"هذا ليسَ معرضاً": الفنّ في غزة ترفٌ.. وحاجة

تقول بطراوي في اللقاء أن أكثر من 80 في المئة من الأعمال الفنية في غزة فُقدت، بل قد تقارب النسبة المئة في المئة من الأعمال غير معروفة المصير. دُمّر محترف "شبابيك"، البيت الثاني لفناني غزّة، الذي يحتوي على الأقل على عملٍ واحد لكلّ فنان من القطاع، وعلى مجموعات فنية كبيرة، وكذلك دُمر المركز التابع لجامعة دار الكلمة، ومنطقة الغاليريهات والمعارض سُويت بالأرض.
2024-04-04

شارك
صالة العرض لـ"هذا ليسَ معرضاً" (2024) في المتحف الفلسطيني، وعشرات الأعمال لفناني غزة يتوسطها تجهيز "صالونات" للفنانة رنا بطراوي، أو ما يتبقى في الركام من ذكريات وخسارات.
إعداد وتحرير: صباح جلّول

قد لا تتوافّر في أي بقعة من العالم أجمع كمية المعيقات التي تتراكم في وجه فنّان أو شاعرٍ أو حالِم كما تتوافّر هذه في غزّة. نتكلّم هنا عن وضع "ما قبل الإبادة" الحالية والمستمرة والفظيعة، بلا مثيل. أما الآن، فأيّ سؤال سوى سؤال "كيفية البقاء على قيد الحياة"، سِوى سؤال النجاة، يبدو في هذا الظرف ترفاً هائلاً لا يملكه أيّ إنسان في طول غزّة وعرضها. وعلى الرغم من ذلك، يطالعنا مثلاً فيديو من خيمة نزوح في رفح، يجلس فيها الفنان باسل المقوسي، وقد حوّلها ملجأً ومرسماً. تتحلّق حوله مجموعة من الأطفال فيما هو يسيلُ الفحم على الورق موثّقاً يومياتٍ قاتمة للحصار والنزوح والإبادة. يترك ألوانه كلها جانباً أو يوزعها على الأطفال، ويتسلّح بالفحم وحده لأنه "يوصل الفكرة". يعرف المقوسي أن 35 سنة من أعماله اندثر في لحظة، حين قُصف البيت والمرسم، ولا جواب على سؤال "ولكن من أين يأتي الدافع للإمساك بالفحم والورقة البيضاء بعد كلّ هذا؟".

ليس بوسع المرء إلّا أن يفكّر بهذه الإشكاليات عند الاستماع إلى شهادات فناني غزة حول تجربتهم في ظل الإبادة. في لقاء مفتوح للجمهور عبر "زووم"، استضاف المتحف الفلسطيني الفنانة الغزّية رنا بطراوي (1983)، التي عايشت معظم مراحل الحرب الإباديّة الحالية على غزّة، إلى أن استطاعت الخروج من القطاع مؤخراً عبر مصر. تقول بطراوي في اللقاء أن أكثر من 80 في المئة من الأعمال الفنية في غزة فُقدت، بل قد تقارب النسبة المئة في المئة من الأعمال غير معروفة المصير. دُمّر محترف "شبابيك"، البيت الثاني لفناني غزّة، الذي يحتوي على الأقل على عملٍ واحد لكلّ فنان من القطاع، وعلى مجموعات فنية كبيرة، وكذلك دُمر المركز التابع لجامعة دار الكلمة، ومنطقة الغاليريهات والمعارض سُويت بالأرض.

"فاكهة البحر" للفنانة رنا بطراوي (موادّ مختلطة على شبك).

"عشتُ 22 سنة من حياتي في غزة، وتكونت شخصيتي الفنية فيها. منها الإلهام، ومن بحرها الذي أعشقه كثيراً"، تقول الفنانة، وتسترسل في وصفِ بحرٍ هو كل شيء لأهل غزة: البوابة إلى العالم، الوحي والملاذ، المؤْنس للروح والغذاء للبدن: "ما حدا بيزور غزة وبياكل من سمكها وبيلاقي مثله في العالم"... "هذا البحر بحر مش عادي..." يمكن معاينة أثر البحر على هوية أعمال بطراوي الفنية من خلال عدة أمثلة، منها عمل "فاكهة البحر" الذي اعتمد على خامات من مواد الصيادين الغزيين، من شبك الصيد إلى الأسلاك وصولاً إلى الألوان التي قلّدت إلى حد بعيد ألوان تمثال "أبولو" البرونزي الشهير الذي وجده أحد الصيادين في بحر غزة. فالآثار والتحف والأركيولوجيا، إلى جانب البحر، لطالما ألهمت بطراوي ودفعتها لمحاولة تقديم قراءات لرموزها وإعادة صياغة هذه الرموز في أشكال جديدة. تقول رنا بطراوي أنها دائماً ما كانت تفكر بأن هذه القطع معرّضة للاختفاء، لمجرد وجودها في غزة التي تقع تحت عدوانات متكررة، وأنّ ذلك كان دافعاً إضافياً لها للاهتمام بقراءة هذه الآثار.

