حالة نموذجية من الإبادة الجماعية

طابع الإبادة الجماعية في الهجوم الذي تشنه إسرائيل على غزة صريح وشفاف ووقح للغاية. بصفة عامة، لا يفصح مرتكبو الإبادة الجماعية عن نواياهم بمثل هذا الوضوح، حتى وان كانت هناك استثناءات. على سبيل المثال ارتكب المستعمِرون الألمان إبادة جماعية في مطلع القرن العشرين رداً على انتفاضة السكان الأصليين من شعوب "الهيريرو" و"الناما" في "جنوب غرب إفريقيا"...
2023-10-21

راز سيغال

أستاذ مبْرَز في دراسات الهولوكوست وعمليات الابادة الجماعية في جامعة ستوكتون، كاليفورنيا


شارك
يبحثون بين انقاض منازلهم في غزة

راز سيغال*

ترجمه من الفرنسية محمد رامي عبد المولى

أمرت إسرائيل، يوم الجمعة 13 تشرين الأول/أكتوبر2023 السكان المحاصَرين في الجزء الشمالي من قطاع غزة بإخلائه والنزوح نحو الجنوب، منذرة إياهم بأنها ستصعِّد من حدة هجومها على المنطقة الشمالية للقطاع. دفعت هذه الأوامر أكثر من مليون شخص، نصفهم من الأطفال، إلى سباق محموم وفوضوي الى الفرار وسط القصف المتواصل في جيب معزول تطوقه الجدران، وحيث لا توجد أي وجهة آمنة. وكما كتبت من غزة الصحافية رويدة كمال عامر: "بدأ اللاجئون من الشمال في الوصول فعلاً إلى خان يونس حيث ما زالت الصواريخ تتساقط، وحيث لم يعد لدينا غذاء ولا ماء ولا كهرباء". وكانت الأمم المتحدة قد نبهت إلى ان فرار السكان من الجزء الشمالي لغزة إلى الجنوب ستكون له "عواقب إنسانية مدمِّرة" و"سيتحول ما هو بالفعل مأساة إلى وضع كارثي". طيلة الأسبوع، قتل العنف الذي تسلطه إسرائيل على غزة أكثر من 1800 فلسطينية وفلسطيني، وجرح الآلاف منهم وهجر 400000 شخص داخل القطاع. ومع ذلك وعد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اليوم بأن ما شاهدناه "ليس إلا البداية".

الحملة التي تشنها إسرائيل لإجبار الغزاويين على ترك بيوتهم - مع احتمال تهجيرهم تماماً إلى مصر- هي فصل جديد من "النكبة" التي اقْتْلع خلالها حوالي 000 750 فلسطيني من بيوتهم اثناء حرب 1948 التي انتهت بقيام دولة إسرائيل. لكن الهجوم على غزة يمكن أن يُفهم أيضاً من منظور آخر: حالة نموذجية من الإبادة جماعية تجري أمام أعيننا.

أقول هذا بصفتي خبيراً في موضوع الإبادة الجماعية، قضى سنوات طويلة في الكتابة حول العنف الجماعي الشامل الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين. كتبتُ عن الاستعمار الاستيطاني وسياسة التفوق اليهودي في إسرائيل، والانحراف بالمحرقة اليهودية - الهولوكوست- لتوظيفها في تدعيم الصناعة العسكرية الإسرائيلية، وتوظيف الاتهامات بمعادة السامية كسلاح لتبرير العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيات والفلسطينيين، ونظام "الأبرتهيد" الإسرائيلي العنصري.

الآن، وبعد هجوم حماس يوم السبت (7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023) وقتل أكثر من 1000 إسرائيلي، فإن أسوء السيناريوهات هي بصدد الحدوث.

الحملة التي تشنها إسرائيل لإجبار الغزاويين على ترك بيوتهم - مع احتمال تهجيرهم تماماً إلى مصر- هي فصل جديد من "النكبة" التي اقْتْلع خلالها حوالي 000 750 فلسطيني من بيوتهم اثناء حرب 1948 التي انتهت بقيام دولة إسرائيل. لكن الهجوم على غزة يمكن أن يُفهم أيضاً من منظور آخر: حالة نموذجية من الإبادة جماعية تجري أمام أعيننا. 

