"ما يحدث في السودان شأن داخلي، ولا ينبغي التدخل فيه حتى لا يحدث تأجيج. الدور الذي يمكن أن نلعبه هو إحداث هدوء في الموقف واستعادة أمن السودان والاستقرار بين الفرقاء" .. هذا ما قاله الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي"، في 18 نيسان/ أبريل 2023، وبعد 3 أيام فقط من بدء القتال الداخلي بين "الجيش السوداني"، و"قوات الدعم السريع". ولكن بعد مرور 17 شهراً على اندلاع المواجهات المسلحة، كيف يمكن تقييم الدور المصري؟ وهل كان على الحياد المطلق؟ أم أن السودان ليس إلا ساحة مستباحة للقاهرة، لتصفية حساباتها مع إثيوبيا، أو مع أطراف سودانية ليست على وفاق معها؟
مصر هي الخاسر الأكبر من استمرار الحرب في جارتها الجنوبية، فهي الأكثر تأثراً بها. ولكن يبدو أن القاهرة عاجزة عن حلحلة الأزمة، وربما يدفع هذا إلى التساؤل عن أسباب غياب قوة التأثير المصري في السودان، بالرغم ممّا تذكره كتب التاريخ من أنّ مصر والسودان كانتا دولة واحدة حتى منتصف القرن العشرين. نرصد هنا الدور المصري في المشهد السوداني، وواقعه الحالي مع اعتبار تطوره التاريخي.
هل بالفعل القاهرة متضررة من الحرب؟
تعد المصالح الخاصة هي دافع أي بلد في تحركاته، وهنا، فالسؤال الطبيعي هو ما مدى تضرّر القاهرة من الحرب الجارية في السودان؟ يقول الدكتور "عمرو هاشم ربيعة"، نائب رئيس "مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية والسياسية" وعضو "مجلس أمناء الحوار الوطني في مصر"، إن القاهرة بالفعل أكثر البلدان تأثراً بالأزمة السودانية، ومصالحها مع السودان متداخلة بشكل كبير، وتعد أحد الجروح المفتوحة على حدودها.
وبحسب ما ذكره "ربيعة"، في مقاله المنشور في تموز/ يوليو الماضي، فإنه على سبيل المثال، يمثِّل الصراع في السودان فرصة لإثيوبيا – حيث مشروع "سد النهضة" يجسد خطراً على الأمن المائي في مصر والسودان. وها هي الحرب تشغل كلاً من مصر والسودان عن خطوات إثيوبيا، لاستكمال بناء السد وملء خزاناته. كما تأثرت مصر بأزمة اللاجئين، حيث وصلت أعداد اللاجئين فيها إلى 9 ملايين، أكثر من نصفهم من السودانيين. وهم يشكلون عبئاً ضخماً على كاهل الموازنة العامة المصرية. ويتابع: "ثم هناك مشكلة "الإرهاب" التي تزداد استفحالاً مع تفاقم المشكلات الداخلية في الدول المجاورة. فقد واجهته مصر عند حدودها الغربية بين عامي 2015-2020، ثم عند حدودها الجنوبية بعد سقوط نظام "البشير" في نيسان/ أبريل 2019، وهو ما يؤثر على استقرارها الداخلي". يضاف إلى ذلك البعد الإقليمي، وخاصة مع الحرب على غزة، مما أثّر على اشتغال "قناة السويس".
موروث تاريخي
لكن تدخل القاهرة لوقف هذا التأثير على أمنها القومي مرهون بموروثها السياسي وتأثيره على الساحة السودانية. ولفهم مدى وحدود الدور المصري في السودان، تبرز أهمية استعراض طبيعة العلاقة التاريخية بين البلدين، ضمن مرحلتين رئيسيتين: الأولى، حين كانتا دولةً واحدة (1820-1956)، والأخرى، بعد انفصال السودان، ثم استقلاله.
فطالما جمع البلدين تاريخ مشترك، وعلاقات سياسية واقتصادية أساسها الالتصاق الجغرافي على ضفاف "وادي النيل"، ما أوجد قدراً كبيراً من الامتزاج الثقافي والاجتماعي بين الشعبين. ومن هذا المنظور، تُعِدّ مصر السودان جزءاً لا يتجزأ منها، ومن أمنها القومي الشامل، فكانت دوماً المؤثِرة والمتأثرة الأولى بما يحدث في الأراضي السودانية، خاصة في المراحل التاريخية المفصلية، ومنها فترة الاحتلال البريطاني ومساعيه إلى إنهاء الترابط مع مصر، وهو ما واجهه الشعبان معاً بتحركات مناهضة، تحت شعار "وحدة وادي النيل" (1919-1936).
