الإنسان: المسافة بين الذَّات والمعنى

اقتراب من رواية "تَعويبَة الظِلّ" لسعيد سلطان الهاشمي.. الرابط التاريخي الإنساني بين ماضٍ غائب وحاضر تائه. تحاكم الرواية التبعية وتقف ضد خطاب الطاعة.. تعري التبعية ودورها في تفتيت كيان الإنسان.
2019-07-04

محمود حمد

باحث في النقد الأدبي، من عُمان


شارك
غلاف الرواية، تصميم: نجاح العطار

أجزم في أشدّ المستويات اقتراباً من الإنصاف أن الغربة الحقيقية هي ذلك التشظي التاريخي الذي ينعكس بمسؤوليته الإنسانية على الفرد. فهو ينطلق من شعور عميق يرتبط بتلك الصلة القاسية بالذين يشكّلون مفردات ذات أهمية لما تراه الذات فترة فارقة في المحيط الذي تعنيه. الأرض للوطن قطعة جغرافيا وإنساناً، وهؤلاء هم ذلك الامتداد الذي يصل بمفارقات معاصرة تحاول أن تستدعي مجموعة من الملامح الاجتماعية والثقافية والسياسية.

مقارنة بتجربة الرواية العُمانيّة ــ على الأقل تلك التي أزعم أني قرأت الكثير منها ــ لا تخرج "تعويبة الظِلّ" (*) فنياً عن السّياق التشكيلي الذي يُكوِّن الرواية العمانيّة، وإن كان توظيف بعض التقنيات المتعلقة بالاسترجاع والترميز وتشكيل أبعاد ثقافية كخلفية تاريخية أعادت كثيراً من المرجعيات الواعية بما حولها إلى تكوين تأسيسي فطري وتعليمي ساهم في صنع الكثير من الانتقالات الثقافية والاجتماعية لاحقاً، وهو الرابط التاريخي الإنساني التي تزعم الرواية أنها تصل به بين ماضٍ غائب وحاضر تائه. فهي توثيقية في الجانب الغائب أكثر منه في الحاضر، وبالتالي فهي توظِّف مجموعة من المفاهيم عن الإنسان وعلاقته بالحياة في بقعة من الأرض، ورمزية شخصيات حملت مواقف من الحياة، ثقافية واجتماعية وسياسية.

تعرض الرواية ملامح ثقافية مرتبطة بروافد متجذّرة في الجانبين الانساني والتاريخي، تولّدت من عمليّة التغيير التي فرضتها مجموعة من العوامل العائدة إلى المكوّن الثقافي المتواضع الناجي من الحطام، والجديد الخجول الذي حملته طبيعة التغيير التي تقاوم الموروث المستبد. وكان يمكن للصراع أن يكون مثرياً لو لم يستغل الفرصة الآخر - البعيد، القادم من خلف البحار - بمساعدة القريب، لمدّ أطماعه واستغلال الموروث، لإبقاء الذاكرة عاجزة عن إيقاظ الوعي وإعادة القيم الإنسانية النبيلة بما يتناسب مع التغيير في ظل مفردات البناء والمعاصرة.

سأحاول الاقتراب من الرواية من خلال بعض المداخل الفنية والتشكيلية، ولا أزعم أنها المداخل كلها، أو أنها الأهم، لكنّها محاولة فهم لمسار الرواية الثقافي. وأظنّ أن الثقافة الفنية لكاتب الرواية قد غلبتها الروح الثقافية لروايته. ولكنّني من ناحية أخرى دهشتُ من كيف أن تجربته الوحيدة روائيّاً قفزت مراحل التجربة ليولد هذا المنجز الأدبي.

يسعى الوصف إلى مزج الموقف بتنوعات شعورية مختلفة تحدّد أبعاد التكوين الثقافي والاجتماعي والإنساني.

أهم هذه المداخل هي الوصف، والاستطراد، والتشخيص، وبناء الشخصيّات، والانتصار للحرية، وطرح التراكمات، والتساؤلات القاسية، والرصد. وتؤكد هذه العمليات ما أشرنا إليه من خدمة التأسيس الثقافي للرواية. وقد يعترض البعض على هذا التقسيم، وقد يراه غير مبرّر. لكنّنا ــ وبعيداً عن قضية الفن للفن والفن للمجتمع ــ نتعامل اليوم مع عمل أدبي لا يسير وحيداً في الذاكرة الجمعية المعاصرة. فلم تعد الرواية ذلك الجنس الأدبي الناقل للحدث في أحزمة لفظية تركيبية حاملة لمؤثرات الاستجابة، إذ القارئ اليوم ممتلئ بما يضيفه الخطاب فنياً إلى النص الثقافي. وهذا الامتلاء يتفاوت بطبيعة الحال.

