بات انتقاد قطع الأشجار في مصر انتقاداً للسلطة، وكلاماً ممنوعاً في السياسة، يتبعه هجوم منظّم من اللجان الإلكترونية، واتهامات جاهزة: مدلِّس لا تريد الخير للبلاد، فالأشجار تقتلع من جذورها لصالح المنفعة العامة! الأمر نفسه ينطبق على انتقاد تهجير وتشريد آلاف السكان خلال السنوات القليلة الماضية، فى موجات متتالية وعنيفة من "التنمية الحضرية العمرانية" التي شهدتها مصر، وخاصة في إقليم القاهرة الكبرى، ضمن نسق تنموي غير معلن ولا مطروح بالشفافية المطلوبة، نتجت عنه مئات الكباري (الجسور) التي تخترق الطرق صعوداً وهبوطاً من دون آلية حقيقية للحكم على كفاءتها، ومدى إسهامها في حل مشكلة الزحام.
على وجه العموم، لا يتسم العمران في مصر باحترام المساحات البيئية والفراغات حول الكتل السكّانية، بل يتخذ من الزيادة السكانية حجة للزحف العمراني على المساحات الخضراء، وتبوير الأراضي الزراعية ذات المساحة المحدودة من الأساس، إضافة إلى مخالفات مركّبة لقوانين البناء والمعايير العمرانية. وفي ذلك يقع الذنب الأكبر على الدولة، التي تراجعت بالتدريج منذ السبعينيات من القرن الماضي عن سد احتياجات الفئات المتوسطة والفقيرة من الإسكان المناسب، الذي يحفظ الكرامة ويمنع اللجوء إلى الطرق غير القانونية، وذلك لعدة أسباب، أهمها عدم توجيه المخصصات المالية اللازمة، أو طرح وحدات سكنية غير مدعّمة لا تتناسب مع ميزانية الأسر غير المقتدرة.
وكل ذلك يسير عكس سياسة الضلوع في حل مشكلة إسكان الفقراء ومتوسطي الدخل، التي شهدتها مصر منذ الخمسينيات من القرن الماضي، عبر بناء المدن العمالية والمساكن الشعبية والوحدات التشاركية، ووضع حد لارتفاع الإيجارات عن طريق قانون يحدد نسبة ثابتة من مساحة الأرض وتكلفة البناء.
وكانت تلك خطوات هادفة إلى كسب ود وولاء سكان المناطق الحضرية الشعبية، بعد تلك الريفية المؤيدة بشكل جارف لنظام حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، خاصة لدى فلاحي القرى عقب تطبيق قانون[1] الإصلاح الزراعي.
تسببت الزيادة المُطّردة في عدد سكان مصر، والحاجة إلى السكن غير المتوافر، إلى تدهور العمران متمثلاً في انتشار العشوائيات كتجمعات وأحزمة حول المدن الحضرية. ولا يزال بعضها حاضراً على الرغم من محاولات التخلص منها للانتفاع بالقيمة الاقتصادية لأراضيها. ولعل منطقة "الدويقة" – تقع جنوب شرق القاهرة - التي تكونت خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي هي الأجدر في تمثيل تلك الظاهرة القبيحة، حيث لا مكان للمساحات الخضراء ولا للطرق ولا للسكن الآمن المخطَّط، في حين ينتشر الفقر. صعوبة إيجاد مساكن مناسبة للفقراء أيضاً أفرز ظاهرة لا مثيل لها في العالم، إلا في الهند، وهي ظاهرة سكن المقابر، حيث تسكن عائلات كاملة في غرف ملحقة بالقبور، وتمارس حياتها العادية بجانب مراسم الموت والرفات.
كيف تدير القاهرة مساحاتها الخضراء؟
21-06-2024
فكيف يمكن في ظل كل ذلك الانتباه إلى المساحات الخضراء والتشجير الذي صار ترفاً مخصصاً لمدن الأغنياء الجديدة، فيما احتفظ عدد قليل من الأحياء القديمة بمساحتها الخضراء المحدودة قبل أن تطالها يد أجهزة الدولة بالقطع والإزالة؟ وبالرجوع إلى نسبة نصيب الفرد في مصر من الغطاء النباتي، نجد أنها لا تتعدى 8 سنتيمترات، في انخفاض كبير عن النسبة العالمية المحددة ب19 متراً مربعاً، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة درجات الحرارة في المدن المكتظة، وظاهرة الجزر الحرارية الحضرية، وأثرها على صحة الإنسان بسبب الإجهاد الحراري.
