لا يتوقف نزف غزّة البشري. ثلاثون ألفاً وأكثر قُتِلوا، كانوا يسكنون في تلك الشوارع التي سويّت بالأرض، وغيرهم من الأحياء الذين تتفاقم معاناتهم كل لحظة، يتحرّكون في فضاء أحياء قطاع غزة، فلا يعرفونها، فيقتلهم ذلك معنوياً وهم أحياء.. تتكاثر المخيمات وتقل الشوارع والبنايات والمعالم المميزة.. قالوا أن غزّة أعادت طرح مفهوم الـ Domicide أو "تدمير المنزل"، بمعنى تدمير كل ما يسكنه الإنسان من أماكن خاصة وعامة، كلّ ما هو ضروري له، كل ما هو مألوف ومهمّ له، بشكل يجعل ذلك المكان غير قابل للحياة. قتلت إسرائيل الإنسان في غزة، وبأبشع الطرق، لكنها أيضاً قتلت عمداً المكان لتمعن في مزيدٍ من القتلِ للإنسان..
آثار غزة الشاهدة على أزمانها
22-09-2022
من غزة المحاصرة والمُبادة، نداء للتحرير
23-11-2023
ومما هو مِلك الإنسان الغزّي وعزيزٌ عليه، الجامع والكنيسة والمتحف والأسواق والآثار، ولذلك فهذه أيضاً كانت على لائحة أهداف كارهي الجمال وممقتي التاريخ. حسب المكتب الإعلامي لحكومة غزة، دمّر الجيش الإسرائيلي أكثر من 200 موقع أثري من أصل 325 موقعاً مسجّلاً في قطاع غزة خلال العدوان الحالي المستمر على القطاع (وذلك حتى أول كانون الثاني/ يناير 2024). بعض هذه المواقع القديمة والأثرية يعود إلى العصرين الفينيقي والروماني، وبعضها يعود تاريخه إلى ما بين 800 قبل الميلاد و1400 قبل الميلاد.
دمّر الاحتلال المسجد العمري الكبير، المسجد الأكبر والأقدم في غزّة، الذي وُضعت أسسه منذ 1400 عام. قُصف أولاً في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، مَما أدى إلى تدميره جزئياً وانهيار مئذنته، وأعادت الطائرات الإسرائيلية قصفه في كانون الأول/ ديسمبر 2023 مُحدِثة دماراً أكبر فيه.
كذلك قُصفت الكنيسة البيزنطية في جباليا ومقام الخضر في دير البلح وسط قطاع غزة ومقبرة البلاخية البيزنطية (أنثيدون فلسطين) شمال غرب مدينة غزة. وأضاف المكتب الإعلامي أن مواقع أخرى تعرضت لأضرار جسيمة، بما في ذلك كنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس (وهي ثالث أقدم كنيسة في العالم)، وبيت السقا الذي يبلغ عمره 400 عام، كما تعرّض مسجد السيد هاشم لأضرار في السقوف والحوائط (ويُقال أن به قبر جدّ النبي محمد، الذي توفي في غزة أثناء رحلة تجارة وتكنّى غزّة باسمه "غزّة هاشم")، وهو مسجدٌ يعود بناؤه للعصر المملوكي...فغزّة التي لا تزيد مساحتها عن 364 كيلومتراً مربعاً هي شديدة الغنى بالآثار، فهي من مدن العالم القديم التي توالى عليها حكم المصريين القدماء والإغريق والرومان والبيزنطيين والعثمانيين وغيرهم.
بحسب موقع "جريدة الفن"، تعرض متحف القرارة الثقافي جنوبي القطاع لأضرار جسيمة، وفقد أغلب مجموعته الفخارية من العصر البيزنطي، بينما تعاني وزارة السياحة والآثار والمعنيون بشكل كبير لجمع المعلومات ومعرفة الحالة الحقيقية للأماكن الثقافية والأثرية. الأكيد أنّ المقبرة الرومانية التي تعود لألفي عام، والتي اكتُشِفت العام الماضي في شمال غزة، دُمّرت بشكل شبه كامل في القصف، بحسب الوزارة، ولا معلومات عن حالة التوابيت الرصاصية النادرة التي اكتشفت فيها.
دور الطباعة والنشر، مكتبة ومطبعة المقداد، مركز رشاد الشوّا الثقافي، الجامعة الإسلامية في غزة، وعشرات المدارس، وبالطبع المستشفيات التي كانت في طليعة الأهداف الإسرائيلية، جميعها أكلها العصف والقصف. يقتلون إنسان غزة ويقتلون أسباب حياته. يقتلون البشر، ويحاولون بشتّى الطرق محوَ الأثر...