يوظّف الكاتب الوصف بمستويات تناسب المشهد أو الصورة التي تحدّد الملامح المكانية أو الزمانية أو تلك المتعلّقة بالشخصيات أو المواقف. ولذلك يأتي الوصف دقيقاً، مكثفاً لذاته أو حاملاً لغيره. وفي كلا الحالتين يسعى إلى مزج الموقف بتنوعات شعورية مختلفة تحدّد أبعاد التكوين الثقافي والاجتماعي والإنساني.

إن العلاقة التي تتشكّل بمعجم الوصف في الرواية لا تقدّم المشهد متحركاً يمكن التوقف عنه، فوصف الحشرة الدقيق (ص11) مثلاً هو نوع من الانعكاس الذي يفرضه الشعور بالعجز أمام مظهر طبيعي يمثّل المخاوف والتيه الملازمين للروح الضائعة. ولنا أن نتخيّل ما يمكن أنْ تمثّله الحشرة بهكذا انعكاس، خارج كونها كائناً لا يعتدّ بعوالم البشر. وأمّا توظيف النمط الساخر من الوصف، فلأنه سلوة الشعور باللامعنى أمام ما هو مجهول داخل المجهول. وتبرز الصّفات الأكثر قبحاً عبر إسقاطات نفسية متولّدة من روح غاضبة تحاول الخروج بالرمق الأخير، استجابة للارتطام بالمجهول الهشّ لديها. ويمكن أن يكون الوصف الشرس الساخر الذي يبرز الموقف من المحقّق ارتطاماً بهذا المجهول في داخل المجهول، كقوله: "متحفّز، غضبه يفيض من منخريه الأفطسين... وعلى جانبيه أذنان كبيرتان تفيضان عن المصرّ .." (ص27). وأمام تقييم الموقف، ينفتح المشهد على أكثر من مساحة لتقصي المؤشّرات الدلالية التي يحاول الكاتب أن يضعنا أمامها. فالمشهد السينمائي يمرِّر إلينا فكرة الخروج بحالة السيطرة التي تستدعيها تلك القوة المتولدة من التسلط لحظة رؤية الآخر نكرةً، أو ــ على أعلى مستوى ــ أداة لتحقيق هذه السُلطة. وحين نصطدم بمشهد الوصف ندرك ارتداد الموقف من داخل الإطار الثقافي الذي ينحسر عن اغتراب الإنسانية الهشّة التي يبذل المتسلّطون عليها كل ما يستطيعونه لإسقاط فعلها بين الآخرين. فثمة مشروع حقيقي قديم ينهج إليه الوعي الفني لإيصال فكرة الإنسانية وأهميّة تحقيقها لبلوغ البُنى التي يقوم عليها المجتمع البشري. ولنا أن نذكر هنا رواية "الأم" لمكسيم غوركي، إذ إن الفكرة الكبرى فيها، على الرّغم من تشعّب أحداثها، تدور حول تأسيس الوعي العام.

الصورة التي كوّنها وصف المحقِّق تجمع من ثقافة التلقي أجزاء الكائن الكريه الذي تنفر منها النّفس، وتستعين بكلّ ما يمكن أن يضيفه من موقف شعوري. فالموصوف هو منظومة شرسة تسْتهدف المساحة التي تجد فيها الذوات سلامها.

إن الصورة التي كوّنها وصف المحقِّق السابق تجمع من ثقافة التلقي أجزاء الكائن الكريه الذي تنفر منها النفس، وتستعين بكل ما يمكن أن يضيفه من موقف شعوري، في محاولة تعيين طبيعة المجهول داخل المجهول. فالموصوف هو منظومة شرسة تسْتهدف المساحة التي تجد فيها الذوات سلامها في موقف محاصرة المجهول لها. وحين نتخيّل صورة المحقّق، نشارك الكاتب عدم الشعور بالسلام لحظة الاصطدام بهذا الكائن الذي يَظهر بالهيئة التي رسمها. وكل تمثّل يضيف إلى الصورة مفردة من مفردات التشكيل في الخطاب هو خلاصة عمليات واستعدادات ثقافية وفنية متولّدة من تداخلات ومواقف إنسانية تعبّر عن تشظيات الذات، ليس بالقصدية التي تعنيها هذه الاستعدادات إنما بما يشكّل مصدراً مهماً من مصادر الكتابة التي ترصد هذه الانعكاسات، كما نجد في قوله : "عندما عاد المحقق الأحمر، ضرب الطاولة بكفّه السمينة "(ص33)، وهي إشارات استعان بها الوصف لإظهار ملامح القسوة التي تحدّد وسائل التسلّط على الذات البشرية.

