تدمير فلسطين هو تدمير كوكب الأرض

إنها نهاية العالم الذي لا ينتهي أبداً: حطام جديد يتراكم دائماً فوق رؤوس الفلسطينيين. التدمير مكوّن رئيسي في تجربة الحياة الفلسطينية لأن جوهر المشروع الصهيوني هو تدمير فلسطين. لكن هذه المرة، وعلى النقيض من 1948 أو 1950، يحدث تدمير فلسطين على خلفية عملية مختلفة ومتصلة للتدمير: تدمير النظام المناخي لهذا الكوكب.
2024-05-02

شارك
  • هذه الإبادة الجماعية تحديداً بها سمات فريدة تجعلها مختلفة كل الاختلاف عن سجلّ الإبادات الجماعية الحديثة. أولاً، وقبل كل شيء: منذ بدايتها، كانت هذه الإبادة الجماعية «مجهوداً دولياً»، نسقته ونظّمته الدول الرأسمالية المتقدمة في الغرب، بالتعاون مع دولة إسرائيل.
  • في «استراتيجية تحرير فلسطين»، النص المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من العام 1969، يُعرّف العدو في وحدته الجدلية بالإمبريالية العالمية والاستعمار الاستيطاني المحلي: انتصارات الأخير هي مسألة أساسية لتحقيق مصالح الأول.
  • الصهيونية «حركة عنصرية عدوانية مرتبطة بالإمبريالية، ولقد استغلت معاناة اليهود كرافعة للترويج لمصالحها (...) في هذه المنطقة من العالم التي تمتلك مقدرات وموارد غنية، وتعد رأس جسر إلى دول أفريقيا وآسيا».[86] هذا هو نقيض نظرية اللوبي.

هذا المقال هو نسخة مُحررة من محاضرة قُدمت في مركز الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة الأميركية في بيروت، بتاريخ 4 نيسان/أبريل 2024. نشرت النسخة الأصلية بالإنكليزية على موقع فيرسو وتمت الترجمة العربية بمبادرة ودعم من المعهد العابر للقوميات - برنامج المنطقة العربية.

ها هو نصف سنة من هذه الإبادة الجماعية يمضي أمام أعيننا. نصف سنة مرت منذ أطلقت المقاومة «طوفان الأقصى» وردّ الاحتلال بإعلان الإبادة الجماعية وتنفيذها. نصف سنة، ستة أشهر، 184 يوماً من القنابل التي تقطف عائلة تلو العائلة، بُرج سكني تلو الآخر، منطقة سكنية تلو الأخرى، بلا هوادة، بمنهجية وتصميم: نصف سنة من عظام الأطفال الرمادية التي تبرز أطرافها من تحت الأنقاض، من صفوف الأكياس الصغيرة البيضاء للجثامين المصطفة على الأرض، من الفتيات الصغيرات القتيلات يَلُحنَ من النوافذ كاللحم على الخُطاف. نصف سنة من الأمهات والآباء يودعون الصغار برباطة جأش، كما لو أن أرواحهم خلَّفت فيهم خواءً. يودعوهم في نوبات منفلتة من الأسى، وكأنهم لا يعرفون كيف سوف يمضون أماماً ويخطون على هذه الأرض خطوات. نصف سنة قوامها دستة من المذابح كل يوم والإعدامات والقنص ووطء الجرافات للجثامين... ولا تتوقف. تستمر وتستمر ولا تتوقف، ثم إنها تستمر وتمضي قُدماً ولا تنتهي، لا تنتهي. قد يجنّ المرء من اليأس وهو يتابع هذه المشاهد من بُعد. لو شعر المرء بهذا الشعور وهو من بُعد، فلك أن تتخيل شعور الأحياء حتى الآن في غزة.