وحين كان السودان يطالب بتقرير مصيره (1938-1952)، كانت مصر حاضرة بقوّة، في اللجان التي تشكّلت لرسم ملامح الحكم، حتى الاستقلال في العام 1956، الذي لم يؤثر في العلاقات المتينة، فقدّم السودان الدعم العسكري لمصر بعد هزيمة 1967، واستضافت الخرطوم قمة "اللاءات الثلاث". وفي حرب 1973، قاتل الجيش السوداني إلى جانب الجيش المصري، وهو ما يؤكد أهمية السودان لمصر، والعمق الجنوبي المباشر لأمنها القومي.
حلايب: ترمومتر العلاقات السودانية المصرية
18-09-2017
ولكن علاقات البلدين شهدت تراجعاً ملحوظاً، منذ تولي حكومة "الإنقاذ" الإسلامية السلطة في السودان، في العام 1989، بقيادة "البشير"، الذي ألغى اتفاقيات التكامل مع مصر، وسعى إلى تدويل ملف "حلايب"، المنطقة الحدودية المتنازَع عليها بين مصر والسودان. وقررت الخرطوم خوض معاركها الداخلية من دون استشارة القاهرة، وهو ما يتجلى في حق تقرير المصير لجنوب السودان الناتج عن "مقررات أسمرا"، في "مؤتمر القضايا المصيرية" عام 1995، حيث كانت القاهرة ترفض أيّة خطوة تؤدي إلى تقسيم السودان، ولكن الخرطوم لم تأخذ بعين الاعتبار الموقف المصري.
الحياد .. سياسة مصرية تجاه السودان
بحسب دراسات بحثية، فإن المصالح الاستراتيجية والأمنية لمصر - بأبعادها المختلفة - تتطابق مع الحفاظ على السودان موحداً ومستقراً. ولعل تلك القناعة هي التي جعلت مصر تتخذ مواقف التأييد للسودان، أو الدفاع عنه في كل المحافل الإقليمية والدولية، حفاظاً على الدولة السودانية من الانفراط، حتى لو كانت هناك بعض الخلافات حول التفاصيل.
لكن كان من اللافت للنظر، أن السياسة المصرية طوال فترة حكم "البشير"، لم تكن متناسبة مع الثقل المفترض لمصر وضخامة مصالحها من ناحية، والظروف والتعقيدات التي يواجهها السودان من ناحية أخرى، مع سرعة تفاقمها. فقد ظلت المواقف المصرية تراوح في تحركاتها بطريقة قد تصلح للتعامل مع أوضاع مستقرة، وليس مع مثل هذه التفاعلات الهائلة، التي تهدف إلى التفكيك والتركيب.
وبحسب دراسات لطبيعة العلاقة بين البلدين في الألفية الجديدة، فإن للقاهرة دافعاً لاتباع منهج الحياد في قضايا السودان الداخلية، ودوافع لإحجام القاهرة عن حلحلة الأزمات السودانية، واعتبارها ساحة خلفية لتصيفة حسابات مصالحها فقط، وربما يأتي على رأسها: الخوف من الفشل في ظل قناعة القاهرة بأن الوضع في الداخل السوداني معقّد، وأن نجاح أي مسعى يستلزم جهداً شاملاً واسع النطاق وذا طبيعة متواصلة.
شهدت علاقات البلدين تراجعاً ملحوظاً، منذ تولي حكومة "الإنقاذ" الإسلامية، بقيادة "البشير"، السلطة في السودان في العام 1989، الذي ألغى اتفاقيات التكامل مع مصر، وسعى إلى تدويل ملف "حلايب"، المنطقة الحدودية المتنازَع عليها. كما خاضت الخرطوم معاركها الداخلية من دون استشارة القاهرة، وهو ما يتجلى في حق تقرير المصير لجنوب السودان الناتج عن مقررات أسمرا"، في "مؤتمر القضايا المصيرية" عام 1995.
كما يستلزم - أيضاً - حشد وتعبئة قدر كبير من الموارد المادية والسياسية والدبلوماسية، مع قدر كبير من التنسيق والتفاهم مع الأطراف الإقليمية والدولية المتورطة في الأزمات السودانية، إلى جانب تقدير القاهرة أن هناك بعض الأطراف الأساسية في الداخل السوداني، ربما لا تكون مرحِّبة بتحرك مصري على هذا المستوى.
