تعيش عُمان الإنسان والمجتمع والدولة، هذه الأيّام، منعطفاً حاداً يختبر جوهر الإيمان بحق حرية التعبير وقدرة الناس على النضال من أجله. هذا الحق لا يعاني من التضييق فحسب، بل ومن التشويش عليه في ذهنية الأفراد والمجتمع.
السلطة أغلقت صحيفة "الزمن" اليومية على خلفية طرحها لتساؤلات مشروعة وأساسية حول موظفين عموميين تحوم حولهم شبهات فساد يتداولها الناس في أحاديثهم ومنصات تواصلهم الاجتماعي منذ زمن ليس بالقصير. واعتقلت رئيس تحرير الصحيفة، ومدير التحرير، وأبرز محرريها. زُجَّ بالثلاثة في الحبس، وبدلاً من أن يقع عبء إثبات أو نفي الفساد على المدعي ـ الذي هو هنا الموظف العام ــ تمّ تحويل هذا العبء على المدعى عليهم (أي الصحافيين!). وبدلاً من التحقيق مع من تدور حولهم الشبهات، شبهات الفساد، وشبهات إساءة الأمانة والإضرار بسمعة العدل كمبدأ إنساني أصيل، والنيل من العدالة كتطبيق راسخ لحماية الدولة... بدلاً من هذا المسار، انحازت السلطة المركزية إلى الخيار الذي يخذل المبدأ، ويحمي رجالها: أدخلت مسؤولي تحرير الصحيفة في محاكمات "ممنوعة من النشر والتداول"، دون اكتراث للعواقب الوخيمة التي أحدثها قرار الحبس والمنع، الذي تترتب عليه أثمان باهظة داخلياً وخارجياً.
فقد توالت الإدانات الدولية، ولا تزال، لتؤكد على براهين أكثر سطوعاً لانحدار مستويات حريّة الصحافة. وأما العاقبة الأكثر مباشرة من فعل كهذا، فهي قفل أبواب رزق وتحقق ذاتي لصحافيات وصحافيين، راهنوا على حد أدنى من الأمان الوظيفي في مهنة المتاعب هذه. تبقى الدولة هي الخاسر الأبرز ومعها المجتمع والرأي العام المصاب بالإنهاك والتعب وفقدان الثقة في إدارته السياسية. كل ذلك عمّق حالة الاحتقان والتشويش، التي لا يبدو أنها تثير بعد اهتمام من يُدير راهن البلاد. لم تكتفِ السلطة بهذه الأفعال فحسب، بل فتحت باب الاعتقالات على مصراعيه، فاحتجزت كُتّاباً، من مختلف الأعمار والاهتمامات، لا جرم لهم غير الكلمة الواضحة والأمينة والمباشرة، وتذكير السلطة بخطورة الطريقة التي تدير بها هذه الأزمة المعقدة، محذّرين الجميع من خطورة الرهان على خيار التخويف وإشاعة الذعر من نقد الشخصيات العامة. وكأن الدولة، بإنسانها ومؤسساتها وثرواتها البشرية والطبيعية، مختزلة في تلك الشخصيات دون سواها.
بكلمة واحدة وواضحة: ما تفعله السلطة لا يحمي حقّ حرية التعبير. كما أنه لا يحفظ السلم الوطني ولا الوئام الاجتماعي؛ ما يحفظهما ويحمي الحق، على ثقله وكراهته من قبل البعض المتنفذ هو علقم النقد، ومبضع المحاسبة. النقد الذي تمارسه صحافة حرّة، ومن ورائها مواطن واعٍ، متضامن وحريص على التعبير عن آرائه وحماية أحلامه. وكذلك تطوير وسائل الرقابة الفعّالة، وجعلها أكثر إزعاجاً لذوي النفوذ، تحاصر شهواتهم المفتوحة، وتحمي البلاد من جور تغوّل السلطة المطلقة التي يتدرّعون بها، أياً كان مصدرها، أو ممارسها، أو راعيها.
في مقام كهذا، يجدر التذكير دائماً بمثال يعرفه أغلب من درس القوانين المتعلقة بالصحافة والعقوبات، وبالاتصال الجماهيري، وهي قضية "لينجينز ضد النمسا" (تفاصيل القضية يوثقها موقع المحكمة الأوروبية)
وبقطع النظر عن الظروف الخاصة التي اكتنفت هذه القضية، والفوارق المكانية والزمانية التي تُحتَرم وتُؤخذ في الحسبان، إلا أن الدرس البليغ الذي يمكننا حصاده من حادثة كهذه هو أن التقدم صنو الانتصار للمبدأ لا خذلانه والالتفاف عليه. وعبثاً ما نفعل من لَوْك مفردات التنمية والنهوض والرقيّ وعصرنة شكلانيات الدولة في المباني والأشكال، إن لم نحرص على تطبيق القيم الإنسانية العليا، ونعمل على حماية الحقوق والحريات والدفاع عنها. وإنْ استثقلنا ذلك، أو بدا لنا ظاهرياً أن هذه الحريات والحقوق ضد مصالحنا الشخصية وضد صفقاتنا الآنية وتوازنات فهمنا لنوع وطريقة السلطة التي نخاف منها أو نتفاخر بها.