ترتكب دولة إسرائيل أسوأ جريمة عرفتها الإنسانية يوماً، وهذه الإبادة الجماعية تحديداً بها سمات فريدة تجعلها مختلفة كل الاختلاف عن سجلّ الإبادات الجماعية الحديثة. أولاً، وقبل كل شيء: منذ بدايتها، كانت هذه الإبادة الجماعية «مجهوداً دولياً»، نسقته ونظّمته الدول الرأسمالية المتقدمة في الغرب، بالتعاون مع دولة إسرائيل. هرعت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغالبية الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي الأخرى فوراً للمشاركة في سفك الدماء، فأرسلت السلاح إلى الاحتلال وكأنها تقدم الأطباق في مأدبة، وحلّقت في سماء غزة لتجمع وتشارك المعلومات الاستخباراتية مع جيش الاحتلال وطياريه، وفرشت أبسطة الدفاعات الدبلوماسية حول تلك الدولة. ثم كأن هذا لا يكفي، انتزعت آخر الفتات من أيدي الفلسطينيين. والآن بعد أن أصبحوا يتضورون جوعاً ولم يعد أمامهم سوى أقل المساعدة الممكنة من الأونروا ليبقوا على قيد الحياة؛ قطعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة خط الحياة الأخير هذا بدوره. قد يُغفر للمرء إذن، إذا اعتقد أنهم يريدون الموت للفلسطينيين.

____________
ملف خاص
إلى غزة وأهلها
____________

تلك هي الصورة على مدار نصف سنة من هذه الإبادة الجماعية. فحتى الآن، ليس أمامنا إلا مشهد أحادي لا يتغيّر من هذا التعاون. ليست هناك واقعة إبادة جماعية أخرى على القائمة المتاحة منذ الهولوكوست ظهرت بهذه الصورة. من بنغلادش إلى غواتيمالا، من السودان إلى ميانمار، ربما نالت الإبادات الجماعية الدعم بدرجات متفاوتة من تواطؤ المركز الرأسمالي. لكن هنا، نحن بصدد شيء مختلف كليّاً. ربما من المفيد مقارنة الأمر بإبادة مسلمي البوسنة، وهو حدث شكّل آرائي السياسية في فترة الشباب. مع فرض حظر أسلحة، حرم الغرب الناس من حق الدفاع عن أنفسهم. وبانسحاب القوات الهولندية من سربرنيتسا، سلّمت عن علم وبيّنة البلدة إلى راتكو ملاديتش. في ظرف أربع سنوات من الحرب، وقف ما يُدعى بـ «المجتمع الدولي» يتفرج على مسلمي البوسنة يذبحون. لكن كانت تلك بالأساس أعمال تواطؤ سلبي. لم يسلّح الغرب جمهورية صرب البوسنة بأفضل ما في ترساناته من قنابل. لم يطر بيل كلينتون لأرض المذبحة ليعانق سلوبودان ميلوسيفيتش. لم تقترن المذبحة بالإعلانات المتكررة عن «حق القوميين الصرب في الدفاع عن أنفسهم». قد يكون ما نشهده الآن أول عملية إبادة جماعية ترتكبها الرأسمالية المتأخرة.

هذه المتاهة من الأبراج الخرسانية ونظم المراقبة، هذا التكوين الصلب من البنادق والماسحات الضوئية والكاميرات... هو قطعاً أقبح صرح دال على الهيمنة على شعب رأيته يوماً... كل ذلك وقع فجأة في أيدي المقاتلين الفلسطينيين الذين تغلبوا على جنود الاحتلال ومزقوا رايتهم. كيف لا نصرخ من الدهشة والفرح؟

لا بد أن أعترف ببعض السذاجة: لم أتوقّع هذا النهم المتوحش إلى الدم الفلسطيني. بالطبع لم أندهش من سلوك الاحتلال. ثاني شيء قلناه لبعضنا صباح 7 تشرين الأول/أكتوبر: سوف يدمِّرون غزة. سوف يقتلون الجميع. أول شيء قلناه في الساعات الأولى لم يكن في صورة كلمات، بل صرخات ابتهاج. من عاشوا حياتهم مع القضية الفلسطينية وعبرها لم يكن بوُسعهم أن يتفاعلوا بأي صورة أخرى مع مشاهد اجتياح المقاومة معبر إيريز: هذه المتاهة من الأبراج الخرسانية ونظم المراقبة، هذا التكوين الصلب من البنادق والماسحات الضوئية والكاميرات... هو قطعاً أقبح صرح دال على الهيمنة على شعب رأيته يوماً... كل ذلك وقع فجأة في أيدي المقاتلين الفلسطينيين الذين تغلبوا على جنود الاحتلال ومزقوا رايتهم. كيف لا نصرخ من الدهشة والفرح؟ الإحساس نفسه جاء مع مشاهد اقتحام الفلسطينيين السور والجدار واجتياحهم الأراضي التي طُردوا منها. والإحساس نفسه مع تقارير سيطرة المقاومة على مركز شرطة سديروت، تلك المستعمرة «النقية» عرقياً التي شُيّدت على أطلال قرية نجد، المحتلة منذ العام 1948.