ونتيجة لهذا الحصاد من "أرض" العلاقات التاريخية بين البلدين، لم تفلح القاهرة في كسب دعم السودان في "ملف السد"، وانقلب موقف الخرطوم، من رفض إنشائه في العام 2011، إلى تأييده بعد أحداث تموز/ يوليو 2013، والإطاحة بحكم الرئيس "محمد مرسي". ثم تبدّل هذا الموقف إلى النقيض، حين تأزمت علاقات السودان مع إثيوبيا، على خلفية النزاع الحدودي بينهما في آذار/ مارس 2020.
السودان بعد "البشير"
بعد الإطاحة بالرئيس السوداني "عمر بالبشير"، في نيسان/ أبريل 2019، جرى تشكيل "المجلس السيادي"، ليتولى الحكم خلال المرحلة الانتقالية، وقد ترأسه "عبد الفتاح البرهان"، الذي كان رئيس أركان الجيش السوداني، والوريث العسكري للبشير، فيما تم تعيين الفريق أول "محمد حمدان دقلو"، والملقب بـ"حميدتي"، نائباً له، وهو قائد "قوات الدعم السريع" في السودان منذ 2010، التي كانت ميليشيا، لها استقلالها عن الجيش، ويعود تشكيلها كنتاج لاندلاع أزمة "دارفور" شرق السودان في 2005، وكان اسمها قبل ذلك "الجنجويد". ثم تشكلت حكومة مدنية انتقالية سرعان ما جرى الانقلاب عليها في تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
السياسة المصرية طوال فترة حكم "البشير"، لم تكن متناسبة مع الثقل المفترض لمصر وضخامة مصالحها من ناحية، والظروف والتعقيدات التي يواجهها السودان من ناحية أخرى، مع سرعة تفاقمها. فقد ظلت المواقف المصرية تراوح في تحركاتها بطريقة قد تصلح للتعامل مع أوضاع مستقرة، وليس مع مثل هذه التفاعلات الهائلة، التي تهدف إلى التفكيك والتركيب.
وفي كانون الأول/ ديسمبر 2022، تمّ الإعلان عن اتفاق بين "المجلس الانتقالي" وقوى مدنية لتأسيس عملية انتقال سياسي للبلاد. لكن، برزت خلافات بين "البرهان"، و"حميدتي"، عرقلت تطبيقه، بسبب الاختلاف على آلية وتوقيت دمج "قوات الدعم السريع" في الجيش، ونزاع الرجلين على رأس السلطة. ووصلت حدة الخلافات إلى الاشتباكات، بعد أن اتهم "البرهان" "قوات الدعم السريع" بالتمرد.
اقتصر دور القاهرة بعد الإطاحة بالبشير – بحسب إعلانها أنها تنتهج الحياد في القضايا الخارجية بعد "30 يونيو" - على استضافة المحادثات السودانية، بين القوى المدنية و"المجلس العسكري الانتقالي"، من دون دور جوهري، يوقف الخلاف بين شقي المكون العسكري، حتى وصل إلى الصراع الجاري.
مصر والجبهات الثلاث في السودان
هناك 3 جبهات أساسية فاعلة في الملف السوداني، وتندرج تحتها كافة القوى السياسية والعسكرية المتواجدة في أقاليم البلاد المختلفة، سواء بالانحياز التام إلى إحدى تلك الجبهات، أو بالتنسيق ووحدة المصالح. هناك الجيش السوداني ومن يدعمه من قبائل وقوى سياسية وشعبية، وطرف الصراع العسكري الآخر، وهو "قوات الدعم السريع"، فيما هناك الطرف الثالث، الذي تبلور بعد الحرب، وهو "تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية" ("تقدّم")، وهو تحالف سياسي سوداني تأسس عقب اندلاع الصراع بين القوات المسلحة السودانية و"قوات الدعم السريع" في 15 نيسان/ أبريل 2023، يضم خليطاً من القوى السياسية والمدنية ذات التوجهات الأيديولوجية المختلفة، ويقوده رئيس وزراء السودان السابق "عبد الله حمدوك".
