"أطالِب بنفَسي"... فتحي غبن الذي رسم هويّة البلاد

هو فنان علّم نفسه الرسم بنفسه، ولطالما وُصف بأنه فنان الطبقة الكادحة، عمله "يعكس غضبها" بلا تجميل، كما وصفته المؤرخة الفنية سامية حلبي. وصَف البلاد والإنسان والكفاح ضد الظلامات، فأزعج الاحتلال في فترة كان التضييق فيها على الفنانين في ذروته – ومن جملتهم نبيل عناني وسليمان منصور وغيرهم ممن منع عليهم الاحتلال رسم عناصر فلسطينية وألوان العلم الفلسطيني في لوحاتهم.
2024-03-02

شارك
الفنان فتحي غبن، 1987. (من الأرشيف الرقمي للمتحف الفلسطيني)
إعداد وتحرير: صباح جلّول

لثمان ساعات كل يوم خلال معظم حياته، كان الفنان التشكيلي الفلسطيني فتحي غبن يجالس ألوانه ولوحاته، تصلها أصابعه أحياناً قبل ريشته، فيتصل باللون بلا وسيط، بلا كلفة ولا تكليف. لم يحبّ غبن كل مشتقّات التكلّف. عاش كأنما آمن بالفنّ مخلِّصاً، والباقي سيأتي.. حينما تُحكى سيرته، يأتي ذِكرُ الفقر رفيقاً غليظاً لها، ويحضر الاحتلال قامِعاً أشدّ غِلظة وسفالة من رفقة الفاقة وشظف العيش.

والآن مات الرسام. قتله الاحتلال الإسرائيلي بمنعه من الحصول على العلاج. هذا فنانٌ عاش حياته مطالباً بنفَس. نفَس الإنسان الحرّ، نفَس الرسام المبدع الذي لا يستطيع أن يستمر بدون أوكسيجين الحدّ الأدنى من الدخل الكريم، نفَس الفلسطيني الذي اعتقله وخنقه الاحتلال، وصولاً إلى تلك اللحظة الأخيرة التي طالَب فيها بنفَسٍ حَرفي، بهواء يدخل رئتيه ويجعل الحياة، بأبسط معيار على الإطلاق، ممكِنة.

"بدّيش حاجة. بدّي بسّ أتنفّس"، قال غبن في مقطع مصوّر نشرته ابنته للمطالبة بالسماح لوالدها بالوصول إلى العلاج. وقد فات الأوان فعلاً بعد ذلك التسجيل بأيام قليلة فقط، فارتقى شهيداً يوم 25 شباط/ فبراير 2024. قتله الاحتلال بعرقلته انتقاله إلى خارج غزة، حيث إبادة العصر مستمرة، وقد خَطفت منه ابنه وحفيده وأخاه وأفراداً آخرين من عائلته. وماطلت السلطات الإسرائيلية عمداً في تمرير الموافقة على انتقاله إلى مصر للعلاج، رغم تكرر المناشدات ورغم قبول أوراقه من السلطات الفلسطينية والمصرية، فخُنق فتحي غبن بالقهر وبفقد الأحباء وبالفوسفور الأبيض الذي خطف بقيّة من نفَس.

وُلد غبن قبل النكبة بعام، في 1947 في قرية هربيا، وهُجِّر طفلاً مع عائلته إلى غزة، حيث ترعرع في مخيم جباليا للاجئين. "دفعتني ظروف الحياة الصعبة لترك تعليمي الرسمي في الصف السادس. في تلك السنة، دخلت سوق العمل. الناس تتوقع من الأطفال الفلسطينيين أن يتصرفوا كالرجال ويعيلوا عائلاتهم. وسط هذا كله، مارست هوايتي، الرسم... وبحلول عامي التاسع عشر، كنت متزوجاً، وسرعان ما صرت أباً لثمانية أطفال"، قال غبن في مقابلة صحافية مع مجلة صوت البلد عام 1987.

هو فنان علّم نفسه الرسم بنفسه، ولطالما وُصف بأنه فنان الطبقة الكادحة، عمله "يعكس غضبها" بلا تجميل، كما وصفته المؤرخة الفنية سامية حلبي. وصَف البلاد والإنسان والكفاح ضد الظلامات، فأزعج الاحتلال في فترة كان التضييق فيها على الفنانين في ذروته – ومن جملتهم نبيل عناني وسليمان منصور وغيرهم ممن منع عليهم الاحتلال رسم عناصر فلسطينية وألوان العلم الفلسطيني في لوحاتهم. عام 1984 صادر الاحتلال 7 من لوحات فتحي غبن، واعتقله وحكم عليه بستة أشهر سجن وغرامة مالية، وجُرِّم التداول بلوحته "الهوية"، حتى أن غبن قال أن كل من امتلك نسخة عن الرسم كان عرضة للعقاب الإسرائيلي. وها هو عِقابهم يتجدد على كلّ من قال "لا"، إبادةً، قتلاً، تجويعاً، وخنقاً للنفَس.

أمعِنوا نظراً في لوحة "الهوية"، ألا تنكشف فيها "لا" بحجم كل شعور وكلّ ركن؟

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...