انتهت في الرابع من شباط/ فبراير 2024 الدورة الثانية من انتخابات المجالس المحلية في تونس، وهي المرة الخامسة التي يتجه فيها التونسيون إلى مكاتب الاقتراع في غضون سنة ونصف: استفتاء على الدستور في تموز/ يوليو 2022، وانتخابات تشريعية على دورتين، ودورتا انتخابات للمجالس المحلية. ويفترض أنهم سيتجهون إلى المكاتب للمرة السادسة في خريف 2024 بما أننا دخلنا في السنة الأخيرة من العهدة الرئاسية الأولى لقيس سعيّد. قد يبدو للناظر من بعيد أن البلاد تعيش حياة سياسية مزدهرة، وتخمة ديمقراطية يرفل التونسيون في نعمها، لكن هذا الماراثون الانتخابي، بمثابة ضباب يحجب حقيقة وصول البلاد إلى مفترق طرق خطير فيما يخص الأوضاع السياسية والحقوقية.
"البناء الديمقراطي القاعدي": مسار معقد وجدوى مشكوك فيها
في آذار/ مارس 2022 أصدر الرئيس مرسوماً قضى بحل مجلس نواب الشعب، وبعدها بسنة أعلن عن حل المجالس البلدية المنتخبة، ليتسنى له إطلاق مسار "البناء الديمقراطي القاعدي". هذا المشروع الذي يروج له قيس سعيّد منذ 2011، يتمثل في استبدال "الديمقراطية التمثيلية" القائمة على انتخاب نواب شعب ومستشارين بلديين يصعدون عن دوائر انتخابية تعدادها عشرات أو مئات الآلاف من الناخبين، بديمقراطية "قاعدية" تبدأ من دوائر أقل حجماً، بحيث تغطي أصغر القرى و"العمادات" وتشركها في عملية تصعيد النواب إلى مستويات مختلفة. اضطر قيس سعيّد إلى تأجيل الشروع في البناء القاعدي قليلاً، وأعطى الأولوية لانتخاب مجلس نواب الشعب، حتى يخفف من الضغوط الخارجية والداخلية على السلطة، وللخروج من مرحلة " الإجراءات الاستثنائية"، التي أعلن عنها في تموز/ يوليو 2021، فتم انتخاب مجلس جديد على دورتين في شتاء 2022 – 2023، مع التخلي عن نظام الاقتراع على القوائم واعتماد نظام الاقتراع على الأفراد.
في 22 أيلول/ سبتمبر 2023 انطلق رسميّاً مشروع "البناء القاعدي"، إذ صدرت في اليوم نفسه ثلاثة أوامر رئاسية تحدد معالم الطريق. المرسوم الأول يتعلق بدعوة الناخبين إلى المشاركة في انتخابات أعضاء المجالس المحلية، والثاني يعلن عن تقسيم التراب التونسي على خمسة أقاليم " أفقية" من الشمال إلى الجنوب، يضم كل واحد منها ولاية أو ولايتين ساحليتين (شرق البلاد) والبقية ولايات داخلية (غرب البلاد)، بهدف تقليص الفوارق الاجتماعية-الاقتصادية بين مختلف المناطق، مع التنصيص على أن يكون لكل إقليم مجلس يجتمع كل ستة أشهر في ولاية مختلفة. أما الأمر الرئاسي الثالث فيوضح سير الانتخابات القاعدية. بمقتضى هذا الأمر تقسم البلاد على 2155 دائرة انتخابية، يشكل الفائزون بمقاعدها 279 مجلساً محلياً، وتشكِّل هذه المجالس المحلية دوائر انتخابية تختار كل واحدة منها – بالقرعة - عضواً يمثلها في واحد من المجالس الجهوية ال24، مع تجديد تركيبة المجلس الجهوي كل 3 أشهر! وهذه المجالس الجهوية سينتخب كل واحد منها عضواً يمثله في واحد من مجالس الأقاليم الخمسة.