ومع اندلاع الصراع المدمِّر، سعى الخصمان المتحاربان في البلاد إلى الحصول على الدعم من الخارج، في محاولة من كل طرف لحسم الصراع لصالحه. ويتبدى تأثير اللاعبين الخارجيين على مجريات الأحداث في السودان منذ الإطاحة بالرئيس السابق "عمر البشير" خلال انتفاضة شعبية قبل خمس سنوات. لذلك، لم تعد هناك قدرة لدولة واحدة على التأثير في الداخل السوداني، بل صارت ساحة صراع لتلك الدول مع بعضها بعضاً.
وبالعودة إلى موقف مصر من تلك الجبهات، فإنها تعد أهم داعمي "البرهان". ففي كلا البلدين، لعب الجيش دوراً مهيمناً في العقود التي تلت الاستقلال، وتدخّل في أعقاب الانتفاضات الشعبية. وذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، أن "مصر زودت أيضاً الجيش السوداني بطائرات من دون طيار، ودربت القوات على كيفية استخدامها". ومنذ اندلعت الحرب، استقبلت مصر "البرهان" وممثليه في زيارات، وأطلقت عملية سلام شملت جيران السودان، وجرت بالتوازي مع جهود الوساطة، التي قادتها الولايات المتحدة والسعودية و"الهيئة الحكومية للتنمية لدول شرق أفريقيا" (إيغاد)، ولكنها دائماً ما تتبنى الموقف السياسي للجيش السوداني.
وهنا يعتبر[1] "الدكتور عماد بحر الدين"، أستاذ العلوم السياسية السوداني بجامعة "منيسوتا" بالولايات المتحدة الأميركية، أن الدور المصري لا يزال مؤثراً في السودان، ولم ينحسر، ويظهر ذلك في دعمه القوي للجيش السوداني.
ووفقا لتصريحاته لنا، يقول "بحر الدين": إن "الدعم المصري للجيش السوداني ليس قولاً فقط، ولكنه فعلاً أيضاً. فهم يرون أن القوات المسلحة هي الممثل الشرعي للبلاد، وأن "قوات الدعم السريع" هي قوة تمرد. وهي رؤية متوافقة مع المؤسسة العسكرية السودانية".
تُعدُّ مصر أهم داعم ل"البرهان". ففي كلا البلدين، لعب الجيش دوراً مهيمناً في العقود التي تلت الاستقلال، وتدخّل في أعقاب الانتفاضات الشعبية. وذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، أن "مصر زودت أيضاً الجيش السوداني بطائرات من دون طيار، ودربت القوات على كيفية استخدامها".
في المقابل، وبحسب الدكتور "خليل عناني"، وهو كاتب وباحث مصري في العلوم السياسية، فإنه على الرغم من الدعم المصري للمكوِّن العسكري بشكل عام بعد الإطاحة بالبشير على حساب المكون السياسي - وهو ما يشمل "المجلس العسكري"، وقوات "الدعم السريع" معاً - إلا أنه عندما ظهرت الانقسامات بين "البرهان"، و"حميدتي"، اختارت مصر الانحياز إلى الأول في مقابل الثاني، وذلك لعدة أسباب تبدو منطقية، من وجهة نظر النظام المصري. "أول تلك الأسباب أن البرهان يمثل المؤسسة العسكرية السودانية التقليدية، ولذلك فإن التعامل معه يعني وجود علاقة مستقرة نسبياً، ويمكن التنبؤ بها عكس التعامل مع أمير حرب وزعيم ميليشيا مثل "حميدتي"، وثانيها أن ثمة ارتياباً في السلوك السياسي لـ"حميدتي"، الذي انقلب على حلفائه السابقين، خاصة عمر البشير الذي لعب دورًا مهمًّا في وصوله إلى ما هو عليه الآن، وهو ما يعني عدم الوثوق فيه أو في وعوده".
وأمّا السبب الثالث، فهو بحسب "العناني"، أن شبكة العلاقات الخارجية القوية لـ"حميدتي" أثارت مخاوف القاهرة من إمكانية اتباع سياسة خارجية مستقلة، قد لا تتماشى مع المصالح المصرية في المنطقة.
وانحياز مصر إلى طرف الجيش السوداني، هو ما يفسر التهديدات التي تطلقها "قوات الدعم السريع" من حين إلى آخر ضد القاهرة. ففي بداية الحرب، قامت عناصره بالقبض على جنود مصريين داخل السودان، ولكن سرعان ما أفرج عنهم، بعد توسيط مصر لعدد من الدول الفاعلة في السودان. وفي شهر تموز/ يوليو الماضي نقلت وسائل الإعلام مقطع فيديو لقيادي عسكري من "قوات الدعم السريع" يوجه التهديدات إلى مصر، ويحذرها من التدخل في السودان.