لكل ما سبق، لا يمكن الحديث عن قطع الأشجار، بدون الحديث عن السياسة العمرانية للسلطة الحالية من جانب، وارتباطها بالسياسة العامة من جانب آخر. وعليه، فيمكن تقسيم عوامل فقدان الأشجار على ثلاثة أسباب رئيسية، هي: العنف، والتعتيم، والاستغلال.
من أين يؤكل الشجر!
شهدت مصر ظواهر متناقضة للتنمية العمرانية والتطوير الحضري خلال العقد الأخير، أهمها علاوة على إنشاء الكباري وتوسعات الطرق، بناء مدن تنحاز إلى الأغنياء، مثل مدينة العاصمة الإدارية الجديدة، التي تهدف إلى نقل بعض من الوظائف الإدارية من القاهرة، عن طريق توطين عدد من المصالح الحكومية والوزارات فيها. ولكنها في الوقت نفسه لا تحمل عوامل جذب للطبقة المتوسطة، على الرغم من أهمية ذلك لتنمية المدينة، بهدف استقرار آلاف الموظفين في القطاع الحكومي مع أسرهم فيها، واستقطاب وافدين جدد لتغطية القطاعات الخدمية الأخرى. وكذلك هي حال مدينة "العلمين".
استثنيت العاصمة الإدارية ومدينة "العلمين" من انقطاع الكهرباء، مقابل قطعها لمدة تصل إلى ثلاث ساعات عن الأحياء المكتظة بالسكان، في صورة من صور غياب العدالة التي اعتدنا عليها في مصر. وهناك أيضاً قانون التصالح المعروف بين المصريين بـ"قانون الجباية"، كونه يبحث في الأوراق القديمة لمخالفات بناء تعود إلى عقود مضت، ويجبر مالكيها وساكنيها أو ورثتهم على دفع رسوم تصالح، إضافة إلى نزع ملكية المنازل للمنفعة العامة أو لتطوير المناطق العشوائية أو المتدهورة. كل ذلك يتم بدون عقد حوارات مجتمعية والإعلان عن خطة تطوير واضحة: أحياء يهجّر سكانها وتتغير معالمها لتوسيع الطرق والتطوير، أو للتحول الى منتجعات سياحية كما حدث في منطقة "ماسبيرو"، و"حدائق الفسطاط". وبالطبع تُزال الأشجار، ولا يستطيع أحد الاعتراض. فقبضة النظام الأمنية تعدت سطوة قبضة العصر "المباركي"، الذي حكم مصر ثلاثة عقود.
تُنكر السلطة قطع الأشجار بشكل ممنهج، بينما خسرت منطقة "مصر الجديدة" 2500 شجرة في الفترة ما بين عامي 2019 و2020. وتنكر السلطة أيضاً اقتلاع مساحات خضراء وأشجار من حديقة "الميرلاند" الشهيرة في المنطقة نفسها، على الرغم من أن خرائط صور غوغل تكشف عن تقلص الغطاء النباتي منذ عام 2018.
يُقمَع بعنف كل انتقاد لقطع الأشجار، كما لتهجير وتشريد آلاف السكان خلال السنوات القليلة الماضية، في موجات متتالية وعنيفة من "التنمية الحضرية العمرانية"، وخاصة في إقليم القاهرة الكبرى، ضمن نسق تنموي غير معلن ولا مطروح بالشفافية المطلوبة، نتجت عنه مئات الكباري (الجسور) التي تخترق الطرق صعوداً وهبوطاً من دون آلية حقيقية للحكم على كفاءتها، ومدى إسهامها في حل مشكلة الزحام.
ولا يعد خروجاً عن أزمة قطع الأشجار إذا ما تطرقنا إلى الحديث عن سطوة وعنف النظام في التهجير القسري لأهالي منطقة "ماسبيرو"، ضمن مخطط واسع لاقتلاع الفقراء والثوار من قلب القاهرة، وتنفيذ مخطط فشل فيه نظامان سابقان، للاستفادة من القيمة الاقتصادية للمساحة الكبيرة المطلة على النيل.