الرئيس الأمريكي "جو بايدن" اعتبر هجوم حماس "من أعمال الشر المطلق" أو كفعل يعكس "شراً قديماً" حسبما قالت رئيسة المفوضية الأوروبية "اورسولا فون دير لاين". هذا الخطاب الذي يجرِّد الناس من انسانيتهم مُهندَس بوضوح لتبرير التدمير واسع النطاق للحيوات الفلسطينية. 

يُعرِّف القانون الدولي جريمة الإبادة الجماعية بأنها "النيّة بالتدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية بصفتها تلك"، كما تشير الى ذلك اتفاقية "منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية" التي اعتمدتها الأمم المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 1948. عبر هجومها المميت على غزة، أفصحت إسرائيل عن نواياها بصوت عال وقوي. وزير الدفاع يوآف غالانت أعلنها بعبارات واضحة: "نفرض حصاراً كاملاً على غزة. لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق. نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك". 

عزز القادة الغربيون هذا المنطق العنصري عبر توصيفهم لقتل المدنيين الإسرائيليين من قبل "حماس - وهي جريمة حرب حسب القانون الدولي، وقد أثارت تقززاً وصدمة صائبين في إسرائيل وفي كل انحاء العالم - باعتباره "من أعمال الشر المطلق" على حد تعبير الرئيس الأمريكي "جو بايدن"، أو كفعل يعكس "شراً قديماً" حسب المصطلحات التي استعملتها رئيسة المفوضية الأوروبية "اورسولا فون دير لاين". هذا الخطاب الذي يجرِّد الناس من انسانيتهم مهندَس بوضوح لتبرير التدمير واسع النطاق للحيوات الفلسطينية. فالتأكيد على "الشر"، في إطلاقيته، التفاف على التمييز الموجود بين مناضلي حركة "حماس" والمدنيين الغزاويين، وتجاهل للسياق الأوسع، أي الاستعمار والاحتلال.

أكدت منظمة "هيومان رايتس ووتش" ان الأسلحة المستخدَمة تشمل قنابل فسفورية تضرم النار في الأجساد والبنايات محدثة لهباً لا يمكن اخماده باستعمال المياه. وهذا يبين بوضوح ما يعنيه "غالانت" بقوله "التصرف وفق ذلك"، فهو لا يقصد استهداف مقاتلي حركة "حماس"، بل إطلاق العنان لعنف مميت ضد الفلسطينيين في غزة "بصفتهم هذه"، وفق مصطلحات اتفاقية الأمم المتحدة حول الإبادة الجماعية.

"القناة 12" الإخبارية الأكثر مشاهدة في إسرائيل بثت تقريراً حول الإسرائيليين اليساريين الذين ينادون "بالرقص على أنقاض وأطلال غزة". في الاثناء، صارت الأفعال المشْتقة من معجم الإبادة الجماعية - والداعية إلى "محو" و"إزالة" غزة - دائمة الحضور في شبكات التواصل الاجتماعي الإسرائيلية. وشاهدنا في تل أبيب يافطة معلّقة فوق جسر، كُتب عليها "صفر غزاويين". 

وَضعت اتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بالإبادة الجماعية قائمة بخمسة أفعال ينطبق عليها تعريف هذه الجريمة. تقترف إسرائيل ثلاثة منها في غزة حالياً: "1) قتل أعضاء من جماعة مجتمعية محددة. 2) التسبب في الحاق أذى بدني أو معنوي جسيم بأعضاء من هذه الجماعة 3) إخضاع هذه الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً". قام سلاح الجو الإسرائيلي بإلقاء أكثر من 6000 قنبلة، حسب أرقامه الخاصة، على غزة خلال أقل من أسبوع – وهي واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم- أي أكثر من عدد القنابل التي ألقتها أمريكا على كامل أفغانستان خلال أي سنة من سنوات الحرب التي خاضتها هناك.

