في اليوم الأخير، اضطرّت شقيقتي إلى الهرب من جديد من مكان نزوحها. تطلّبَ الأمرُ أن تحملَ حياتها على كتفيها، وأولادها الثلاثة بين يديها، وتجري - حقيقةً لا مجازاً - ففي حياة "الخيم" يتطلّب الأمر أن تضعَ كُل ما تضمُّه حياتك في "خيمة"، وعند الهرب من المكان، لا يتطلّب الأمر سوى أن تحمل كلّ هذه الأغراض بأبسط طريقة، وتهرب. سيارة أو شاحنة أو عربة، كفيلة بأن تحوي كُلّ شيء.
قُبيل خروجنا من "رفح" قبل أربعة أشهر، واجهنا المشهد نفسه. كُلنا هربنا، فهو النزوح الثالث لنا. أتينا بشاحنة تكفي لما بين أيدينا من أغراض. وقفتُ ملياً، يائساً، مُتعباً في صالون البيت الذي نزحتُ إليه في المدينة، ونظرتُ أمامي، حيث تقع كُل الأغراض التي حاولنا جمعها في كراتين وعُلب وشُنط، وسألتُ نفسي: كيف تتسعُ الحياة لكلّ هذه الأغراض؟ وأيّ شيءٍ آخُذ؟ الملابس والطعام والأدوية والفراش؟ أم الذكريات والتفاصيل؟ أيُّ شاحنةٍ ستضمُ كلّ هذه الأشياء؟
نزحتْ أُختي، كما نزح عشرات الآلاف من الناس، من المناطق الشرقية من "دير البلح"، في الأسبوعيْن الأخيريْن. سبقها نزوحٌ من مناطق "شرق الزوايدة"، و"مُخيم المغازي"، وهي مناطق تقع كُلها في محافظة وسط قطاع غزّة. النزوح ليس الوحيد في هذه الفترة، سبقهُ نزوحٌ لمئات الآلاف من مناطق شرق "خانيونس" ووسطها، الذي تكرّر مراراً في الشهر نفسه.
معايشة الحرب في "غزَّة" - شهادة
13-06-2024
أصدرتْ إسرائيل حوالي 12 أمر إخلاء خلال شهر آب/ أغسطس الجاري، أدّت إلى نزوح نحو 250 ألف شخص. رُبع مليون إنسان، كان مطلوباً منهم الهرب، والوجهة؟ لا أحد يعرف. هذه حقيقة، أنّ الناس تُفاجَئ في لحظةٍ باتصالٍ من الجيش يقول لهم: "اخرجوا"، وفي لحظاتٍ قليلة، تنهالُ عليهم المدفعية الإسرائيلية وطيران "كواد كابتر" والطائرات المروحية، بالقذائف والرصاص، تصطادهم اصطياداً، حتى خلال محاولتهم النزوح.
أوامر الإخلاء الجديدة التي صدرت خلال الشهر، قلّصت جزءاً كبيراً من المنطقة التي تُسميها إسرائيل "المنطقة الإنسانية"، أو "المنطقة الآمنة"، وهي في الحقيقة كذبة كبيرة. فنسبة كبيرة من أعداد الشُهداء، الذين يسقطون يومياً في القطاع، يموتون في مناطق مُصنفة من الجيش الإسرائيلي على أنّها "خضراء".
الآن، المطلوب من الناس أن يذهبوا إلى منطقة مساحتها فقط 9.5 في المئة من إجمالي مساحة قطاع غزّة البالغة 360 كم مربّعاً. ومُنذ بدء الحرب في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كانت مساحة هذه المنطقة بدايةً 230 كم، وصارت الآن فقط 35 كيلو متراً، هي التسعة المكتوبة في الأعلى. بدأت كبيرةً، ثم تقلّصت مراراً، يوماً بعد يوم، حيث قلّصتها إسرائيل أكثر من ستّة مرّات.
