الزيتون يا أبي

يتعلّق قلب أبي بأرضه، وهذا ما جعلني الآن أُدرك كيفَ تعلقَ أجدادنا بأرضهم، ويجعلني أُدركُ كيف يتعلق أولئك الذين نزحوا أو هاجروا ببلادهم، ثم يقررون بعد عشرات السنين العودةَ إليها. إنهُ يُحبها بشكلٍ لا يُحتمل ولا يُصدّق. يُحب موسم الزيتون، وقد انتهى موسم، ولم يجني من تعبه وأيام زيارته واعتنائه الطويلة بها، شيئاً. وأدركَ أنها لن تعودَ لوقتٍ طويل.
2024-11-03

شارك
الجرافة تقتلع شجرة الزيتون من جذورها

يملكُ والدي حقلاً كبيراً يضُم في أغلبه مئات أشجار الزيتون. يقعُ هذا الحقل المُمتد إلى من ستة دونمات، في قرية ريفيّة، نائية وصغيرة، تُسمى "جُحْر الديك"، تقع إلى الوسط الشرقي من قطاع غزّة، تحديداً على حدود محافظة غزّة، هُناك حيثُ فُصلَ القِطاع إلى زمنيْن، بواسطة موقع عسكري كبير يُسمى "نيتساريم". في تلك المنطقة، ينفصلُ القطاع، بين شماله وجنوبه.

هذا الحقل لم يعُد موجوداً. على الأغلب. نعم. وهذا ما ضربَ الحسرةَ في قلبِ أبي منذُ بداية الحرب. بعد تقاعدهِ من عمله الجامعي في 2020، حطّ اهتمامهُ في زراعة أرضه والاهتمام بها، يزورها كُلّ يومٍ منذُ الفجر، قاطعاً مسافة أكثر من أربعة عشر كيلو متراً المُمتدة من قلب المدينة إلى حدودها الشرقيّة، يُلبي كلّ احتياجات أرضه، من عُمالٍ ومُزارعين، أو احتياجات المياه والكهرباء وغيرها، ساعياً إلى هدف واحد: الانشغال بهوايته وشغفه بالأراضي والزرع.

منذُ امتلاكه الأرض، اهتمَ كثيراً بالزيتون، الذي تطوّرَ فيما بعد إلى فرصة للرزق وكسبِ العيش ما بعد التقاعُد. صارَ محصولُ الأرض من الزيتون كبيراً جداً مع توسّعها في السنوات اللاحقة، ليهتمَ بموسم الزيتون الذي يبدأُ في فلسطين عادةً في شهريْ تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر. يتحوّلُ الموسم السنوي إلى احتفالٍ بالنسبة إلى الفلسطينيين، خاصةً الفلاحين، وإلى موسمٍ ايضاً بالنسبة إلى كلّ الناس الذين يرون فيه فرصةً لشراء الزيت الجديد، وفي هذا يقولون: "زيت السنة"، للدلالة على جودة الزيت الذي يشترونه.

أتصلُ به أسأله عمّا يأكل أو أكل وسطَ المجاعة المستفحلة منذُ أشهر، فيقول ببساطة، خُبزة صغيرة من الزعتر، وبعض الزيت. هكذا يبقى الزيت رفيقاً للفلسطيني، رفيقاً لكبارنا، مهما مرّ الوقت، ومهما تجبّر الزمن علينا! يقول أيضاً "لو خبزة فيها زيت وملح بتكفيني".

فور بدء الموسم، يزور الحاج الأرض يومياً، ويكونُ يومَ الجمعة يوماً احتفالياً عادةً، إذ يحضر إلى الأرض أغلبَ أفراد العائلة من نساءٍ ورجالٍ وأطفال، مع العُمال والأقارب الذين تمتدُ أياديهم جميعاً إلى المُساعدة في قطف الزيتون، وصولاً إلى مرحلة جمعه وتصفيته، بين الزيتون الذي يُعد لـ"الكبس"، والزيتون الذي يُعد لـ"العصر". الأول يغدو صنفاً يومياً مع وجبات الإفطار والغداء، والثاني يتحوّل إلى أساسٍ لبيوت الفلسطينيين، فهو "السر" في كُل ما يأكلون.

