع أسعار إيجار العقارات، وأثمان السلع الغذائية، وصعوبة الحصول على خدمة طبية، ناهيك عن التعليم.
وكل هذه التشكيلات بالكاد تحافظ على ما تبقى من مناطق بجانب الجيش، وبشكل رئيسي يحافظ الجيش وحركات "دارفور" الرئيسية على مدينة "الفاشر" شمال "دارفور"، آخر مدن الإقليم الذي سيطرت عليه "قوات الدعم السريع" تباعاً. ومنذ بدء الجيش أول عملية هجوم برية في أيلول/ سبتمبر الماضي، أحرز تقدماً نوعياً في إعادة السيطرة على "جبل موية" الاستراتيجي في ولاية "سنار" جنوب شرق السودان، بجانب التقدم المحرَز في مدينتي "الخرطوم" و"بحري" في العاصمة المثلثة، إلا أن زخم هذا العملية الهجومية سرعان ما تلاشى، وبقي الوضع على ما هو عليه.
إن استمرار "قوات الدعم السريع" في هجماتها الوحشية، وعجز الجيش عن التقدم الكبير عسكرياً، وفشل مساعي التفاوض، يضع الملايين في مواجهة مصائر مجهولة. فلم يعد ترف النزوح متوافراً للغالبية العظمى من السودانيين، الذين فقدوا مصادر دخلهم وتوقفت رواتبهم ونُهِبت مدخراتهم، كما أن المدن الآمنة صارت لا تطاق، بسبب ارتفاع أسعار إيجار العقارات، وارتفاع أثمان السلع الغذائية، وصعوبة الحصول على خدمة طبية، ناهيك عن التعليم.
الأزمة الإنسانية التي تواجه السودانيين منذ أكثر من عام ونصف فاقت الخيال، وليس أمام المجتمع الدولي إلاّ تحمل مسؤوليته والقيام بدوره المفترض، أو أن كل هذه المجازر والمذابح غير كافية؟