كانت تلك هي أولى ردود الفعل التي شاركتها مع الأقرب لي. لكن في المقام الثاني جاء ذعر عظيم. كنا جميعاً نعرف كيف تتصرف دولة إسرائيل وما هو المتوقّع منها. ما لم أضعه شخصياً في الحسبان هو إلى أي مدى سيرمي الغرب بكل ثقله في القتل الجماعي. كان حريّاً بي أن أدرك ذلك بشكل أفضل. لكن بغض النظر عن سذاجتي، أثارت أحداث نصف العام المنقضي من جديد السؤال عن طبيعة هذا التحالف. ما هو بالضبط الشيء الذي يربط دولة إسرائيل بسائر الغرب هذا الرباط الوثيق؟ ما الذي يفسِّر قابلية دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة للانضمام إلى هذه الإبادة الجماعية، ولماذا تشارك الولايات المتحدة إسرائيل هدفها الخاص بتدمير فلسطين؟ هناك تفسير شائع وله شعبية في صفوف بعض أوساط اليسار، وهو قوة اللوبي الصهيوني. سوف أعود إلى هذه النقطة.  

أحد مكوّنات تعريف الإبادة الجماعية هو «التدمير المادي لكل أو جزء» من جماعة مستهدفة من الناس. وفي غزة، يُعدّ التدمير المادي محوراً مركزياً في ما يحدث. في أول شهرين، تعرّضت غزة للتدمير الكامل والتام. قبل نهاية كانون الأول/ديسمبر، ذكرت وول ستريت جورنال أن تدمير غزة يعادل أو يفوق تدمير دريسدن ومدن ألمانية أخرى أثناء الحرالعالمية الثانية. فرانشيسكا ألبانيز من أشجع الأصوات خارج فلسطين، إنها المقرّرة الأممية الخاصة المعنية بالأراضي المحتلة منذ العام 1967. بدأت تقريرها الأخير لرصد الأحداث بالقول «بعد خمسة أشهر من العمليات العسكرية، دمرت إسرائيل غزة»، قبل أن تمضي لتوضح تفصيلاً كيف تعرض كل مقوّم من مقومات الحياة في غزة إلى «التدمير الكامل».1  الصورة الشهيرة التي نراها هي لبيت محطَّم كلياً، مع نبش الناجين بشكل محموم بين الركام. إذا حالفهم الحظ، قد يتمكنون من انتشال صبي أو فتاة تغمرهما الأتربة من تحت كتلة الأنقاض. تشير التقديرات حالياً إلى وجود نحو 12 ألف جثمان لم يتم انتشالها بعد من تحت بيوت غزة المُدمرة.

على الرغم من أن هذه الإبادة الجماعية لم تصل يوماً إلى النطاق الذي نشهده اليوم، فليست هذه أول مرة يتعرض فيها الفلسطينيون لمثل هذا الحدث. يمكن العثور على مخطّط ما يحدث في خطة داليت 1948، وفيها توجيهات للقوات الصهيونية حول فن تدمير القُرى من خلال إحراقها، وتفجيرها، وزرع الألغام في الحطام.2  أثناء النكبة، كان شائعاً أن تغزو تلك القوات قرية في الليل وتدمر البيوت بالديناميت على رؤوس أهاليها. من أوجه تفرّد التجربة الفلسطينية أن هذه العملية لم تتوقف أو تنته. يتكرّر فعل التدمير الأصلي مرة تلو الأخرى: في المجدل في العام 1950، ومنها رُحِّل الناس إلى غزة. في غزة في العام 2024. وبين الفعلين، عدد لا نهائي من التكرارات. لنأخذ منها مثالاً: بيروت في 1982، كما وصفتها ليانة بدر في «شرفة على الفاكهاني» بكلمات قادرة على وصف أية واقعة من الوقائع اللانهائية المذكورة: وأكوام الأسمنت، الحجارة، نثرات الملابس الممزقة، الزجاج المفتت، نتف القطن، شذرات المعدن، البنايات المهدمة والمائلة (...) الغبار الأبيض يمتد إلى الداخل مثل لذعات النبرات الكاوية. البناية الفارغة، دقات المعاول وأصوات الجرف في الخارج (...) اختلطت المعالم. السيارات المقلوبة على ظهرها. الأوراق المتطايرة في السماء. الحريقة الدخان. القيامة.3

إنها نهاية العالم الذي لا ينتهي أبداً: حطام جديد يتراكم دائماً فوق رؤوس الفلسطينيين. التدمير مكوّن رئيسي في تجربة الحياة الفلسطينية لأن جوهر المشروع الصهيوني هو تدمير فلسطين.

