"طالنا المرض.. لم أكنْ المريض الوحيد لكني كنت الأوّل. في البداية أصبت بدور برد وظننتُ أنني سأتغلّب عليه، إلا أنه تطوّر وارتفعت حرارتي. الذهاب إلى الطبيب تطلّب معركة مع إدارة السجن إلا أنه لم يبذل أي مجهود يتخطى الكشف الظاهري، فازدادت حالتي سوءاً واستمرت الحرارة بالارتفاع، والأهمّ أنها انتقلت لغيري من نزلاء الزنزانة. في اليوم الثالث، جاءت طبيبة إلى السجن ووقّعت الكشف علينا وأخبرتنا أننا مصابون بنزلة صدرية حادة". هكذا بدأت رسالة المهندس ناجي كامل (الناشط اليساري، وأحد معتقلي مظاهرات "25 ابريل" ضد التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة السعودية). وهي تحكي عن نقطة الضعف الأولى في تجربة أي نزيل بالسجون المصرية: المرض. وقد تدخل السجن مريضاً أو يأتيك المرض داخله، وبكل الأحوال فتلك هي اللحظة الأصعب، إذ قد يصل التدهور إلى الموت: "الأصعب هنا ليس المرض، بل فرص التعافي منه، هناك 48 معتقلاً يعيشون في مساحة لا تتجاوز 60 متراً مربعاً، يدخلون الحمام في مكان نومهم نفسه وتتراكم في أحد أركانه قمامتهم. في ظل وضع كهذا لماذا لا ينتشر المرض؟". وينتقل ناجي في رسالته لما هو أصعب: "وفي ظل استغاثة الزملاء حضر إليهم ملازم قال بالنص لو جاء رئيس الجمهورية ليطلب عرض زملائكم على الدكتور فسوف أرفض أيضاً".
وهكذا يعامل المرض بين شعور بعدم دقة التشخيص، وقلة الرعاية، إلى تداعيات التكدس واستخدام "المنع من العلاج" كنوع من "التكدير" أو العقاب للسجناء.. هناك آلاف الشكاوى المتعلقة بالإهمال الطبي بالسجون، ومن بينها قصص هزّت الرأي العام على مدار السنتين الماضيين ـ مع تزايد أعداد السجناء السياسيين ـ لأنها ذهبت بأصحابها إلى الموت.
الداخلية: لسنا جزّارين ولا مصلحة لنا
لائحة الشكاوى تلك تواجهها وزارة الداخلية طوال الوقت بدفاع مدعوم بالمعلومات يشير إلى اهتمامها عبر السنوات بتطوير المنظومة الصحية داخل السجون. يقول مدير عام الإدارة الطبية بقطاع مصلحة السجون في تصريحات صحافية: "المنظومة الطبية داخل السجون على مستوى عالٍ، وتشمل الطب الوقائي قبل العلاجي (...) نوفر التطعيمات الموسمية المحددة من وزارة الصحة ونولي اهتماماً خاصاً بالأمراض الأكثر انتشاراً في السجون كالجرب والدرن (السل). فهناك قوافل تتوجه لجميع سجون مصر على مدى العام ومعها سيارات متحركة مجهزة للفحص بأحدث الأجهزة الطبية في العالم، وفي حال رصد أيّ حالة مشتبه فيها يتم حجزها فوراً في مصحّات خاصة تابعة لمصلحة السجون (...) أما القسم العلاجي في السجون، فلدينا العيادات الخارجية التي تعمل بشكل يومي و6 مستشفيات مركزية على مستوى الجمهورية. نشتري سنوياً كميّات من الأدوية المختلفة لا تقلّ تكلفتها عن 10 ملايين جنيه، لدينا وحدات خاصة متطوّرة للغسيل الكلوي ولدينا بروتوكولات خاصة مع معاهد الأورام والفيروسات لاستقبال المرضى السجناء لتلقّي العلاج لديها". وعن حالات الطوارئ والتدهور الصحي الحاد أشار إلى انه "في حال تطلبت الحالة النقل للمستشفى سواء المركزي بالسجون أو الجامعي، فيتم اتخاذ الإجراء في الحال، بحيث لا يتعدّى الوقت الذي يستغرقه توقيع الكشف والخروج للتوجّه للمستشفى نصف ساعة". وهاجم المسؤول الأمني السجناء السياسيين والمنظمات الحقوقية، وقال إنّهم يستهدفون تشويه الحقيقة، وإنّ الدفاتر الرسمية شاهدة على كمّ العمليات الجراحية التي تمّ إجراؤها لقيادات جماعة الإخوان المسلمين، وأن من توفي منهم كان لكبر سنه وليس بسبب أي إهمال طبي، وضرب مثلاً بالقيادي الشهير فريد إسماعيل الذي توفي داخل مستشفى السجن، وأكد أنه ليس للضباط داخل السجون مصلحة في الإهمال الطبي، وقال: "لسنا جزّارين".