تعود محاولات تهجير الأهالي في منطقة مساكن "ماسبيرو" إلى السبعينيات من القرن الماضي. فالمنطقة تعود ملكيتها إلى أحد الإقطاعيين فــي القــرن التاســع عشــر، ويســمى "شــركس باشــا"[2]، وكان قــد خصص جزءاً مــن أرضــه للخدم والعامليــن لديــه ليبنوا منازلهــم. وفــي النصــف الثانــي مــن أربعينيات القــرن الماضــي، قبــل أن يغــادر "شــركس باشــا" البلاد، أوقــف الأرض لصالح مــن يعيشـون عليهــا لمـدة عشرين عاماً، علــىً أمـل أن يعـود لاحقـاً، غيـر أنـه توفـي. ومنذ السبعينيات من القرن الماضي، سعت السلطة إلى محاولات إخلاء المنطقة من السكان، بعد أن فشلت الأوقاف في الوصول إلى الورثة.
ومنطقة "مساكن ماسبيرو" لم تكن منطقة عشوائية، بل يدخل أغلبها ضمن المناطق المتدهورة، بمعنى أنها منطقة مخططة عمرانياً، لكنها عانت من تردي أوضاعها بسبب غياب الصيانة. وكانت تلك إحدى أدوات السلطة السابقة، كما الحالية، لإخضاع الأهالي وإخلاء المنطقة، حيث رفض التصريح بإجراء الصيانة والإصلاحات اللازمة لمباني المنطقة.
وخلال عشر سنوات فقط من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، نجحت سلطته في إخلاء "مساكن ماسبيرو"، وإقامة أبراج سكنية وتجارية ضخمة، تحجب "النيل" ولا تحمل طابعاً جمالياً، ولا تقتدي بالنسق العمراني المميز لمنطقة "وسط البلد". ويمكن الرجوع إلى خرائط غوغل للكشف عن غياب المساحات الخضراء والأشجار في المنطقة، في محاولة للاستفادة من كل شبر في تلك الأراضي ذات القيمة الاقتصادية المرتفعة جداً، والتي لا مثيل لموقعها المطل على "النيل" في قلب القاهرة النابض. ولقد تكرر الأمر نفسه مع "جزيرة الوراق"، فهناك حصار شديد على هذه الجزيرة، لإجبار الأهالي على تركها، لكنه يمارَس هنا بشكل أكثر عنفاً.
من "ماسبيرو" إلى "حديقة الفسطاط" التي اقتلعت أشجارها الضخمة، لتتحول إلى كراج للسيارات ومقاهي ملحقة بـ"متحف الحضارة". هنا إزالة الأشجار لم تكن بهدف توسيع الطرق وبناء كباري، ولم تكن مؤثرة على الوصول إلى متحف الحضارة والتمتع ببحيرة "عين الصيرة"، التي تمّ تطويرها، لكن كانت طريقة لحرمان الفقراء ومتوسطي الدخل من متنزه أفلت من قبضة القاهرة الإسمنتية.
ويعود تاريخ إنشاء "حديقة الفسطاط" إلى عام 1989، على مساحة 250 ألف فدان، وتمتد الحديقة من طريق "صلاح سالم" شمالاً إلى الطريق الدائري جنوباً، ومن جامع "عمرو بن العاص" غرباً إلى "سكة الخيّالة" شرقاً. وقبل إزالة الحديقة، شهدت "الفسطاط" حادثاً غريباً، تمثل في اشتعال حريق فيها عام 2020، أدى إلى تفحم 15 نخلة وشجرة بالحديقة، وقيل وقتها إن السبب هو إلقاء عقب سيجارة على مخلفات، فلا نظام حماية للأشجار ولا للحدائق العامة. لكن احتراق 15 شجرة، لا يبرر إزالة الحديقة بالكامل، خاصة مع إعلان الحكومة عن أن المنطقة سيعاد تخطيطها لتتحول إلى حديقة مرة أخرى تحمل اسم "تلال الفسطاط"!، وتصبح أكبر متنزه أخضر في القاهرة الكبرى، على مساحة 2.1 مليون متر مربع، أي 3 أضعاف مساحة ثلاث حدائق ضخمة هي: "الأزهر"، و"الحيوان"، و"الأورمان" مجتمعة. فلماذا قُطعت الأشجار من الأساس؟ الإجابة التي تحتاج إلى بحث متعمق وراءها: أزيلت لبناء حديقة!