فيما بعد، ذهب أبي إلى ما هو أكبر من ذلك، إذ قرّرَ الدخول في "ضمان الأراضي"، أيّ أن يستأجر أرضاً تُدرُّ محصولاً معيناً، لسنة أو سنتين أو مُدة يتفقُ عليها، وليتكفلَ بكُل ما تلزم، وصولاً إلى حصادها والاهتمام بإنتاجها وبيعه. وقد كان قبلَ بدء الحرب ينتظرُ نهاية السنة الأولى من "حصاد الضمان"، لأرضٍ كبيرة جداً، كان يتوقّع أن تُدخل عليه ربحاً جيداً من بيع الزيت.

كُلّ ذلكَ انتهى. في غمضةِ عين. على الأغلب، جاءت الجرافات العسكرية الإسرائيلية ومسحت من الوجود عشرات الدونمات من حقول الزيتون في المنطقة.

"جُحْر الديك" الآن صارت أراضيٍ خالية، فهي تقع على الحدود الشرقية لقطاع غزّة، بين القطاع وباقي الأراضي المُحتلة عام 1948. هذه المنطقة تحوّلت في السنوات الأخيرة، ما بعد 2012، إلى منطقة "آمنة" نوعاً ما، يستطيع الناس الوصول إليها، مع بعض الخطر في أحيانٍ عدّة، من إطلاق النار من الدبابات المُتمركزة في الجانب الآخر من الحدود، أو لرغبة الجنود في إزعاج المُزارعين وإقلاق يومهم وتخويفهم.

هي الآن تتواجد في منطقة خطيرة، لسببيْن: الأول أنها منطقة حدودية، وهي تصير كذلك في كُل عدوان أو حرب، والثانية أنها في منطقة تحوّلت إلى مواقع عسكرية لا يُرى فيها إلا الجنود والدبابات وغارات الطيران. وبالتالي مصير من يُحاول حتى أن يصل إليها، الموت والموت فقط.

مقالات ذات صلة

بدأت الحرب مع بدء موسم الزيتون في 2023، صباح السبت، السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كان يستعد أبي للذهاب إليها والتجهيز لقطف الزيتون، إلّا أنهُ عادَ سريعاً بعد ساعةٍ من مغادرته، على وقع الصواريخ والقصف، والأحداث الكثيرة التي نظرَ إليها العالم ذلكَ الصباح. توقّع ببساطة أن يكون ذلك سريعاً، ينتهي بعد عدّة أيام، ليعودَ فيكمل قِطاف الزيتون.

الآن بدأَ الموسم الثاني من الزيتون. انتهى الموسم الأول، غالباً احترقَ الشجر وتم تجريفُه، أو مات مع هذا العام بلا عناية. 

يتواجد أبي الآن في شمال قطاع غزّة، رفضَ كثيرا فكرة الخروج منه، يعيشُ المجاعةَ هُناك مع باقي أفراد العائلة، فلم يخرُج من هُناك نازحاً إلاّ أنا وأُسرتي الصغيرة، وأُسر أخواتي. ضعُفَ قلبُه في إحدى أيام المجاعة والحصار قبلَ أشهر، وهو الذي خضعَ لجراحة القلب المفتوح قبلَ أربعة أعوام، كسرَ تعبَ المرض حينها وجلوسه الطويل بالذهاب إلى الأرض، قائلاً إنها الوحيدة التي تُساعده على التعافي.

"جُحْر الديك" الآن صارت أراضيٍ خالية، فهي تقع على الحدود الشرقية لقطاع غزّة، بين القطاع وباقي الأراضي المُحتلة عام 1948. هذه المنطقة تحوّلت في السنوات الأخيرة، ما بعد 2012، إلى منطقة "آمنة" نوعاً ما، يستطيع الناس الوصول إليها، مع بعض الخطر في أحيانٍ عدّة، من إطلاق النار من الدبابات المُتمركزة في الجانب الآخر من الحدود، أو لرغبة الجنود في إزعاج المُزارعين وإقلاق يومهم وتخويفهم.