مآسٍ تحكي عن نفسها
يسار ويمين، قيادات ومجهولون، جنائيون وسياسيون.. لم تستثنِ الشكوى من الإهمال الطبي أحداً إلى حدّ وصفِه بـ "القتل العمد" داخل السجون. وتأتي البداية من الاسم الذي اختاره المسؤول بقطاع السجون وهو القيادي بجماعة الإخوان المسلمين فريد إسماعيل كحالة كاشفة لما يدور حول قائمة المرضى بالسجون. ففي حين تستشهد مصلحة السجون بحجم ما قدمته له، فهناك العشرات من البيانات الموثّقة باسم أسرته ومنظمات حقوقية حذرت قبل أسبوع من وفاته من تعرضه داخل حبسه الانفرادي في سجن العقرب لجلطة بالمخ، إلا أنّه لم تتمّ الاستجابة بنقله لمستشفى السجن إلا بعد دخوله في غيبوبة أدّت إلى وفاته. ومن سجلّ الراحلين لسجل من يقاومون الموت، جاءت آخر الصرخات من داخل سجن العقرب نفسه، حيث أعلن القاضي الجليل محمود الخضيري والباحث المعروف هشام جعفر إضرابهما عن الطعام بعد ـ ما قالوا إنه ـ إصرار إدارة السجن على إعادتهم إليه دون استكمال علاجهم داخل مستشفى القصر العيني الجامعي. حكت زوجة جعفر عمّا عانته مع إدارة سجن العقرب منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، فقد رفضوا إدخال الأدوية المعالجة للضمور الحاد بالعصب البصري الذي يعاني منه أصلاً، رغم ما قالته لهم من أن التوقف عن تناول الأدوية يعرّضه لضياع بصره. قالت إنّه لم يستمع لها أحد. وتفاقم الأمر بعد إصابته بورم في البروتستاتا مصطحباً باحتباس بالبول منذ نيسان/ إبريل الماضي. تمّ نقله إلى القصر العيني لإجراء عملية جراحية لسحب عيّنة للتأكد من طبيعة الورم، ولكنهم فوجئوا بقرار من مأمور السجن بإعادته مرة أخرى إلى محبسه دون أن تتمّ العملية الجراحية التي تمّ تحديد موعد لإجرائها ثلاث مرات بمستشفى جامعي آخر متخصّص، ثم تلغى لسبب قالت عنه الجهات الرسمية إنه "تعثّر نقله لأسباب أمنية".
حالة المستشار محمود الخضيري كاشفة هي الأخرى. فقد خضع الرجل بالفعل، كما أكّد المسؤول الأمني الرفيع في تصريحاته الصحافية لعملية جراحية دقيقة بالقلب تستغرق فترة النقاهة منها 6 شهور كاملة، لكنه سرعان ما أُعيد إلى سجن العقرب ــ الأسوأ في مصر ــ مما أدى إلى تراجع حالته بصورة كبيرة بينما تؤكد إدارة السجن أن السبب في ذلك هو "كبر السن" وأن العملية تمّت بنجاح.