منحوتة للفنانة رنا بطراوي مستوحاة من آثار غزة

تقرّ الفنانة بشلل جمعي أصاب الفنانين في غزة. "بدي بسّ شلّال الدم يوقف"، تقول. وتنهي حديثها مع المتحف الفلسطيني بالقول: "لنفكر مع بعضنا كيف يمكن لنا أن نجيب بشكل جمعي على هذا الحدث... التقسيم أثّر حتى على رؤيتنا لأنفسنا. علينا التفكير بكيف يساعد ويقوي بعضنا بعضاً. هذا ما يحتاجه أهل غزة اليوم".

عن "هذا ليس معرضاً"

يطبع اللايقين كلّ شيء في غزّة، ويصبغ مصائر البشر – من بقي منهم حياً - والحجر – ما بقي منه واقفاً- وكذلك الأعمال التي سكب فيها فنانو غزة المحاصرون أرواحهم، ومعها القطع التاريخية الشاهدة على حيوات غنية سالفة في تلك البقعة. يشعر الجميع أنهم يحاولون القبض بأصابعهم على أشياء تنزلق بسهولة مجنونة من بين أيديهم، أشياء كانت دليلاً على أنهم هنا عاشوا، وهنا عملوا. في ظلّ كل هذا اللايقين، جاء معرض "هذا ليس معرضاً"، المقام بالتعاون مع "محترف شبابيك للفنّ المعاصر" و"مجموعة التقاء للفنّ المعاصر" في غزة، وهو يضمّ أعمالاً لفناني غزة وخمسة من أعمال رنا بطراوي. في التقديم للمعرض على موقع المتحف الفلسطيني، جاء:

"هذا ليس معرضاً" معرض لا يتقصّد عرض أعمالٍ فنيّةٍ بعينها لفنّانين بعينهم، فلا أحد يملك أن يفعل ذلك الآن، إذ أنّ مجرّد التواصل مع الفنّانين الغزيّين أمر يكاد يكون مستحيلاً، فهم، مثل باقي الناس في غزّة، يجابهون حرب الإبادة الجماعيّة، ويعانون بؤس النزوح والجوع والبرد، وقد تركوا بيوتهم ومراسمهم خلفهم، مدمّرةً أو تنتظر، وقد أودعوا أعمالهم الفنيّة في مهبّ النار والقصف والموت. أمّا من يقطن منهم خارج غزّة، فقلوبهم تنفطر على معاناة أهلهم، أهلنا، ومصائرهم. كلّ هذا يجعل من مجرّد الحديث عن الفنّ الآن يبدو انفصاماً عن الواقع، كما يجعل التفكير في إنجاز معرضٍ بالطُّرق المعهودة ضرًباً من العبث والترف.

لكن، حيث تمعن آلة القتل والدمار في تحويل المشهد العمراني والطبيعي في قطاع غزّة إلى كتلٍ رماديّةٍ لا متناهيةٍ، تلتهم كلّ الألوان والتفاصيل الكبيرة والصغيرة، وحيث يلاحق الموت كلّ أشكال الحياة وأصواتها وتجلّياتها، يقف هذا المعرض، الذي جاءت لوحاته من بيوت الناس في الضفّة، بعد أن أنزلوها من على جدران بيوتهم، شاهداً قويّاً على روح غزّة العظيمة، والتي تعاقبت عليها في العقدَين الأخيرَين الحروب تلو الحروب، وأطبق عليها حصارٌ جائرٌ، ولكنّها كانت دئماً تنهض من جديد...

عرض (الصرخة) لليلى الشوا

مقالات من فلسطين

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....