لا، لم ينتهِ الأمر. في نهاية المطاف، يتم انتخاب الأعضاء ال77 في "المجلس الوطني للجهات والأقاليم"، الذي سيلعب دور غرفة تشريعية وطنية ثانية: نائب منتخب عن كل مجلس إقليم، وثلاثة نواب منتخبون عن كل مجلس جهوي.
سيتكرر هذا المسار الطويل والمعقد من الانتخابات والقرعة كل بضع سنوات، على الرغم من أن السواد الأعظم من التونسيين هجروا مراكز الاقتراع. حوالي مليون تونسي فقط (من جملة أكثر من 9 ملايين ناخب مسجل) أودعوا الصناديق أصواتهم في المحطات الانتخابية الأربع الأخيرة، التي قاطعتها أغلب أحزاب المعارضة، مما يعني أن "القواعد" غير متحمسة "للديمقراطية القاعدية" أو أنها لم تستوعب أصلاً الهدف منها.
السلطة التنفيذية تتشخصن وتتغول
في السابع من شباط/ فبراير 2024 أرسل رئيس الجمهورية هدية إلى رئيس حكومته أحمد الحشاني، تمثّلت في نسخة من وثيقة تاريخية صدرت في شباط/ فبراير 1860: "قانون ترتيب خدمة الوزارة الكبرى". وعبّرت رئاسة الحكومة عن افتخارها بالهدية في بلاغ قالت فيه: "يمثل قانون خدمة الوزارة الكبرى منعرجاً حاسماً في هيكلة الدولة التونسية وتنظيم دواليبها على أسس عقلانية وشاملة، ومرْكزة القرارين السياسي والإداري". طبعاً لم يفت العارفين بتاريخ البلاد أن الوثيقة كان قد أصدرها "محمد الصادق الباي" حاكم تونس عندما كانت مملكة بلا دستور، وأن "الوزير الأكبر" لم تكن له أي استقلالية عن الحاكم الحقيقي والمطلق، ويمكن أن يُعيَّن أو يعزَّل حسب مزاج "الباي". لا نستطيع الجزم بنوايا الرئيس من خلف الهدية، لكنه في كل حال وبمقتضى دستور تموز/ يوليو 2022 هو رئيس السلطة التنفيذية لا ينازعه فيها أحد، على عكس دستور 2014 الذي قسم السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، مع صلاحيات أكبر للثاني. وهو عيّن رئيسين للحكومة، والاثنان موظفان كبيران استقْدما من الإدارة العمومية من دون أن تكون لهما تجربة سياسية سابقة.
فضلاً عن رئاسته للجمهورية وقيادته للقوات المسلحة وترؤسه مجلس الوزراء في عدة مناسبات واستئثاره بعرض المبادرات التشريعية وتمتعه بسلطة القرار في تفاصيل الحركة القضائية السنوية، فإن الرئيس سعيّد في اجتماعاته وتحركاته اليومية وزياراته الميدانية المكثفة للمؤسسات والمنشئات العمومية والأسواق وتصريحه برأيه في كل المسائل، يعطي الانطباع بأن كل الملفات الكبيرة والصغيرة تمر عبره حتى يكاد شخصه ومنصبه يختزلان الدولة كلها.
لم يكتف الرئيس سعيّد بالعودة إلى النظام الرئاسي الصلب، بل استطاع تحجيم السلطة التشريعية، بعد أن سحب من مجلس نواب الشعب صلاحيات ترشيح رئيس الحكومة والمصادقة على تشكيلة الحكومة وإمكانية محاسبتها وحتى إسقاطها، وكذلك عبر فرض نظام الاقتراع على الأفراد لا القوائم مما أفرز مجلساً من الأفراد يصعب تحالفهم في كتل برلمانية قوية، وليست لديهم أحزمة سياسية تسندهم خارج البرلمان، ولا تمثيلية داخل الحكومة. شرع البرلمان الجديد، المشكل أساساً من مناصرين "مستقلين" لقيس سعيّد، في عمله في آذار/ مارس 2023، وأظهر منذ الأيام الأولى انسجاماً شبه كامل مع رئيس الجمهورية والحكومة و"مسار 25 جويلية". بعد سنة من الأشغال، صادق المجلس على 24 مشروع قانون، كلها مبادرات تشريعية قدمتها رئاسة الجمهورية (وهي تحظى بأولوية النظر حسب ما نص عليه الدستور)، أي ان البرلمان لم يمرر بعد أي واحد من مقترحات القوانين المقدمة من طرف النواب (عددها 14).