أصدرتْ إسرائيل حوالي 12 أمر إخلاء خلال شهر آب/ أغسطس الجاري، أدّت إلى نزوح نحو 250 ألف شخص. رُبع مليون إنسان، كان مطلوباً منهم الهرب، والوجهة؟ لا أحد يعرف. هذه حقيقة، أنّ الناس تُفاجَئ في لحظةٍ باتصالٍ من الجيش يقول لهم: "اخرجوا"، وفي لحظاتٍ قليلة، تنهالُ عليهم المدفعية الإسرائيلية وطيران "كواد كابتر" والطائرات المروحية، بالقذائف والرصاص، تصطادهم اصطياداً، حتى خلال محاولتهم النزوح.
بالنظر إلى الخريطة، كانت المساحة "الكاذبة" مُمتدّة من "المغراقة" شمال وسط القطاع، إلى "رفح" أقصى جنوب القطاع، لكنّها الآن تمتد في مساحةٍ ضيّقة للغاية، تُشبه الخيط الرفيع، من "مواصي خانيونس" جنوباً، حتى "الزوايدة" وسطاً، ولا تمتدّ إلى أبعد من "شارع صلاح الدين"، الذي يقسم القطاع غرباً وشرقاً. أيّ أنّ إسرائيل أزالت منها مناطق كثيرة، بينها "رفح" بكُل ما فيها من أحياء ومناطق واسعة، والعديد من البلدات شرق "خانيونس" ومخيمات: "المغازي"، و"البريج"، و"النصيرات"، وبلدة "المغراقة"، ومدينة "الزهراء"، وبلدة "المصدّر".
زيادةً على ذلك، تتقلّص المساحة كُلّ يوم، فحتى المساحة "الآمنة" الكاذبة، التي يقع فيها مكانان رئيسان: "مواصي خانيونس"، و"دير البلح"، صارت تنقُص. في الأسبوعيْن الأخيريْن، طلبت إسرائيل إخلاء عشرات الكيلومترات من مساحة "دير البلح"، غرب "شارع صلاح الدين"، أي أن الإخلاء دخل فعلاً أحياءً واسعة من المدينة الوحيدة الباقية في غزّة، كما وصل إلى عددٍ من المناطق في "مواصي خانيونس"، وقلب مدينة "خانيونس".
مهما حاولتُ الشرح، فلن يفهم أحدٌ هول هذا المشهد، إلّا من يعيشُه على الأرض. رُبما لو نظرتُم إلى الخريطة ستفهمون كيف تصير المنطقة مساحةً ضيّقة، يُطلب الآن أن يُحشر فيها حوالي اثنين مليون شخص، بأطفالهم ونسائهم ومرضاهُم وبكلّ ما يملكون.. أو ما لا يملكون.. فأملاكهم كُلها ذهبت قصفاً وحرقاً في مناطق الإخلاء.
هذه مناطق نائية، ضعيفة، سيئة، مُتهالكة. في الغالب كانت "صحراء صغيرة"، أراضيَ باهتة، مليئة برمال البحر الباقية من أثر المستوطنات الإسرائيلية المُدمّرة، إثر الانسحاب الإسرائيلي عام 2005، أراضٍ مُخصصة للزراعة، عدد المنازل والأبنية فيها قليلٌ جداً، وبالتالي لا بُنية تحتية فيها، لا مياه شُرب، ولا مياه استخدام يومي، ولا شبكاتٍ للصرف الصحي، ولا أيّ مقوّمات معيشيّة. هذا بالنسبة إلى منطقة "مواصي خانيونس".
أمّا "دير البلح"، فهي لمن لا يعرفها، مدينة صغيرة جداً، وفي تعريفنا لها في الأيام العادية في غزّة، نقول: "دير البلح كُلها شارع"، أيّ أنها تُختَصر في شارعٍ واحد طويل، يمتد من "طريق صلاح الدين" حتى البحر، وهذا الشارع يذهب إلى كُل أحيائها وحواريها وشوارعها، ومنه تذهب إلى أيّ مكانٍ تُريده، على طرفيْ الشارع. صار مطلوباً منها، كمدينة ريفية صغيرة، أن تتسع لكل هذا العدد الهائل من الناس.