تعتيم في غير محله
رغم صعوبة التعتيم على الأخبار والأحداث في عصر وسائل التواصل الاجتماعي التي لا رقيب عليها ولا ضوابط، سواء أكانت تكشف عن معلومات حقيقية أو مضللة، إلا أنه صار معلوماً للجميع أن الإعلام المصري، بقنواته الفضائية وصحفه ومواقعه، يخضع لقبضة السلطة، التي عمدت إلى تأميمه - إن جاز التعبير- تحت إدارة "الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية"، لتوحيد الخطاب الإعلامي، الذي يتعمد تجاهل قضايا تمس المواطن، أو تشتبك مع النظام بأي شكل من الأشكال. في المقابل يدافع الإعلام عن موقف السلطة ويلتمس لها الأعذار. ولا يُخفى على أحد كيف تحاول الصحف المحلية خلال أزمة قطع الكهرباء نشر كافة الحوادث المشابهة في دول أخرى، حتى لو كانت حوادث عارضة، ومحاولة تصدير فكرة أن موجات الحرارة ومشاكل الطاقة هي العامل الرئيسي وراء ذلك، في ابتذال لا يتوافق مع تاريخ بعض تلك الوسائل الإعلامية، التي كانت تجتذب القراء لاستقلالها ومحاربتها للفساد.
لا يتسم العمران في مصر باحترام المساحات البيئية والفراغات حول الكتل السكّانية، بل يتخذ من الزيادة السكانية حجة للزحف العمراني على المساحات الخضراء، وتبوير الأراضي الزراعية ذات المساحة المحدودة من الأساس، إضافة إلى مخالفات قوانين البناء. وفي ذلك يقع الذنب الأكبر على الدولة، التي تراجعت بالتدريج منذ السبعينيات من القرن الماضي عن سد احتياجات الفئات المتوسطة والفقيرة من الإسكان المناسب.
تسببت الزيادة المُطّردة في عدد السكان، والحاجة إلى السكن غير المتوافر، إلى تدهور العمران متمثلاً في انتشار العشوائيات، التي لا يزال بعضها حاضراً على الرغم من محاولات التخلص منها للانتفاع بالقيمة الاقتصادية لأراضيها. ولعل منطقة "الدويقة" التي تكونت خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي، هي الأجدر في تمثيل تلك الظاهرة القبيحة، حيث لا مكان للمساحات الخضراء ولا للطرق ولا للسكن الآمن.
في ظل حال الإعلام تلك، تتضارب التصريحات الحكومية منذ بداية أزمة اقتلاع الأشجار، وتأتي دائما خالية من التفاصيل والأدلة، والتي كان أسوأها على الإطلاق تصريح لوزيرة البيئة "ياسمين فؤاد"، في حوار للـ"بي بي سي"، تَضمّن[3] الإشارة إلى أن نسبة أحمال التلوث في حال توسيع الشارع، تنخفض نتيجة لانخفاض تزاحم السيارات على الرغم من اقتلاع الأشجار! الوزيرة أيضاً أشارت إلى أن قانون البيئة لا يتضمن عقوبات على قطع الأشجار.
الأمر نفسه ينطبق على قانون البناء الموحد[4]. فالأمر متروك للإدارات المحلية، التي تعاني من الارتباك ونقص المخصصات المالية ونقص الكفاءات والشفافية، بعد توقف انتخاب المجالس المحلية وحلها بحكم قضائي عقب "ثورة 25 يناير 2011". ووفقاً لنص المادة 180 من الدستور المصري، فإن المجالس المنتخبة المشار إليها "تختص بمتابعة وتنفيذ خطة التنمية، ومراقبة أوجه النشاط المختلفة، وممارسة أدوات الرقابة على الأجهزة التنفيذية، من اقتراحات، وتوجيه أسئلة، وطلبات إحاطة، واستجوابات وغيرها، وكذا سحب الثقة من رؤساء الوحدات المحلية، على النحو الذي ينظمه القانون". وعلى الرغم من أن عودة تلك المجالس المنتخبة قد تشوبها موالاة للنظام أيضاً، كما كان يحدث خلال فترة حكم "مبارك"، لكن من الممكن بالتأكيد أن تنضم شخصيات معارِضة إلى تلك المجالس، وتسهم في تفعيلها كأداة للمراقبة، ولو بشكل جزئي.