سجلّات المجهولين
وهناك بالتأكيد مَن لا يملكون رفاهية التفكير بالإضراب عن الطعام. عالم من المجهولين لا يسمع عنهم أحد، ولا يملك ذووهم إلا المرور على مكاتب الشكاوى بالوزارة والنيابات علّ أحداً ينقذهم من الموت. فمن أرشيف الحملة الحقوقية "أوقفوا الإهمال الطبي في السجون" رسالة السجين حسني علام، 32 سنة، مدرّس، نزيل سجن استقبال طرّة منذ 2013، يعاني من ورم سرطاني في الغدد الليمفاوية بالرقبة. وقد أثبت الفحص بالأشعة المقطعية أن الورم كبر حجمه فضغط وأزاح الأوعية الدموية المغذية للمخ وأنه يحتاج لتدخل جراحي سريع، ورغم هذا لم تتخذ إدارة السجن إجراءً غير نقله للمستشفى المركزي داخل منطقة سجون طرة، وهي غير مجهزة لاستقبال تلك الحالات، ولم يُسمح بنقله إلى مستشفى خارجه، ولم يتمكّن أهله حتى من معرفة أسباب الرفض كما تفعل الوزارة فى حالة الشخصيات القيادية المعروفة. ومعه أصبح أملهم الوحيد بالعفو الصحي الذي يأتي غالباً بمناسبة الأعياد. أما "علاج الكعب الداير" فهي كلمة اشتهرت حقوقياً مع حالة الشاب أحمد نصر الذي يعاني من بتر في قدمه اليمني وكسور في ذراعه الأيمن وصديد وقصور في الدورة الدموية، وقرحة في المعدة، ونزيف في شبكية العين اليمنى، وشظايا خرطوش في العين اليسرى وحولها في الأنف.. وهي حالة تعذيب واضحة. وكلّ ما يطالب الشاب به هو العلاج، رافضاً الحديث عما تعرّض له. وعلى مدار سنة كاملة، لم يجنِ غير الانتقال بقرارت أمنية بين عدد من مستشفيات السجون، بل نقل أكثر من مرة داخل سيارة الترحيلات إلى مستشفى جامعي على أمل إجراء عملية، ولكن تتم إعادته فور وصوله، والسبب هو الجملة الشهيرة: "يتعذر إجراء العملية اليوم لأسباب أمنية".
وحسب لائحة السجون، فإن قرار نقل المريض يتم بإشارة من طبيب السجن يوقّع عليها مأمور السجن بالقبول أو الرفض، وفي حالة الاختلاف بينهما يمكن للطبيب رفع الأمر للإدارة الطبية بالوزارة. أما سبب الرفض فـ "أسباب أمنية" التي، ومن دون الدخول في مدى دقتها، كثيراً ما تجبّ "الأسباب الطبية". تقارير حقوقية رسمية وغير رسمية أشارت إلى عوار تلك المادة ورصدت حالات وفاة نتيجة للإهمال الطبي. فقال المجلس القومي لحقوق الإنسان ـ المؤسسة شبه الرسمية ـ في تقريره السنوي في شهر أيار/ مايو الماضي إن ظاهرة الوفاة داخل أماكن الاحتجاز كانت قد اختفت لفترة إلا أنها تعود مرة ثانية. وطالب التقرير بإيجاد حل سريع لأزمة التكدس داخل السجون، وأرجع معظم حالات الوفيات إلى الشروط الصحية والمعيشية السيئة في أماكن الاحتجاز. أما مركز النديم لمناهضة التعذيب ــ مؤسسة غير حكومية ويتعرّض القائمون عليها لكثير من الملاحقات الأمنية ــ فقد وثّق 149 حالة وفاة نتيجة الإهمال الطبي في السجون خلال عامين، وأوضح أن أسباب الوفاة تراوحت ما بين الإصابة بالسرطان والالتهاب الكبدي الوبائي وأمراض القلب والأزمات الصدرية وغيبوبة السكر وجلطات الدماغ.
صوت المريض.. سوط الألم
تعنُّت أمني وعقاب بالحرمان من العلاج، سوء رعاية في مستشفيات السجون لا ينفصل عن مستوى الخدمة الطبية المتراجعة بشكل عام داخل المستشفيات الحكومية المصرية.. قتلٌ عمد.. موت بطيء. هكذا تبدو الصورة على ألسنة العديد من أهالي السجناء والمنظمات الحقوقية. ولا يمكن تسجيل شهادة كاملة موثوق بها عن حقيقة ما عاش المريض الذي تتردّى حالته الصحية وهو داخل أسوار السجن..