خسرَ أبي الآن موسميْن من الزيتون، والقلق الأكبر أن تلك المساحة ستضيع تحت مُسمى "المنطقة العازلة" التي تسعى إسرائيل إلى السيطرة عليها في مناطق شرقي قطاع غزّة، وهو الهاجس الأكبر المُخيف لنا جميعاً. كُل ذلك الخير، سيسرقونه، كما سرقوا أعمارنا وأعمار أطفالنا.

نعم، ضعُفَ قلبه، نتيجة الجوع والحصار والألم. وأنا أتوقع أن الأخير هو الوحيد الذي أضعفه، فألمهُ كان كبيراً لسببيْن: الأوّل أن إسرائيل أحرقت مشروع حياته، "مطبعة ومكتبة دار المقداد" التي أسسها في تسعينيات القرن الماضي، ودمّرتها بالكامل، وأحرقت معها عشرات "تنكات" زيت الزيتون، التي كانت مُخزّنة للبيع، فخسرَ فيها كثيرا وخسر لاحقاً كُل المال الذي ظل يجنيه لسنوات، كي يضمن لهُ حياةً كريمة، فهو الآن بدون أي فرصة لكسب الرزق. تألم حسرةً على الزيت، وعلى ما بناهُ في حياته، وعلى ماله. والسبب الثاني، أنّه أدرك أن أرضهُ ذهبتْ.

يتعلّق قلب أبي بأرضه، وهذا ما جعلني الآن أُدرك كيفَ تعلقَ أجدادنا بأرضهم، ويجعلني أُدركُ كيف يتعلق أولئك الذين نزحوا أو هاجروا ببلادهم، ثم يقررون بعد عشرات السنين العودةَ إليها. إنهُ يُحبها بشكلٍ لا يُحتمل ولا يُصدّق. يُحب موسم الزيتون، وقد انتهى موسم، ولم يجني من تعبه وأيام زيارته واعتنائه الطويلة بها، شيئاً. وأدركَ أنها لن تعودَ لوقتٍ طويل.

خسرَ أبي الآن موسميْن من الزيتون، والقلق الأكبر أن تلك المساحة ستضيع تحت مُسمى "المنطقة العازلة" التي تسعى إسرائيل إلى السيطرة عليها في مناطق شرقي قطاع غزّة، وهو الهاجس الأكبر المُخيف لنا جميعاً. كُل ذلك الخير، سيسرقونه، كما سرقوا أعمارنا وأعمار أطفالنا.

هذا ما يؤلمه، هذا ما يؤلم قلبه. لكنني دائماً أتأكد أنه أقوى من كُلّ ذلك، فهو الذي أتصلُ به ليُطمئنني، ويُذكّرني ببعض الآيات والكلمات عن الثقة بالله. ثقته أن هذه الحرب ستنتهي، وأننا سننجو، وسنعود، من الأشياء البسيطة القليلة التي تجعلني متمسكاً بفكرة الأمل.

أتصلُ به أسأله عمّا يأكل أو أكل وسطَ المجاعة المستفحلة منذُ أشهر، فيقول ببساطة، خُبزة صغيرة من الزعتر، وبعض الزيت. هكذا يبقى الزيت رفيقاً للفلسطيني، رفيقاً لكبارنا، مهما مرّ الوقت، ومهما تجبّر الزمن علينا! يقول أيضاً "لو خبزة فيها زيت وملح بتكفيني".

مقالات من فلسطين

إعادة مؤسسات الاحتلال إلى قطاع غزة؟ ما هي "وحدة الجهود الإنسانية- المدنية" المستحدثة؟

2024-10-10

تستعرض هذه المقالة هذا المنصب المستحدث، الذي يضع سكان غزة، وحاجاتهم الإنسانية من طعام، وعلاج، ورعاية، وإعادة إعمار، والعلاقة بين قطاع غزة والمجتمع الدولي، تحت إدارة الجيش الإسرائيلي، وهو ما...