يشكّل الوصف الدقيق لتفاصيل الزنزانة جزءاً مهماً (ص30) من تحديد السطوة التي تقوم عليها قوة السلطة المتحكمة في تعيين مدى حرية الذات، أو تلك التي تمثّل استجابات ضد نفوذها في المنظومة. ووصف الزنزانة من أهم مرتكزات أدب السجون، باعتبارها العالم الذي يمثّل الملامسة الحسية المتشعبة في الذاكرة، المتولّدة من الصراع مع الذات حول التحقيق أو الفهم أو حتى الانسحاب إليها أو منها.

أما وصف مدينة صُور "جمانة شرق البلاد" (ص62) فهو ذلك الحفر الذي لا يمكن تجنّبه في تصلِّب المسافة بين الذات والفضاء، سواء كان ذلك في إحاطة شعورية أو حسية، إذْ لا يمكن قراءة الإنسان خارج هذا التأثير. وحينما تكون المدينة رمزاً قابلاً لتتبّع كثير من الامتدادات، تصير الكتابة الفنية نوعاً من مناوشة الخفي في غياب الكشف التاريخي والإنساني. ولهذا فما تحمله المدن مرتبط بهذا التجذر الذي يمنح التجربة مفردات إنسانية عميقة تشكل منطلقات تفكيك العلاقة بين الإنسان والفضاء بأنواعه.

"الورد جدير بالاحترام لأنه يعطي بلا مقابل ويساوي بين الناس في ذلك. ولا تؤذي الوردة أحداً ولا تقابل قطفها بإساءة"، وعلى الرغم من ذلك يبقى السؤال: "هل يجب نسيان هذه الإساءة؟"، بمعنى آخر "للشوك مهمّة يجب على الوردة ألاّ تنساها على الرغم من جمالها".

المدخل الثاني إلى الرواية هو استطراد الكاتب في التفاتات سريعة إلى جهات مختلفة، مما يقدّم للتجربة علاقات ترتبط بالبناء الإنساني الذي هو من دعائمها الأساسية. وما ينشئه الاستطراد هو ذلك التكوين النفسي الذي من خلاله تتجلى الكثير من الفوارق، وتتشكّل كثير من الرؤى القيمية التي تظهر أو تختفي في الخطاب. ويفعّل الاستطراد الخطاب، وينسج تكوينه بتنوّع المؤشرات المعرفية والفنية. ويمكّن من وصل الخطاب الفني بالتكوين الشعوري المرتبط بعلاقة الذات بالعمق الثقافي والبناء الميثولوجي في الذاكرة الإنسانية. مثال ذلك : "أليس هذا هو اسم طائر يزعم العرب أنّه يخرج من هامة القتيل" (ص15). وتحفر حشرة الزنزانة في لحظات العزلة منافذ إلى الروح تسلكها تلك العذابات المختلطة بمشاعر الحرمان والانكسار والشعور بالعبثية، إضافة إلى العجز عن فهم المحيط الذي يرسمه الآخرون بالتبعية والتسلط وإطفاء ما لا يراد له أن يضيء إلا خطوات ضيقة لا توصل إلى شيء.

"وحده الورد يستحق الاهتمام يا خالد ". نعم هذه المقولة ليست عابرة. ولم تكن مجرّد تعبير عن شعور سطحي، بل هي فهم لموضوع أساسي من موضوعات الحياة: الجمال الذي ينبع منه تحقّق الذات والأرض والوطن، بل الإنسانية كلها. وهذا المرتكز هو ما لا تشعر به تلك النفوس الشحيحة، الراغبة عن الجمال، والتي لا تدرِك المعنى العميق للموقف من الوجود. فالورد - في أقسى محيط ينتمي إليه - يتفرد بقدرته على التغيير وجذب الأرواح النقية الممتلئة بالحياة والرغبة فيها. وبطبيعة الحال فتلك هي الأكثر فهماً وإصراراً على تغييرها إلى الأفضل. والورد جدير بالاحترام لأنه يعطي بلا مقابل ويساوي بين الناس في ذلك. ولا تؤذي الوردة أحداً ولا تقابل قطفها بإساءة (ص60)، وعلى الرغم من ذلك يبقى السؤال: "هل يجب نسيان هذه الإساءة ؟"، بمعنى آخر، " للشوك مهمّة يجب على الوردة ألاّ تنساها على الرغم من جمالها".