أما عن تحالف "تقدّم" وعلاقته مع القاهرة، فهناك مجموعة من العوامل التي تقف وراء التباعد، الذي وسم علاقة الطرفين. يقول "العناني"، إن أحد تلك العوامل، هو تبنيها تجاه السودان سياسة تسعى إلى ضمان عدم قيام نظام حكم مدني، ناهيك عن أن يكون نظاماً ديمقراطياً، وذلك لما قد يكون له من تداعيات كبيرة عليها.
فيما يرى المحلل السياسي السوداني "محمد تورشين"، أن علاقات "تقدُّم" الإقليمية زادت من هذا التباعد، حيث تتمتع بعلاقات دافئة مع إثيوبيا، منافس القاهرة التاريخي في "حوض النيل"، التي استضافت في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 اجتماع القوى السياسية والمدنية السودانية، الذي أفضى إلى تشكيل تنسيقية "تقدُّم"، وقامت هذه بالتوقيع على "إعلان أديس أبابا لحل الأزمة السودانية" مع "قوات الدعم السريع"، في العاصمة الإثيوبية أوائل كانون الثاني/ يناير 2024.
تقزّم عام مع تضارب مصالح مع الإمارات
يشير "بحر الدين"، إلى أن هناك بعداً آخر مؤثراً في دور مصر في السودان، وهو تراجع وتقزم دور القاهرة الإقليمي بشكل عام، مقابل صعود السعودية والإمارات وتركيا، وذلك بعد أن كانت الريادة لمصر، في زمن "عبد الناصر"، و"السادات". وهو ما يفسر التأثير الضعيف في السودان.
وهنا يقول الصحافي والمحلل المصري "مجدي عبد الهادي"[2]، إن مصر - بالفعل - تبدو مكتوفة الأيدي، غير قادرة على اتخاذ موقف واضح من الصراع على السلطة في السودان. ففي الواقع، تجد مصر نفسها وسط معضلة، فهي مقربة من أحد أطراف الصراع - الجيش السوداني - في حين يرجَّح أن "قوات الدعم السريع" تلقى تأييد دولة الإمارات، التي تعد أحد أكبر الداعمين لمصر مالياً.
شبكة العلاقات الخارجية القوية لـ"حميدتي" أثارت مخاوف القاهرة من إمكانية اتباع سياسة خارجية مستقلة، قد لا تتماشى مع المصالح المصرية في المنطقة. وانحياز مصر إلى طرف الجيش السوداني، هو ما يفسر التهديدات التي تطلقها "قوات الدعم السريع" من حين إلى آخر ضد القاهرة.
بالنسبة لتحالف "تقدّم" وعلاقته مع القاهرة، فهناك مجموعة من العوامل التي تقف وراء التباعد، الذي وسم علاقة الطرفين. يقول "العناني"، إن أحد تلك العوامل، هو تبنيها تجاه السودان سياسة تسعى إلى ضمان عدم قيام نظام حكم مدني، ناهيك عن أن يكون نظاماً ديمقراطياً، وذلك لما قد يكون له من تداعيات كبيرة عليها.
وعلى الرغم من الأهمية الاستراتيجية الكبيرة، التي تتمتع بها السودان بالنسبة إلى مصالح مصر الاستراتيجية، يبدو أن حكومة الرئيس "عبد الفتاح السيسي" في مصر تواجه صعوبة بالغة، في اتخاذ موقف يتمتع بالمصداقية من الفوضى في الخرطوم، نتيجة لتقزّم دورها، والخوف من تأثر مصالحها مع داعمي "قوات الدعم السريع".
لذلك اعتبرت الصحافية السودانية "محاسن الحسين"[3]، أن مصر لم تتدخل بقوة لإنهاء الصراع السوداني، مشيرة إلى أن الدعم السياسي للجيش بقيادة "عبد الفتاح البرهان" لم يختلف كثيراً عما تمارسه أغلب الدول العربية.
وقالت "محاسن"، في تصريحات خاصة لـ"السفير العربي"، إن الموقف المصري مع الصومال كان حاسماً بإرسال قوة عسكرية لحماية الشعب الصومالي، حتى وإن كان هناك مصالح غير معلنة، في المقابل دعمت مصر "البرهان" سياسيّاً، لكنها لم ترسل دعماً مسلحاً، بل سحبت قواتها من هناك، بعد اندلاع الاقتتال بين الأطراف المتنازعة.