لكن هذه المرة، وعلى النقيض من 1948 أو 1950، يحدث تدمير فلسطين على خلفية عملية مختلفة ومتصلة للتدمير: تدمير النظام المناخي لهذا الكوكب. الانهيار المناخي هو عملية التدمير المادي للنظم البيئية، من القطب الشمالي إلى أستراليا. في كتابنا «الحرّ الطويل: سياسة المناخ بعد أن يفوت الآوان» الذي يصدر قريباً من فيرسو في العام 2025، أناقش مع زميلي ويم كارتون بقدر من التفصيل كيف تحدث هذه العملية بشكل سريع. لنأخذ مثالاً: علقت غابات الأمازون في دوّامة من الهلاك قد تحوّلها إلى منطقة سافانا تغيب عنها الأشجار. غابات الأمازون المطيرة قائمة منذ 65 مليون سنة. لكن الآن، في ظرف عقود قليلة، يدفع التغير المناخي - ومعه عمليات زوال الغابات التي تعد الشكل الأصلي والأساسي للدمار الإيكولوجي - منطقة الأمازون نحو نقطة اللاعودة، إذ سينقرض هذا النظام البيئي بعد عبور هذه النقطة. وأنا أكتب هذه الكلمات، تظهر بحوث جديدة تشير إلى جثومنا على حافة هوّة اللاعودة هذه.4  لو فقد حوض الأمازون غابته - وهي فكرة مروعة لكن ممكنة تماماً في المستقبل القريب - فسوف نصبح بصدد نكبة من نوع مختلف. سيكون أول الضحايا بالطبع هم السكان الأصليون والمنحدرون من أصول أفريقية وشعوب أخرى في الأمازون: سيشاهد نحو 40 مليوناً، في السيناريو الأكثر ترجيحاً، النيران تلتهم غاباتهم وتحولها إلى دخان، ومن ثم سيشهدون نهاية عالم.

ليست هذه أول مرة يتعرض فيها الفلسطينيون لمثل هذا الحدث. يمكن العثور على مخطّط ما يحدث في خطة داليت 1948، وفيها توجيهات للقوات الصهيونية حول فن تدمير القُرى من خلال إحراقها، وتفجيرها، وزرع الألغام في الحطام

تتخذ هذه العملية أحياناً صورة مشابهة للغاية لأحداث غزة، وتكون في بعض الحالات على مقربة منها على المستوى الجغرافي. ليلة 11 أيلول/سبتمبر العام الماضي - قبل أقل من شهر على بداية الإبادة الجماعية في غزة - ضربت عاصفةُ دانيال ليبيا. بمدينة درنة شرق البلاد، على شاطئ المتوسط، نحو 1,000 كيلومتر من غزة، قُتل الناس نياماً. فجأة دمّرت قوة من السماء بيوتهم فوق رؤوسهم. بعد ذلك وصفت التقارير كيف ظهرت قطع الأثاث والجثامين عشوائياً من تحت البنايات المهدمة: «لا تزال الجثث تملأ الشوارع، ومياه الشرب قلّت. قتلت العاصفة عائلات كاملة. كما قال أحد أهالي المدينة، كانت كارثة لم يسبق أن شهدوا لها مثيلاً. السكان يبحثون عن جثث قتلاهم، يحفرون بأيديهم وبأدوات زراعية بسيطة». كان هناك فلسطينيون من بين أول المستجيبين، الذين هرعوا إلى موقع الأحداث. قال واحد منهم: «كان الدمار فوق كل تصور (...) تسير عبر المدينة ولا ترى سوى الطين والبيوت المهدمة. رائحة الجثث في كل مكان. (...) عائلات بكاملها محيت أسمائها من السجل المدني. (...) ترى الموت أينما ولّيت».