جدل تونسي غير عقيم حول الشعبوية
19-07-2022
أما السلطة القضائية فالحديث عنها ذو شجون. في الأسابيع الأولى التي تلت " الإجراءات الاستثنائية" المعلنة في " 25 جويلية 2021"، استغلت السلطة الغضب الشعبي من القضاء والشعور السائد بأن هناك عدداً كبيراً من القضاة الفاسدين والمتواطئين مع متهمين في جرائم خطيرة تمس الأمن القومي، لتُطلق حملات "تطهير"، اتخذت في كثير من الأحيان طابعاً سياسياً واضحاً. بدأ الأمر بوضع 45 قاضياً وقاضية تحت الإقامة الجبرية، ثم تفاقمت الأمور تدريجياً. ففي 12 شباط/ فبراير 2022 حلّ قيس سعيّد المجلس الأعلى للقضاء، وعوضه بمجلس مؤقت يعين رئيس الجمهورية فيه 9 من أعضائه ال21. ثم منح الرئيس نفسه من خلال مرسوم رئاسي صادر في الأول من حزيران/ يونية 2022 إمكانية إعفاء القضاة من مناصبهم بأمر رئاسي من دون المرور بمجلس القضاء. وفي اليوم نفسه أصدر أمراً رئاسياً يقضي بعزل 57 قاضياً وقاضية دفعة واحدة، حتى أن بعض الحقوقيين اعتبروا ما حدث النسخة التونسية من "مذبحة القضاة" المصرية. لم ترفق قرارات العزل بمبررات، مما أطلق حملة اتهامات وهتك للأعراض، تعززت بعد حديث رئيس الجمهورية عن "قضاة يعقدون جلسات خمرية مع مشبوهين"، و"قاضيات زانيات". والجدير بالذكر أن المحكمة الإدارية قررت وقف قرار العزل، لأن النيابة العمومية لم تقم بتتبعهم قضائياً، لكن السلطة التنفيذية لم تمتثل لقرار المحكمة الإدارية، بل رفعت ضد القضاة المعنيين أكثر من 100 قضية!
لكن ماذا عن "السلطة المضادة"؟
إزاء تصلب السلطة التنفيذية وهيمنتها المعنوية والقانونية على السلطتين التشريعية والقضائية، انتظر كثيرون ردة فعل أقوى، من قبل المعارضة السياسية وبقية السلطات المضادة، مثل المجتمع المدني والنقابات ووسائل الإعلام. لكن يبدو أن هامش حركة هذه "السلطات" محدود كثيراً.
• معارضة محاصرة ومنبوذة ومشتتة
يقبع حالياً في سجون تونس خمسة أمناء عامين لأحزاب معارِضة، ومعهم عدد من الناشطين السياسيين بتهم مختلفة: تآمر على أمن الدولة، تبييض أموال، تلقي تمويل أجنبي، السعي إلى تغيير هيئة الدولة وحث السكان على التقاتل، ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة، الاعتداء على أمن الدولة الداخلي، دعم وتمويل أنشطة إرهابية، والقائمة تطول. وهناك عشرات آخرون، يحاكمون في حال سراح أو غيابياً لأنهم خارج البلاد، فضلاً عن الممنوعين من السفر، والموضوعين تحت الإقامة الجبرية. ولئن استأثرت حركة النهضة الإسلامية بالنصيب الأكبر من الاعتقالات، فإن طيف المعتقلين والملاحَقين يضم يساريين وليبراليين وناشطين من عائلات سياسية أخرى. كثير من الموقوفين متهمون بقضايا مختلفة في الوقت نفسه، وتبقى "قضية التآمر على أمن الدولة" أخطر القضايا التي تتهدد قيادات المعارضة.
