إعداد وتحرير: صباح جلّول
بستانٌ، عوسَج، ريحان، وقصفة زيتون... ذلكَ هو الحقل المعجمي لمقطعٍ ألِفناه من قصيدة الشاعر سميح القاسم "منتصب القامة أمشي" (غناها ولحنها مرسيل خليفة)، ومِثلها عشرات القصائد التي تفيض ليموناً وبنفسجَ وزيتوناً وزعتر ومطراً وتراباً. قد يُقال أن هذه التعابير ابتُذِلت لكثرة ما وقعنا عليها في النثر والشعر الذي يتناول فلسطين والأرض والحرية والمقاوِمين الذين خاضوا عناصر الطبيعة واتخذوها غطاء، والناس الذين زرعوا الأرض وحفظوا الشجر ومواسمها... يوحي ذلك الشعر دوماً بعلاقة تبادلية، بل تكافلية تقريباً، بين الإنسان وأرضه، حريتها وحريته.
في أحد فصول كتابه "التطهير العرقي لفلسطين"، يذكر الكاتب والمؤرخ إيلان بابيه كيف أن إبادة الغطاء النباتي الأصلي لفلسطين كان من أول ما اهتمّ به المستوطنون الأوائل: اقتلعوا الزيتون وأبدلوه شجر صنوبر مستورداً من بلدان أوروبية، حتى أن تربة الأرض في مواقع عدة رفضت الشجر المهجّن فلم يعمِّر بها، أو أن الأرض غُصِبت عليه فخنق احتمالات الحياة لأشجار مثمرة فيها. تلك الأشجار والنباتات ليست رمزاً جمالياً أو "أصلانياً" فحسب، بل هي في أساس دورات حياة اقتصادية واجتماعية متكاملة، تُنسج حولها وتُصنع أشكالاً للحياة. والآن ها هم مجدداً، يفعلون فِعل الاستعمار في كل بقاع الأرض، يدأبون على حرقها.
****
تلك هي سياسة الاحتلال الموصولة منذ النكبة إلى يومنا هذا. يوم الأحد في 16 حزيران/ يونيو 2024، أحرق الاحتلال أراضٍ في قرية "برقة" شرق مدينة رام الله، بالتوازي مع اقتحام المستوطنين – اللذين يحظون بحماية قوات الاحتلال - لمنطقة "بئر المرج" الزراعية في القرية، حيث أحرقوا كل ما وقعت عليه أيديهم من بساتين زراعية وشجر، متسببن باستعار نيران هائلة. كما لم يوفِّروا ممتلكات الفلسطينيين من سيارات وغيرها، رشقاً بالحجارة وتخريباً. واقتحم أكثر من 20 مستوطناً قرية "بورين" محرقين المحاصيل الزراعية والزيتون يوم 18 حزيران/ يونيو. ومن "البيرة" إلى "حوسان" غربي "بيت لحم"، وصولاً إلى "أريحا" شمال شرق الضفة الغربية، تكرر المشهد: اقتحامات وإحراق أراضٍ.
مستوطنو المستوطنات غير الشرعية (حسب القوانين الدولية التي لا تعنيهم بشيء) في الضفة يملكون من الوقاحة ما يخولهم جعل هذه الأفعال عملهم اليومي. على امتداد الشهر الحالي فقط، سُجلت عشرات حالات إضرام النار في الأراضي وتخريب الممتلكات في شتى المناطق المجاورة ل"رام الله". في الأسبوع الأول من حزيران/ يونيو 2024، بلغت مساحة الأراضي المحروقة من قبل المستوطنين نحو 400 دونم (1000 متر مربع)، معظمها مساحات مزروعة بأشجار الزيتون، تلك الشجرة المقدسة في الموروث الديني والشعبي معاً، فيما عمدت قوات الاحتلال إلى مهاجمة الفلسطينيين الذين حاولوا التصدي لاعتداءات المستوطنين، وإلى عرقلة محاولة أهالي القرى إخماد تلك النيران!
في مكان غير بعيد جداً عن تلك الأراضي، هناك أراضٍ محروقة أخرى. في مقطع فيديو مصوّر، يظهر جنود إسرائيليون يلهون بسلاحٍ لم يشاهَد في الحروب منذ القرن السادس عشر، كما وصفته عدة وسائل إعلامية: منجنيق، يلقّمه الجنود كرات نارية ملتهبة يلقونها من خلف جدار على الأراضي اللبنانية في الجنوب، في منظرٍ مختلٍّ تماماً، يشبه حالات الهلوسة التي يمارسها جنود الاحتلال في غزة، حيث يفتعلون إبادة شاملة كأنما يلهون في لعبة فيديو أمام شاشة... بالطبع، ليس منجنيقهم أسوأ ما في الأمر، فقد فعل الفوسفور الأبيض الملقى بكثافة من الطائرات الإسرائيلية على الأراضي وبين البيوت في جنوب لبنان ما لم يفعله المنجنيق.
جنوب لبنان: أكثر من 200 يوم من الصمود
02-05-2024
أحرق الاحتلال 2400 دونم من الأراضي بشكل كامل، و6500 دونم احترقت بشكل جزئي، كما تلوثت بالفوسفور محاصيل زراعية ومساحات أكبر بكثير، حسب أرقام غير نهائية لوزارة الزراعة اللبنانية. طالت الحرائق أكثر من 55 بلدة وقرية، كلها بحاجة لمسح واستخراج عينات لمعاينة التلوث بالفوسفور ومداه.
في جنوب لبنان، تضرر قطاع الزيتون والزيت بشكل كبير، أحصيت أكثر من 60 ألف شجرة زيتون محترقة – إبادة شجَرية حقيقية، ومنها أشجار كانت معمّرة لأكثر من 100 عام. تشير وزارة الزراعة اللبنانية أيضاً إلى تضرر قطاعات الحمضيات واللوزيات وأشجار السنديان والصنوبر من الناقورة إلى كفرشوبا وسبعا، بالإضافة إلى مساحات شاسعة من الغابات. ينتج جنوب لبنان أكثر من 22 في المئة من المنتجات الزراعية الوطنية، في قطاع يعمل فيه عدد كبير من المزارعين، المتوقفة أو المتعثرة أعمالهم حالياً، وهو مسؤول عن 38 في المئة من الزيتون في البلاد، كما يتضمن أراض شاسعة من التبغ تدرّ مدخولات حيوية للمنطقة والبلاد...
****
تبدو مواسم الحصاد وقطاف الزيتون حزينة وبعيدة لأولئك الذين خسروا رزقهم وأمانهم. لتلك العائلات التي يشارك كبيرها وصغيرها في الحصاد في المواسم، ولأولئك النسوة اللاتي تغنين في فيء شجر فلسطين وجنوب لبنان "على دلعونا وعلى دلعونا، زيتون بلادي أطيب ما يكُونا". لكنّ الأمر أبعد من حنين ورمز، فقصف الأرض وإحراقها هو كارثة بيئية واقتصادية حقيقية جداً وجريمة كاملة الأركان يدفع ثمنها المزارعون وأهل المناطق المنكوبة، ثمّ البلاد كاملة.