في خلال زيارة دامت 24 ساعة، أسقطت عاصفة دانيال حملاً من الماء - نحو 70 مرة متوسط الكمية في شهر أيلول/سبتمبر. وكانت درنة تقع على نهر يمر بوادٍ ويتجه إلى البحر، كان دائماً ضيق الضفتين، هذا إن جرى الماء فيه أصلاً. إنه بلد صحراوي. لكن الآن فجأة ارتفع النهر وتفجّر الماء منه عبر سدّين واندفع يكتسح درنة: الماء والترسيبات والركام كالجرافة التي اجتاحت وزأرت عبر المدينة في منتصف ليلة 11 أيلول/سبتمبر... قوّة كاسحة وعنف ضارٍ دفعا البُنى والشوارع إلى المتوسط وحوّلا مركز المدينة - سابقاً - إلى مستنقع موحِل بني اللون. باستخدام نماذج ومنهجيات الطقس الحديثة المُحسّنة، توصّل الباحثون سريعاً إلى أن الفيضانات أصبحت مرجحة 50 مرة أكثر بسبب الاحترار العالمي. وحده هذا الاحترار كان القادر على تحقيق حدث كهذا. في خلال أشهر الصيف السابقة، كانت مياه البحر على شواطئ شمال أفريقيا أدفأ بخمس درجات مئوية ونصف أكثر من المتوسط على مدار العقدين الماضيين. والمياه الدافئة تحمل طاقة حرارية قادرة على التراكم في عاصفة كالنفط في مقذوف صاروخي. قُتل 11,300 نسمة في ليلة واحدة بسبب العاصفة دانيال في ليبيا: أقسى حدث قتل جماعي بسبب تغير المناخ على مدار السنوات العشر الأخيرة، وربما على مدار القرن.

مثّلت هذه المشاهد صورة مذهلة لما حدث في غزة بعد 26 يوماً، لكن هناك صلات مباشرة بين هذا المكان وذاك. لأن فرق الإنقاذ في غزة لها باع طويل في التعامل مع مثل هذا الدمار؛ انتقلت سريعاً إلى درنة لتقديم المساعدة. قُتل في الفيضانات ما لا يقل عن 12 فلسطينياً كانوا قد انتقلوا من غزة إلى درنة. وهناك فلسطيني اسمه فايز أبو عمرة قال لرويترز: «شهدنا نكبتين، نكبة النزوح ثم العاصفة في ليبيا». إذن في تقدير فايز أبو عمرة، فالنكبة الأولى كانت في العام 1948، التي دفعت عائلته و800 ألف فلسطيني آخرين إلى خارج الديار: استقرّت عائلته في مخيم دير البلح، ثم انتقل بعض أبنائها إلى بلدة درنة للابتعاد عن حروب العدوان الإسرائيلية، ثم حلّت النكبة الثانية. فقد فايز أبو عمرة عدداً من أقاربه في العاصفة. نجا هو منها، لأنه اختار البقاء في دير البلح، حيث نُصبت خيام العزاء على الضحايا. ثم وبعد أسابيع قليلة جاءت الإبادة الجماعية. الله وحده يعلم إذا كان فايز أبو عمرة ما زال حياً.

والآن، ونحن نتأمل أوجه التشابه والتشابك بين عمليات الدمار هذه، نرى أيضاً بعض الاختلافات المهمة والكبيرة. القوى التي عصفت بدرنة كانت طبيعتها مختلفة عن تلك التي تقصف غزة. حصّادة الموت المجهولة التي انصبت من السماء على درنة لم تكن قوة جوية، إنما تشبّع متراكم في الغلاف الجوي من ثاني أوكسيد الكربون. لم تكن عند أحد نية مبيّتة لتدمير درنة، كما تنعقد النية في دولة إسرائيل على تدمير غزة. لم يظهر متحدثون باسم الجيش يعلنون التركيز على «أقصى دمار ممكن» أو نواب ليكود يصرخون «اهدموا بيوتهم، اقصفوهم بلا تمييز» عندما تستخرج شركات الوقود الأحفوري سلعها وتقدّمها للإحراق، فهي لا تبيت النية على قتل أحد بعينه. لكنها تعرف أن تلك السلع - من حيث المبدأ - تقتل الناس: قد يكونون في ليبيا أو الكونغو أو بنغلادش، أو في البيرو... لا يهمهم أين.