الخيانة هي امتداد للغزاة بكل أشكالهم

"زراعة التاريخ في الحاضر بحلم" هو وجه آخر للاستطراد في الرواية، إذ ما ينطوي عليه الحلم يرجع إلى همٍّ دفين، وكل هشاشة في الذات مرتبطة بكيان جمعي كانت ترى فيه ازدهارها بتعلّقها بمن ترى فيهم مُحقِّقين لهذا الكيان الذي يجسد لها حقيقتها المرتبطة بالأرض وطناً وقيمة. ولهذا كان الصراع مع البرتغاليين من أجل الحرية شرفاً وتحقيقاً في زمن انتكاسة كان لها أثر على كل ذات تمتلئ بالوطن والحرية. والخيانة هي امتداد للغزاة بكل أشكالهم، مما يجعل وجع التاريخ والإنسان ممتداً. تتشكّل هذه الخيانة بسلب الإنسان إنسانيته وحريته وتفكيره، وتجفيف جداول الحياة في الوطن، وتحويله إلى خريطة مجردة من الاستمرارية والعطاء. التاريخ نفسه في العصر الحاضر مسلوباً من حقيقته، بالمؤامرات والمغالطات، من أجل بقاء الإنسان مشوَّهاً (ص140). والإنسان هو الوطن بذاته وبأخيه الإنسان، وحريته بإيمانه بأخيه (140) لذا عليه أن يمنحه حق إنسانيته وتفكيره وحريته ليحصل هو على مثل ذلك، فيكون الوطن.

المدخل الثالث في الرواية هو التشخيص. ومعرفيًّ هو ما تسعى الرواية إنسانياً وتاريخياً إليه. وإذا كانت فنية الرواية تسلم نفسها إلى تحقيق التّتبّع مختلِف الأبعاد فلأنها إنسان يغيب عن نفسه إضافة إلى غياب ملامحه عنه.

الذين حملوا على عاتقهم المقاومة "انشغلوا بالميدان وتركوا التوثيق والتّأريخ"، ولذلك فكل جيل من بعدهم "يعاني من ذاكرة مثقوبة " (ص25)، فتحمّلهم الرواية / الإنسان مسؤولية غياب الأجيال عن ذواتهم وعن تكوين الأرض تاريخاً ومصيراً. كما أن الشّقة بينهم وبين أصالة القيمة الإنسانية بعيدة جداً، وليس من تعبير أكثر تشخيصاً من "ثقْب الذّاكرة" يمكن أن يرسم صورة تُعيِّن ملامح هذه الشّقة، إذ تختلط عليهم كثير من المفردات والأحداث. ولهذا يتحركون في فجوات تنقطع عن تثمين كل قيمة إنسانية أضيفت إلى هذه المنظومة، بكل ما يؤسّس دعائم الوطن أرضاً وتاريخاً. كما يبدأ أفضلهم من حيث الانقطاع عن التاريخ الذي يستحقّ أن يكون منصفاً. تشير الرواية إلى ما قد يسبب الانهزام للذّات في موقفها من الحقيقة. ومنبع هذه القسوة "الأخطر هي الذئاب التي تسكن عقولنا وقلوبنا" (ص39)، حيث تكون الذاكرة خارج دائرة الاستعادة وثقة الذات في التمسك بالحياة بمعناها كفاعلية الثبات والتغيير من حيث عرضهما أمام العقل الإنساني واحترام الذات وأهميتها الأولى وحقّها الأسمى في الوجود. وبمجرد تنازل الإنسان عن إيمانه بهذه الفاعلية تتقاذفه القوى التي لا تراه سوى عالة وزائداً على الحياة.

"المكان ذاكرة وحلم"، ولهذا كان "الأثر القروي" حافظا لروح الإنسان من صلابة المكان الذي كثيراً ما تكون الذوات المائية ضحيته باصطدامها بشخوصها المتلونة، وعابريها الناشبين وجوههم في طرقات الخوف والمجهول. ومن خلال عرض الفضاءات تؤكّد الرواية على التوازي المعنوي في علاقات الإنسان بها، وموقفه منها، إذ ما تعنيه ثيمة الفضاء، مفتوحاً كان أم مغلقاً، هو أكثر من الإحاطة والانتماء. إنها تعني التشبث بشكل ضروري من أشكال الحياة. وكما يعني الوطن الرحم الذي ينشأ فيه الإنسان، فالمكان ارتباط بتشكّلات الذات في علاقتها بالمحيط، وكل موقف من الوجود يتجلّى في الفضاء.