المطلوب الآن من الناس أن يذهبوا إلى منطقة مساحتها فقط 9.5 في المئة من إجمالي مساحة قطاع غزّة البالغة 360 كيلومتراً مربّعاً. فقط 35 كيلومتراً مربعاً تمتد في مساحةٍ ضيّقة للغاية، تُشبه الخيط الرفيع، من "مواصي خانيونس" جنوباً، حتى "الزوايدة" وسطاً، ولا تمتدّ إلى أبعد من "شارع صلاح الدين"، الذي يقسم القطاع غرباً وشرقاً. يُطلب الآن أن يُحشر فيها حوالي اثنين مليون شخص.
لا تمويل المؤسسات ولا البلديات ولا أيٍّ من موازنات الحكومات الفلسطينية المتعاقبة على مدار الأعوام الماضية، كان يتخيّل أن يمُر على مدينة "دير البلح" يومٌ كهذا. ففيها مستشفىً واحد فقط، ليسَ لها وحدها، إنما لكُل المحافظة التي تضُم ثلاثة مُخيمات وعدة بلدات ومُدناً أُخرى، وهو الوحيد العامل في الجنوب حالياً، مستشفى "شُهداء الأقصى".
حوالي 59 ألف شخص، هو عدد سُكان المدينة في الوقت العادي، ولنتخيّل مثلًا أن مدينة مُهيأة لهذا الكمّ من الناس، ستحتاجُ فجأةً إلى أن تتسع لحوالي مليون شخص، لذلك، فإننا في شوارعها نرى مياه الصرف الصحي المتكوّمة كبركٍ كبيرة ومستنقعات، يغرق فيها الناس، ومنها تنتشر الأوبئة والأمراض المُختلفة، التي تفتكُ بالمرضى، وتودي بحياتهم، من مثل "شلل الأطفال"، الذي انتشر مؤخراً.
بلد القبعات..
04-07-2024
لا تمويل المؤسسات ولا البلديات ولا أيٍّ من موازنات الحكومات الفلسطينية المتعاقبة على مدار الأعوام الماضية، كان يتخيّل أن يمُر على المدينة يومٌ كهذا. ففيها مستشفىً واحد فقط، ليسَ لها وحدها، إنما لكُل المحافظة التي تضُم ثلاثة مُخيمات وعدة بلدات ومُدناً أُخرى، وهو الوحيد العامل في الجنوب حالياً، مستشفى "شُهداء الأقصى".
هذه مناطق نائية، ضعيفة، سيئة، مُتهالكة. في الغالب كانت "صحراء صغيرة"، أراضيَ باهتة، مليئة برمال البحر الباقية من أثر المستوطنات الإسرائيلية المُدمّرة، إثر الانسحاب الإسرائيلي عام 2005، أراضٍ مُخصصة للزراعة، عدد المنازل والأبنية فيها قليلٌ جداً، وبالتالي لا بُنية تحتية فيها، لا مياه شُرب، ولا مياه استخدام يومي، ولا شبكاتٍ للصرف الصحي، ولا أيّ مقوّمات معيشيّة.
يُحشر الناس الآن شيئاً فشيئاً، في جيبٍ صغير وضيّق ورفيع جداً، يمتدّ من غرب "دير البلح" حتى غرب "خانيونس والمواصي"، وكُلها منطقة صغيرة قريبة من البحر، يُضغَط فيها الناس كُل يوم، وكل لحظة مع أيّ قرار يقضي بإخلاء مكانٍ جديد، في المناطق الشرقية من المحافظتيْن، ويبدو ألّا شيء سيبقى للناس، إلّا البحر.
فليذهبوا إلى البحر، فهو صديقُهم الوحيد، وهو الباقي فقط، ليحفظَ ذاكرة أهل غزّة. لكن، هُناك، وعلى بُعد عشرات الأمتار القليلة، تقعُ الزوارق الإسرائيلية، التي لا تترك حتّى ماء البحر نفسه، لتُطلق قذائفها وتُطلق النيران على النازحين، إلى جانب التلوث الشديد، الذي يمرُ بمياهه. فحتّى البحر، لن يبقَ لغزّة ولا لأهلها.