فضلاً عن رئاسته للجمهورية وقيادته للقوات المسلحة وترؤسه مجلس الوزراء في عدة مناسبات واستئثاره بعرض المبادرات التشريعية وتمتعه بسلطة القرار في تفاصيل الحركة القضائية السنوية، فإن الرئيس سعيّد في اجتماعاته وتحركاته اليومية وزياراته الميدانية المكثفة للمؤسسات والمنشئات العمومية والأسواق وتصريحه برأيه في كل المسائل، يعطي الانطباع بأن كل الملفات الكبيرة والصغيرة تمر عبره حتى يكاد شخصه ومنصبه يختزلان الدولة كلها.
حرية التعبير في تونس تواجه اختباراً قاسياً، مع تواتر لجوء السلطة إلى ما أسمته جمعية "تقاطع من أجل الحقوق والحريات" ب"عائلة القمع"، وهي مجموعة من الفصول القانونية، التي يمكن تفعيلها وتأويلها بسهولة لمعاقبة من يوجه نقداً حادّاً للسلطات المدنية أو الأمنية أو يسخر منها.
ولعل ما هو أقسى من الملاحقات القضائية والخطاب الرسمي التخويني، هو ما تعيشه المعارضة من نفور شعبي، يصل إلى حد التشفّي. ففي تونس مزاج شعبي سائد يحمِّل كل الأحزاب التي كانت ظاهرة في المشهد السياسي – مهما كان موقعها من الحكم وانتماؤها الأيديولوجي - خلال "العشرية السوداء" (التسمية التي يطلقها أنصار قيس سعيّد على فترة 2011 – 2021) المسؤولية عما آلت إليه أوضاع البلاد من تأزم اقتصادي واستشراء للفساد وإقحام البلاد في محاور إقليمية وهيمنة المال السياسي. حتى حركة النهضة التي صوّت لها حوالي مليون ونصف مليون تونسي في 2011 لم تعد قادرة على تعبئة الشارع، ولعل ذلك خيار تكتيكي لتجنب مواجهة واسعة وعنيفة مع السلطة، قد تكلفها خسائر كبرى، خبرتها في ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت. ويبدو أنها تفضّل حالياً اللجوء إلى التكتيك الذي اعتمدته في بداية الألفية: الدخول في ائتلافات سياسية موسعة والاحتماء بالمنظمات الحقوقية. وفي حين قبلت بعض الأحزاب والشخصيات والائتلافات المدنية العمل المشترك مع حركة النهضة ضمن "جبهة الخلاص الوطني" التي تأسست في أيار/ مايو 2022، ترفض عدة أحزاب يسارية وليبرالية التحالف مع الإسلاميين، وتفضِّل المعارضة بشكل مستقل، أو ضمن ائتلافات أخرى، مثل "تنسيقية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية"، و"منتدى القوى الديمقراطية".
• المجتمع المدني على صفيح ساخن
في أغلب المحن التي عاشتها المعارضة في تونس منذ السبعينيات الفائتة، وجدت سنداً مهماً من الجمعيات والمنظمات المدافعة عن الحقوق والحريات. واليوم أيضاً يجد الطرفان نفسيهما في معركة مشتركة. مع انغلاق مجال العمل السياسي والمدني تدريجياً منذ تموز/ يوليو 2021، ورفض شق واسع من التونسيين لأي "تشويش" على الرئيس "المنقِذ"، تراجعت دينامية المنظمات الحقوقية وحتى "مقبوليتها" لدى الرأي العام. وبدأت تعيش حالاً من الحصار والتأليب كلما حاولت التصدي لما تراه انتهاكات تمس الناشطين السياسيين والحقوقيين والقضاة والصحافيين، وعودة إلى الوراء في مجال الحقوق والحريات. بعدها بدأت حملات من الشيطنة للمنظمات التي عبرت عن رفضها للخطابات والممارسات الرسمية والشعبية تجاه المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء.