قد تؤدي حرية التعبير وحرية الصحافة "إلى قيام حالة من التنازع أو التزاحم مع حقوق أخرى كحقّ الخصوصية"، وحق الأمان العام. ولكن عند تعارض مصلحتين، فهناك حقّ أجدر بالرعاية (بحسب الباحث المختص شقير). وأما حادثة النمسا فروايتها هي أن الصحافي "لينجنز" كتب في مجلة "فيينا بروفايل" مقالاً عام 1975 عن مستشار النمسا آنذاك برونو كرايسكي، وصفه فيه بأنه "انتهازي مُنحطّ، غير أخلاقي وغير وقور". قام كرايسكي الذي ربح حزبه الانتخابات بالأغلبية، برفع قضية بصفته الشخصية ضد "لينجنز" بتهمة التشهير به والنيل من مكانته الشخصية والاعتبارية، بما يخالف المادة 111 من القانون الجنائي النمساوي.
أدانت المحكمة الإقليمية في فيينا الصحافي "لينجنز"، وحكمت عليه بغرامة عشرين ألف شلن، لأنه لم يستطع إثبات أن المدعي انتهازي، ولأنه تعدّى حدود حرية التعبير، وهذا سبب كاف لإدانته. ومع ذلك لم تحكم المحكمة بالتعويض للمدعي الذي هو في أعلى منصب سياسي في البلاد، منصب "المستشار". وكان حكم المحكمة النمساوية قد ارتكز على أن المستشار "رجل سياسي، ويجب عليه أن يُبدي تسامحاً أكبر تجاه التشهير، أكثر من بقية الأفراد. وطالما ارتضى أن يكون شخصية عامة فعليه أن يتقبل هذا النقد لأنه ببساطة من صميم واجبه". هذا الواجب الذي يريد الشعب، الذي انتخبه، أن يطمئنّ على كفاءة أدائه من خلال حرية الصحافة ووسائل التعبير المراقِبة لأعماله.
استأنف الطرفان الحكم أمام محكمة استئناف فيينا التي أصدرت حكمها عام 1981 فخفّضت الغرامة إلى 15 ألفا، وأيدت بقية الحكم. قام كرايسكي مستشار النمسا برفع القرار للمحكمة النمساوية العليا مطالبا "بمساواة السياسي بآحاد الناس في قضايا التشهير"، لكن المحكمة رفضت طلب المستشار وأيدت قرار محكمة الاستئناف.
لم يكتفِ الصحافي بحكم المحاكم الوطنية النمساوية، فقام بالطعن على القرار أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وبناءً على هذا الطلب أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قراراً تاريخياً في القضية بتاريخ 8 تموز / يوليو 1986 اُعتبر قراراً معيارياً يُقاس عليه في قضايا مشابهة في دول العالم. هنا مقتطف من هذا القرار:
"... إن حرية التعبير تشكّل أحد الأسس الجوهرية للمجتمع الديموقراطي، وأحد الشروط الأساسية لتقدمه وتحقيق الذات لكل فرد. إن حرية التعبير لا تشتمل فقط على "المعلومات" أو "الأفكار" المفضَّلة، وإنما أيضا المسيئة، والصادمة والمزعجة لفرد أو لمجموعة من الناس. وهذه هي متطلبات التعددية والتسامح وسعة الأفق والتي من دونها لا يوجد مجتمع ديموقراطي". وأضافت المحكمة: "إن الأمر لا يقتصر على واجب الصحافة بنشر المعلومات والأفكار وحسب، إنما من حقّ الجمهور أيضا تلقّي هذه المعلومات". ولفتت المحكمة الأوروبية إلى نقطة مفصلية وهي "أن القانون الجزائي النمساوي، عندما يطلب من الصحافي إثبات صحّة إسناداته، فذلك أمر مستحيل وينتهك حرية الرأي نفسها"، وقالت إن إثبات الحقائق facts مطلوب، أما إثبات الأحكام القيمية value judgement فهو غير قابل للإثبات".
وأكّدت المحكمة على أن حرية الصحافة تتيح، علاوة على ذلك، واحدة من أفضل الوسائل لاكتشاف وتكوين رأي حول أفكار ومواقف القادة السياسيين، وأن حرية النقاش السياسي هي في صميم مفهوم المجتمع الديموقراطي. وأشارت إلى "أنّ حدود النقد المقبول هي أوسع بالنسبة للسياسي من الشخص العادي. ويتوجّب على السياسي أن يُخضع نفسه لفحص دقيق بشأن كلّ كلمة يقولها وكل فعل يقوم به من قبل كل من الصحافيين والجمهور بوجه عام، وبالتالي لا بد له من إبداء درجة أكبر من التسامح".
وخلصت المحكمة إلى أن إدانة الصحافي تحمل انتهاكاً لحقه في حرية التعبير كما هو منصوص عليها في المادة 10 من "الاتفاقية الأوروبية" والتي تنصّ في شقّها الأول على أن لكلّ إنسان الحق في حرية التعبير. هذا الحق يشمل حرية اعتناق الآراء وتلقي وتقديم المعلومات والأفكار دون تدخل من السلطة العامة، وبصرف النظر عن الحدود الدولية". وختمت المحكمة حكمها بإلزام الحكومة النمساوية بتعويض الصحافي لـ "لينجينز" بمبلغ 284 ألف شلن نمساوي لأن نظام العدالة النمساوي لم ينصفه".