ليست تلك بالإبادة الجماعية. في كتابنا «التجاوز: كيف استسلم العالم للانهيار المناخي الذي ستنشره فيرسو في تشرين الأول/أكتوبر هذا العام، تأملت مع ويم كارتون فكرة ومصطلح «إبادة الفقراء» (بوبرسايد، على غرار جينوسايد) لفهم ما يجري هنا: التوسع بلا هوادة في البنى التحتية للوقود الأحفوري بما يتجاوز كل الحدود التي تتيح الحياة على الكوكب. الهدف الأساسي لهذا الفعل بحد ذاته لا يشمل قتل أحد. الهدف هو استخراج الفحم أو النفط أو الغاز لجني النقود. لكن ما إن يتضح تماماً أن هذا الشكل من أشكال جني النقود يقتل الناس؛ تبدأ فكرة غياب نيّة القتل في الانحسار. من مبادئ علم المناخ فكرة واضحة وبسيطة لا جدال حولها في الوقت الراهن: الوقود الأحفوري يقتل الناس، عشوائياً، بشكل أعمى، بلا تمييز، بالتركيز بصورة خاصّة على الفقراء في الجنوب العالمي، وهم يُقتلون بأعداد كبيرة كلما استمر الوضع القائم بلا تغيير. عندما يتشبع الغلاف الجوي بثاني أوكسيد الكربون، تصبح قدرة أية كمية إضافية منه على القتل عالية وفي تزايد. الخسائر البشرية الجماعية إذن تصبح مسألة مقبولة أيديولوجياً وذهنياً، كنتيجة مقبولة لتراكم رأس المال. «إذا كنتَ على معرفة مُسبقة بأنك تفعل شيئاً يؤذي أحدهم، إذن فأنت تفعله عن عمد»، كذا قال وكيل الادعاء ستيف شليشر في مرافعته الختامية ضد ديريك شوفين، الذي أدين في ما بعد بقتل جورج فلويد: مع إجراء ما يلزم من تعديل، تنسحب القاعدة نفسها في حالة الوقود الأحفوري وقتله الناس. الحقيقة أن عنف إنتاج الوقود الأحفوري يصبح دموياً وأكثر عمدية مع مرور كل سنة. لنقارن هذا بقصف مخيم جباليا في 25 تشرين الأول/أكتوبر، الذي قتل ما لا يقل عن 126 مدنياً بينهم 69 طفلاً. كان الهدف المعلن لهذا الفعل هو قتل قائد واحد من حماس. هل قصد الاحتلال أيضاً قتل 126 مدنياً أم أنه لم يكن يبالي بهذا النوع من الدمار الجماعي العارض؟ هنا يختلط التعمد مع اللامبالاة. وهنا أيضاً - على جبهة المناخ - التي لا تزال مختلفة نوعياً عن الوضع في فلسطين؛ ولكن ربما الفارق آخذ في التضاؤل .

هل ثمة لحظات معينة تُجسِّد الوحدة بين دمار فلسطين ودمار كوكب الأرض؟ وقصدي بلحظات التجسّد نقاط معينة تؤثر فيها إحدى العمليتين على الأخرى وتشكّلها، في علاقات سببية، أو جدلية تحديد مسار. إجابتي هي نعم، حقاً، لحظات التجسّد هذه مرتبطة في رباط وثيق منذ قرنين. لأنني مُحب للتاريخ، فسوف أعود إلى لحظة بداية هذا الارتباط: 1840. أحداث ذلك العام سيطرت على تفكيري. سبق لي أن قدّمت شذرات عن أحداث ذلك العام هنا وهناك، لكن لم أكتب بعد سرداً متماسكاً عمّا حدث. بدأت أفعل هذا قبل 11 عاماً حين اقتربت من الانتهاء من بحثي للدكتوراه، عندما كتبت «رأس المال الأحفوري» وأدركت أن القضية (1840) تحتاج أطروحة منفصلة، جزء ثانٍ من الكتاب باسم «الإمبراطورية الأحفورية». على مدار الأسابيع الماضية عدت مرة أخرى إلى تلك اللحظة لأستخلص منها التحليل «طويل الأجل» للإمبراطورية الأحفورية في فلسطين. 