اتُهمت كثير من المنظمات بخدمة مخططات أوروبية وافريقية لتوطين المهاجرين في تونس، و"تغيير تركيبتها الديمغرافية" مقابل تمويلات ضخمة. التمويل الأجنبي والعمالة للخارج والارتباط بأحزاب سياسية صارت دعامات للخطابين الرسمي والشعبي المناهضين للمنظمات الحقوقية. وكانت الحكومة قد أعلنت في كانون الأول/ ديسمبر 2023 عن تشكيلها لجنة ستشتغل على مشروع قانون جديد للجمعيات، مع التركيز على مسألتي التمويل وتبييض الأموال. ويتخوف كثير من الناشطين المدنيين من أن يكون هذا القانون خطوة أخرى في مسار المحاصرة.
لم ترفق قرارات عزل القضاة بمبررات، مما أطلق حملة اتهامات وتناول للأعراض، تعززت بعد حديث رئيس الجمهورية عن "قضاة يعقدون جلسات خمرية مع مشبوهين"، و"قاضيات زانيات". والجدير بالذكر أن المحكمة الإدارية قررت وقف قرار العزل، لأن النيابة العمومية لم تقم بتتبعهم قضائياً، لكن السلطة التنفيذية لم تمتثل لقرار المحكمة الإدارية، بل رفعت ضد القضاة المعنيين أكثر من 100 قضية!
يقبع حالياً في سجون تونس خمسة أمناء عامين لأحزاب معارِضة، ومعهم عشرات الناشطين السياسيين بتهم مختلفة: تآمر على أمن الدولة، تبييض أموال، تلقي تمويل أجنبي، السعي إلى تغيير هيئة الدولة وحث السكان على التقاتل، ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة، الاعتداء على أمن الدولة الداخلي، دعم وتمويل أنشطة إرهابية.
حتى الاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة الأكبر في تونس وصاحبة التاريخ النضالي الطويل، يعيش اليوم أزمة حادة ومتعددة الأبعاد، تمنعه من لعب دور مهم في المشهد التونسي. لئن دعمت قيادة اتحاد الشغل "إجراءات 25 جويلية" والرئيس سعيّد بشكل واضح خلال الأشهر الأولى، فإن العلاقة بدأت تتوتر منذ مطلع سنة 2022، مع توضح رؤى قيس سعيد في إدارة الشأن العام بشكل فردي لا يترك مجالاً كبيراً للأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات.
يعيش الاتحاد منذ سنة 2021 أزمة داخلية حادة، على خلفية تعديل القانون الداخلي للمنظمة، بهدف السماح للأمين العام الحالي، بالظفر بعهدة ثالثة في المكتب التنفيذي بعد أن كان الفصل 20 يحدد العهدات بواحدة قابلة للتجديد مرة واحدة فقط . هذه النقطة أحدثت شرخاً داخل المنظمة، وجعلت كثيرين لا يعيرون مصداقية لقيادة الاتحاد عندما تتحدث عن الديمقراطية في تونس. بالإضافة إلى كل هذا، هناك انقسام واضح في هياكل المنظمة النقابية، من القواعد إلى المكتب التنفيذي حول الموقف من قيس سعيّد و"مسار 25 جويلية": التيارات العروبية أغلبها مسانِد بوضوح للسلطة، في حين تتنوع مواقف الأحزاب اليسارية ما بين الولاء و"المساندة النقدية" والصدام.