من التصريحات الغريبة أيضاً للمسؤولين حول تكرار حوادث قطع الأشجار: أن الأشجار تقتلع بطريقة معينة، وبواسطة معدات خاصة للحفاظ على جذورها وإعادة زراعتها مرة أخرى، على الرغم من أن الصور ومقاطع الفيديو على شبكات التواصل الاجتماعي، تكشف عن أن ذلك لا ينطبق على كافة الأشجار. على سبيل المثال، كنت شاهدة على اقتلاع الأشجار في منطقة "كورنيش العجوزة" خلال عام 2021، أثناء ترددي على المنطقة في زيارات أسبوعية متكررة، ولم ألاحظ اقتلاع الأشجار من جذورها، بل اجتثت وألقيت على جانب الطريق في مشهد حزين.
خلال عشر سنوات فقط من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، نجحت سلطته في إخلاء "مساكن ماسبيرو"، وإقامة أبراج سكنية وتجارية ضخمة، تحجب "النيل" ولا تحمل طابعاً جمالياً، ولا تقتدي بالنسق العمراني المميز لمنطقة "وسط البلد".
هل يمكن أن يتحول الاحتجاج على قطع الشجر إلى نواة لحركة احتجاجية تنعش المجال العام، فتكون خسارة الشجر، على فداحتها، بداية أمل جديد في تجدد الدماء في الشارع المصري، بعد سنوات من تفكيك وإجهاض المعارضة، وتحييد الإعلام المحلي بكل ما يحمله من خبرات تراكمية في كشف وتتبع قضايا الفساد؟
تنشر السلطة أيضاً أرقاماً ضخمة جداً حول عمليات حديثة لزراعة الأشجار، من دون الإشارة إلى أن بعضها يدخل ضمن الغابات الشجرية، وهي عبارة عن أشجار غير مثمرة، تستفيد من مخلفات المياه لمحطات الصرف والكهرباء، بهدف استغلال أخشابها وبيعها وتعظيم موارد الدولة. كما تنكر السلطة قطع الأشجار بشكل ممنهج، على الرغم من خسارة منطقة "مصر الجديدة" لما يقرب من 2500 شجرة في الفترة ما بين عامي 2019 و2020، وذلك وفقاً لـ"مبادرة تراث مصر الجديدة"[5]. وتنكر السلطة أيضاً اقتلاع مساحات خضراء وأشجار من حديقة "الميرلاند" الشهيرة في المنطقة نفسها، على الرغم من أن خرائط صور غوغل تكشف عن تقلص الغطاء النباتي منذ عام 2018.
أين يذهب خشب الأشجار؟
في كل مرة يزيد الضغط على السلطة بأجهزتها المختلفة بسبب تكرار حوادث قطع الأشجار، يبرز الحديث عن مبادرة زراعة 100 مليون شجرة، وهى مبادرة مدعومة من الرئيس، تهدف إلى تحديد 9900 موقع في أنحاء المحافظات المختلفة، تصل مساحتها الإجمالية إلى 6600 فدان على مستوى الجمهورية، تصلح لأن تكون غابات شجرية، أو حدائق، وتوفر السلطة الشتلات الزراعية وشبكات الري. يأتي ذلك، في ظل الحديث عن فقدان مصر لمساحات من أرضيها الزراعية منذ ثورة 25 يناير، وهي أراضٍ محدودة في الأساس، ومعرضة للنحر بعد توقف تغذيتها من قبل ترسبيات طمي "النيل" عقب إقامة "السد العالي".