أكدت منظمة "هيومان رايتس ووتش" ان الأسلحة المستخدَمة تشمل قنابل فسفورية تضرم النار في الأجساد والبنايات محدثة لهباً لا يمكن اخماده بمجرد استعمال المياه. وهذا يبين بوضوح ما يعنيه "غالانت" بقوله "التصرف وفق ذلك"، فهو لا يقصد الاستهداف الفردي لمقاتلي حركة "حماس" بل إطلاق العنان لعنف مميت ضد الفلسطينيين في غزة، “بصفتهم هذه" اذا ما أردنا استخدام مصطلحات اتفاقية الأمم المتحدة حول الإبادة الجماعية. كما زادت إسرائيل من حدة الحصار الذي تضربه على غزة منذ 16 عاماً - الأطول في التاريخ المعاصر، وهو انتهاك صارخ للقوانين الإنسانية الدولية - لتمّر إلى "حصار كامل" على حد تعبير "غالانت". هذا الاختيار للكلمات يشير بشكل صريح إلى وجود خطة للمضي بالحصار إلى أقصاه في التحطيم الممنهج للفلسطينيين والمجتمع الفلسطيني في غزة، عبر تقتيلهم وتجويعهم وقطع المياه عنهم وقصف مستشفياتهم. ولا يقتصر استعمال مثل هذا المعجم على قادة إسرائيل. طالب رجل حاورته "القناة 14" - الإسرائيلية المساندة لنتنياهو- إسرائيل "بتحويل غزة إلى درسدن" (1). أما "القناة 12" – الإخبارية الأكثر مشاهدة في إسرائيل - فقد بثت تقريراً حول الإسرائيليين اليساريين الذين ينادون "بالرقص على أنقاض وأطلال غزة". في الاثناء، صارت الأفعال المشْتقة من معجم الإبادة الجماعية - والداعية إلى "محو" و"إزالة" غزة - دائمة الحضور في شبكات التواصل الاجتماعي الإسرائيلية. وشاهدنا في تل أبيب يافطة معقلة فوق جسر، كتب عليها "صفر غزاويين".

يُعرِّف القانون الدولي جريمة الإبادة الجماعيةgenocide - -بأنها "النيّة بالتدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية بصفتها تلك". وزير الدفاع يوآف غالانت أعلنها بعبارات واضحة: "نفرض حصاراً كاملاً على غزة. لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق. نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك".

في الواقع، طابع الإبادة الجماعية في الهجوم الذي تشنه إسرائيل على غزة صريح وشفاف ووقح للغاية. بصفة عامة، لا يفصح مرتكبو الإبادة الجماعية عن نواياهم بمثل هذا الوضوح، حتى وان كانت هناك استثناءات. على سبيل المثال ارتكب المستعمرون الألمان إبادة جماعية في مطلع القرن العشرين رداً على انتفاضة السكان الأصليين من شعوب "الهيريرو" و"الناما" في "جنوب غرب إفريقيا" (2). في سنة 1904 أصدر الجنرال "لوثر فون تروثا"، قائد الجيش الألماني، "أمر إبادة" تحت مبرر "حرب الأعراق". وفي سنة 1908 قتلت السلطات الألمانية 10000 فرد من شعب "الناما" وحققت مبتغاها في "تحطيم الهيريرو" بعد ان قتلت 65000 فرداً منهم، أي 80 بالمئة من تلك الجماعة. لم تكن الأوامر التي أصدرها "غالانت" في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر أقل وضوحاً. تحطيم فلسطينيي غزة هو هدف إسرائيل. والذين من بيننا في كل أرجاء العام يكتفون بالفرجة، يتخلون عن مسؤوليتهم في منعها من ذلك.

• النص مأخوذ من "وكالة ميديا فلسطين" الفرنسية، ونشر بالاصل في 13 تشرين الأول/اكتوبر في مجلة Jewish Currents

______________________

*راز سيغال، أستاذ مبْرَز في دراسات الهولوكوست وعمليات الابادة الجماعية في جامعة ستوكتون، كاليفورنيا، حيث يشغل منصب أستاذ كرسي دراسات الإبادة الجماعية في العصر الحديث. 

______________________

1- ملاحظة من المترجم: درسدن مدينة ألمانية قصفتها القوات البريطانية والأمريكية بالقنابل شديدة الانفجار والقنابل الحارقة في شباط/فبراير 1945، خلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.
2- ملاحظة من المترجم: جنوب غرب افريقيا هي التسمية الاستعمارية القديمة لدولة ناميبيا. 

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...