كان عام 1840 عاماً فاصلاً في التاريخ بالنسبة للشرق الأوسط والنظام المناخي على حد سواء. شهد العام نشر الإمبراطورية البريطانية للسفن البخارية للمرة الأولى في حرب كبرى. كانت قوة البخار هي التكنولوجيا التي بدأ بها الاعتماد على الوقود الأحفوري: محركات بخارية يسيّرها الفحم، وكان انصهارها بالصناعات البريطانية هو الذي حوّل هذه العملية لأول اقتصاد أحفوري في التاريخ. لكن قوة البخار ما كانت لتؤثر على المناخ إذا بقيت داخل بريطانيا. تصديرها إلى سائر أنحاء العالم ودفع الإنسانية إلى دوامة حرق الوقود الأحفوري على نطاق واسع هما عنصري العملية التي غيّرت بها بريطانيا مصير هذا الكوكب: عولمة البخار كانت المفتاح الضروري. ومفتاح هذه العملية بدورها كان نشر السفن البخارية في الحرب. عبر إطلاق العنف دمجت بريطانيا بلاداً أخرى في اقتصاد عجيب هيأت له وخلقته: لقد حوّلت رأس المال الأحفوري إلى الإمبراطورية الأحفورية.

لو فقد حوض الأمازون غابته - وهي فكرة مروعة لكن ممكنة تماماً في المستقبل القريب - فسوف نصبح بصدد نكبة من نوع مختلف. سيكون أول الضحايا بالطبع هم السكان الأصليون والمنحدرون من أصول أفريقية وشعوب أخرى في الأمازون: سيشاهد نحو 40 مليوناً، في السيناريو الأكثر ترجيحاً، النيران تلتهم غاباتهم وتحولها إلى دخان، ومن ثم سيشهدون نهاية عالم.

في ذلك الوقت كانت بريطانيا أكبر إمبراطورية شهدها العالم يوماً، وقد شُيدت على التفوق البحري، وكان مبعثه تقليدياً قوة الرياح. لكن في عشرينيات القرن التاسع عشر، بدأت البحرية الملكية تفكّر في الدفع بالبخار: حرق الفحم بدلاً من الإبحار اعتماداً على دفع الرياح. الرياح مصدر «متجدد» كما نطلق عليه اليوم، لا ينضب، رخيص، مجاني، لكن له حدوده المعروفة. لا يمكن للقبطان التعويل على فكرة أنه سيهب دائماً بشكل منتظم أينما ولّى. وفي ساحة المعركة، قد تهدأ الرياح وتقيد حركة ومناورات السفن، أو قد تدفعها الرياح القوية بعيداً عن أهدافها، أو تسمح لها بالتقدم بوتيرة بطيئة لا تناسب الهدف المنشود. تحوّلات الرياح المفاجئة قد تعطي الخصم الفرص للإفلات، أو للتجمع وتسديد الضربة. في العمل العسكري، عندما يصبح حشد الطاقة واستخدامها حسب الطلب مسألة ملّحة للغاية، تعد الرياح قوة غير موثوقة. أما البخار فهو يخضع لمنطق آخر: يشتق قوته من مصدر طاقة لا علاقة له بالظروف الجوية، الرياح أو التيارات البحرية أو الموج أو المد والجزر.. الفحم يأتي من مخزون تحت الأرض، هو مجموع ونتيجة وإرث التمثيل الضوئي على مدار مئات الملايين من السنين، وما إن يُخرج إلى فوق سطح الأرض، يمكن حرقه في أي مكان وبأية كمية بحسب طلب من يملكه. القوة الضاربة للبخار إذن يمكن تجميعها واستخدامها على قدر الحاجة. أسطول من مثل هذه السفن يمكن ترتيبه كما يريد له القائد البحري بالضبط: توجيه المدافع وإنزال القوات ومطاردة الخصم بغض النظر عن اتجاه هبوب الرياح. شدّد على هذه الحريات التي يتيحها البخار الأدميرال تشارلز نابيير، أنشط مدافع عن البخار في البحرية الملكية البريطانية، وقد لخّص الأمر بقوله: «السفن البخارية تجعل الرياح لطيفة دائماً» و«اكتسب البخار قوة ضاربة فوق العناصر كلها، يبدو لي أننا الآن نملك كل ما نحتاجه لجعل الحرب البحرية تسير على هوانا تماماً».5  التفوّق على العناصر كان - في التحليل الأخير - خاصية من خواص الطابع المكاني- الزماني للوقود الأحفوري: بسبب انفصاله عن المكان والزمن فوق سطح الأرض، فقد وعد بتحرير الإمبراطورية من الإحداثيات التي راحت القوارب تبحر بموجبها منذ الأبد.

بقية النص على موقع "صفر".

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...