• حرية الصحافة والتعبير: كمية الأوكسيجين تتضاءل
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 أصدرت وحدة الرصد في مركز السلامة المهنية التقرير السنوي السابع حول سلامة الصحافيين خلال العام الذي فات. ومن جملة ما ورد فيه نجد تسجيل وقوع 210 اعتداءات على صحافيين. هذا بعض ما عانتْه الصحافة في تونس في السنوات الأخيرة. وهو هَمٌّ جديد (نسبياً، فلطالما كانت هناك اعتداءات وانتهاكات منذ 2011) يلحق هموماً أخرى تتعلق بالظروف المادية للصحافيين وأشكال التشغيل الهش وهيمنة المحتوى الترفيهي الرديء على حساب العمل الصحافي الجاد والمتميز.
مع انغلاق مجال العمل السياسي والمدني تدريجياً منذ تموز/ يوليو 2021، ورفض شق واسع من التونسيين لأي "تشويش" على الرئيس "المنقِذ"، تراجعت دينامية المنظمات الحقوقية وحتى "مقبوليتها" لدى الرأي العام. وبدأت تعيش حالاً من الحصار والتأليب كلما حاولت التصدي لما تراه انتهاكات تمس الناشطين السياسيين والحقوقيين والقضاة والصحافيين، وعودة إلى الوراء في مجال الحقوق والحريات.
تحذِّر المعارضة والمنظمات الحقوقية في تونس، من أن البلاد تسير بخطى حثيثة نحو الديكتاتورية الصريحة. وإنْ كان كثير من التونسيين يساندون قيس سعيّد خوفاً من العودة إلى حكم إسلاميي حركة النهضة، فإن جزءاً مهمّاً منهم يرى أن الديمقراطية والحريات ليست أولويات، وأن الأمر الأكثر استعجالاً هو الخروج من الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية الخانقة.
في 2 شباط/ فبراير 2024 أصدرت مختلف الهياكل المهنية الفاعلة في قطاع الإعلام وعلى رأسها النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين بياناً نددت فيه ب"تراجع واقع الحريات الصحافية"، وطالبت ب"إنهاء التنكيل بالهيئة التعديلية"، و"إنهاء سياسة ملاحقة الصحافيين وتخويفهم وفق قوانين تتعارض مع جوهر المهنة الصحافية وطرق تنظيمها".
الصحافة في تونس: أزمةٌ متعددة الأبعاد
02-06-2022
وإذا كانت الصحافة أول المتضررين من الوضع السائد بحكم حيوية حرية التعبير في إنجاز العمل، فإن الضرر يشمل أيضاً السياسيين والناشطين المدنيين والمدونين والمثقفين وحتى المواطنين "البسطاء" الذين ينتقدون مسؤولين أو سياسات بمنشورات على الفيسبوك أو غرافيتي في الشارع. حرية التعبير في تونس تواجه اختباراً قاسياً، مع تواتر لجوء السلطة إلى ما أسمته جمعية "تقاطع من أجل الحقوق والحريات" ب"عائلة القمع"، وهي مجموعة من الفصول القانونية، التي يمكن تفعيلها وتأويلها بسهولة لمعاقبة من يوجه نقداً حادّاً للسلطات المدنية أو الأمنية أو يسخر منها.
***
تحذِّر المعارضة والمنظمات الحقوقية في تونس، من أن البلاد تسير بخطى حثيثة نحو الديكتاتورية الصريحة. وإنْ كان كثير من التونسيين يساندون قيس سعيّد خوفاً من العودة إلى حكم إسلاميي حركة النهضة، فإن جزءاً مهمّاً منهم يرى أن الديمقراطية والحريات ليست أولويات، وأن الأمر الأكثر استعجالاً هو الخروج من الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية الخانقة، ويعلقون آمالاً كبيرة في هذا الصدد على رئيس الجمهورية، الذي يسير في طريق معبّدة نحو عهدة رئاسية ثانية. فهل هذه الآمال في محلها؟