أزمة العلاقات الفوقية وصراع المياه والغذاء
لكن يبدو أن هناك أبعاداً أخرى لتأزم الثقل المصري في الشأن السوداني، ففي البداية يشدد "أحمد التهامي"[4]، رئيس "لجنة الدفاع والأمن القومي" في البرلمان السوداني، على عمق العلاقات التاريخية بين البلدين. ولكنه يقول أيضاً، إن العلاقة الأزلية والتاريخية بين الدولتين ليست بالدور المطلوب، من حدوث تكامل بين البلدين بكافة أشكاله، الاقتصادي والأمني والسياسي، حتى يستفيد منها المواطن السوداني، ولا تكون علاقات فوقية بين القيادات السياسية.
تبدو مصر مكتوفة الأيدي، غير قادرة على اتخاذ موقف واضح من الصراع على السلطة في السودان. فهي في الواقع، تجد نفسها وسط معضلة، فهي مقرّبة من أحد أطراف الصراع - الجيش السوداني - في حين يرجَّح أن "قوات الدعم السريع" تلقى تأييد دولة الإمارات، التي تعد أحد أكبر الداعمين لمصر مالياً.
صراع مصر مع إثيوبيا حول "سد النهضة"، وحصص الدول من مياه "نهر النيل"، يزداد تأزماً كل يوم: تحول موقف جنوب السودان من الحياد بخصوص أزمة "سد النهضة" عقب انفصاله، الى الانحياز إلى الموقف الإثيوبي. وهناك توجه للدول "الفرانكفونية" لتأييد إثيوبيا على حساب مصر، وهذا يتطلب إعادة حسابات سياساتها تجاه دول "حوض النيل" بشكل عام، والسودان على وجه الخصوص.
ويوضح "التهامي" أن طبيعة تلك العلاقات هي التي تحافظ على عمقها بين البلدين، مهمها اختلفت النظم السياسية الحاكمة. وربما تلك المنهجية، هي التي جعلت لدول أخرى أرضية داخل السودان. وزادت الضغوط الدولية وأزمات العالم من تأثيرها السلبي على طبيعة العلاقات بين البلدين، وصارت السودان ساحة حرب إقليمية، بين دول مختلفة تدعم الأطراف المتنازعة بكافة الأسلحة الثقيلة، بل بالجنود المقاتلين، وهذا يتطلب من مصر دوراً مختلفاً عما مضى. ويختم "التهامي" قائلاً: "يجب أن تدرك القاهرة أن هناك وحدة في المخاطر الأمنية بين البلدين، فالسودان تعاني منذ الاشتباكات من أزمة جوع وغذاء، وكذلك هناك أزمة اقتصادية تواجه مصر، والبلدان يشتركان في أزمة المياه بعد مشكلة "سد النهضة"، وصار شح المياه يشكل هاجساً للبلدين، والأمن الغذائي لمواطني البلدين مشكلة وهاجسٌ لمستقبل الاجيال الحالية والقادمة، ومخطئ من يقول إن السودان يمكن ألا يتضرر من "السد"، ففي الوقت الذي قد تتاثر مصر على مدى قصير لوجود "السد العالي" فيها، كانت السودان صاحبة تأثر سريع منذ العام المنصرم. ونتجت عن ذلك قلة مساحات الزراعة على النيل، خاصة لأهل شمال الخرطوم وحتي نهاية حدود السودان مع مصر".
ويقول الدكتور "عماد بحر الدين"، إن مصر يجب أن تدرك أن صراعها مع إثيوبيا حول "سد النهضة"، وحصص الدول من مياه "نهر النيل"، يزداد تأزماً كل يوم، وأن خوفها يجب ألّا يقف عند إثيوبيا، فها هنا نرى جنوب السودان وقد تحول من موقف الحياد بخصوص أزمة "سد النهضة" عقب انفصاله، واليوم هو منحاز إلى الموقف الإثيوبي. وهناك توجه للدول "الفرانكفونية" لتأييد إثيوبيا على حساب مصر، وهذا يتطلب إعادة حسابات سياساتها تجاه دول "حوض النيل" بشكل عام، والسودان على وجه الخصوص، لذلك فعلى مصر أن تدرك أن ما يحدث في السودان لم يعد شأناً داخلياً.