وعلى الرغم من الشعارات البراقة، حول دعم السلطة للتنمية المستدامة، إلا أن عدة إجراءات متتالية اتخذتها تثبت محاولة تعظيم الموارد المالية على حساب حقوق الأجيال القادمة في ثروة مصر الطبيعية والبشرية، بداية من التخلي عن جزيرتي "تيران"، و"صنافير"، مروراً بمنح منطقة "رأس الحكمة" بنظام حق الانتفاع، وانتهاءاً بخصخصة أو تصفية عدد من المصانع المهمة، كمصانع الحديد والصلب وإسمنت القومية. فهل تعظِّم الدولة مواردها من الأخشاب باقتلاع الأشجار؟ ومن يحصل على المقابل المادي لحصيلة الأخشاب التي تم اقتلاعها؟ علماً بأن مسؤولية الأشجار في الشوارع والطرقات يتقاسمها كلٌّ من: المحليات، وهيئة التنمية العمرانية ، ووزارات الإسكان والزراعة والري!
"حديقة الفسطاط" التي اقتلعت أشجارها الضخمة، تحولت إلى كراج للسيارات ومقاهي ملحقة بـ"متحف الحضارة". هنا، إزالة الأشجار لم تكن بهدف توسيع الطرق وبناء كباري، ولم تكن مؤثرة على الوصول إلى متحف الحضارة والتمتع ببحيرة "عين الصيرة" التي تمّ تطويرها، لكن كانت طريقة لحرمان الفقراء ومتوسطي الدخل من متنزه أفلت من قبضة القاهرة الإسمنتية.
ازيلت حديقة "الفسطاط" بالكامل ، وإعلنت الحكومة أن المنطقة سيعاد تخطيطها لتتحول إلى حديقة مرة أخرى تحمل اسم "تلال الفسطاط"، وتصبح أكبر متنزه أخضر في القاهرة الكبرى، على مساحة 2.1 مليون متر مربع، أي 3 أضعاف مساحة ثلاث حدائق ضخمة هي: "الأزهر"، و"الحيوان"، و"الأورمان" مجتمعة. فلماذا قُطعت الأشجار من الأساس؟ الإجابة التي تحتاج إلى بحث متعمق وراءها: أزيلت لبناء حديقة!
ولا ترتبط دائماً حوادث اقتلاع الأشجار بتوسيع الطرق وبناء الكباري، بل هناك حالات لاقتلاع الأشجار في الشوارع الداخلية، وهي تتم عن طريق موظفين حكوميين بملابس مدنية، بصحبة عربة البلدية أو مجرد عربة نصف نقل عادية، يقتلعون الأشجار ويحملونها مغادرين، أو يتركونها في الطريق ويعودون إلى حملها بعد ذلك. سكان الشارع، لا يعترضون في الغالب، فهناك حالٌ من السلبية بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتقييد كافة مجالات حرية الرأي والتعبير، ما يضعف القدرة على المقاومة والرفض.
فهل يمكن أن نثق في اهتمام الدولة بالتشجير للصالح العام؟ هل لدى الدولة خطة حقيقية للحفاظ على حقوق الأجيال القادمة في المساحات الخضراء؟ هل يمكن أن يتحول الاحتجاج على قطع الشجر إلى نواة لحركة احتجاجية تنعش المجال العام، فتكون خسارة الشجر، على فداحتها، بداية أمل جديد في تجدد الدماء في الشارع المصري، بعد سنوات من تفكيك وإجهاض المعارضة، وتحييد الإعلام المحلي بكل ما يحمله من خبرات تراكمية في كشف وتتبع قضايا الفساد؟.
- قانون الإصلاح الزراعي رقم 178 لسنة 1952. ↑
- سياسات الإخلاء وتأثيرها على المدينة، ماسبيرو نموذجاً، محمد أبو طيرة وأخرون، برنامج "الموئل لمستقبل حضري أفضل"، برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، 2022. ↑
- https://2u.pw/u59E4FYtحوار لوزيرة البيئة، دكتورة ياسمين فؤاد، بتاريخ 3-6-2020. ↑
- قانون البناء رقم 119 لسنة 2008. ↑
- مصر: "مجازر الأشجار" تثير غضب المصريين وترفع درجات الحرارة ونسب التلوث، 2024https://2u.pw/xeilQkI7 ↑