لكي تبقى الأرض لمن يملك قوة النفوذ، وتبقى الحقوق حلم البسطاء والمهمشين يجب أن يموت السؤال قبل ولادته.

الأم، وعلى الرغم ممّا تتحمل من قسوة الحياة، تمثّل الجانب الآمن فيها، حتى في أضعف حالاتها. وهي محور العواطف الإنسانية، وطن صامت يختزل الظروف في مفردات بسيطة: "قليلة الكلام كانت أمي، لا وقت عندها للثرثرة، صوتها ذاكرتي متوارٍ خلف آلاف الأصوات ولا أجد له مساحة في ذاكرة الأصوات الخاصة بي" (ص55 - 56). ما الذي يمكن أن يعوّض مكان كائن يعطي بالفطرة، ويحمي بالتضحية، ويسهر على الإنسان بالرضا، وفوق ذلك لا يعنيه شيء أكثر من أن يكون الإنسان الذي أمامه أولاً وأخيراً. إنها الأم قبل الوطن وأثناءه وبعده، يتعلّم منها مخلصوه البقاء بشموخ. تُبْرِز الرواية الأم متغيراً متواضِعاً في التّصور، مختفياً خلف عظمته وعطائه الواسع.

وفي الكرامة "لا تجْثُ إلا لخالقك، ولنبتة كريمة تغرسها في أرضك لتهب الحياة خيراً طيباً" (ص62 ). فأمام العظمتين تتشكّل تلك القوّة التي لا يمكن جرحها بسهولة، وبصلابتها يستمر الإنسان وتزهو روحه بالارتقاء، بما للروح من رغبة في الحياة والسلام والحرية. ولهذا "الطاعة والطاعة فقط" (ص177 ) هي انكسار هذه الروح. وبالتالي فما الذي يبقى للأرض حين تتجرّد من هذه الرغبة التي تحيا بها وتتنفسها. هنا تحاكِم الرواية التبعية، وتقف ضد خطاب الطاعة. تعرّي التبعيّة ودورها في تفتيت كيان الإنسان، حيث لا خيار أمامه حين يمتثل لمن لا يقدّر صراعه مع الزمن. والشعور باللاجدوى تَمثّل في حوار هزلي بين تابعٍ يبحث عن دور ومتبوع ينفذ تبعيته (ص216 ). ولهذا كان السؤال خروجاً على هذه النقطة العمياء، إذا لم يرَ الإنسان نفسه من ناحيتها، يتجرّد منها ليكون جواباً جاهزاً وسالكاً تابعاً، ولو على خلاف ما يراه، وما أصعب التَّلوّن أمام الذات. ويبقى السؤال مؤسّسها الأكثر قدرة على منحها حرية المعرفة، وتحقيق المسير، والرغبة في الاكتمال، "بل لو تجرّأتُ على السؤال، فهل سيكون وضعي مختلفاً؟ لا أعرف" ( ص179 )، لكن على الأقل سيجعلني مسؤولاً عن اختياري، وسعيي لأجله ولأجل اختلافي.

السؤال شكّ وإعادة إحياء لموجهات الحياة، وكان محور المعرفة ومنطلقها في الوقت نفسه، وبغيره تذبل الحياة، فلا يتجدّد جدول معرفتها، ويصبح التجديد مجرّد مصطلح مدرسي أو حديث ثقافي لا يتجاوز البحث والتداول. فلا تجديد ولا ابتكار واستجابة للتطور بغير السؤال. ولكي تبقى الأرض لمن يملك قوة النفوذ، وتبقى الحقوق حلم البسطاء والمهمشين يجب أن يموت السؤال قبل ولادته، وهو ما كان على الرواية أن تتحمّل قسوة مواقف وأده في أكثر من مشهد.

يرتبط هذا بفاعلية مضادة رسّختها الرواية، وكانت دائما مشعل النور وموقد الذاكرة: إنها غرس الوعي بالحياة. الدور الذي تلعبه مكتبة أب الباهية حيث نما وترعرع غصن تعلّم حب القراءة. وكل تغيير بعد ذلك في التفكير والموقف كان نتاج تلك المرحلة. ولنا انْ نتخيّل أثر تهميش المعرفة أو صياغتها لتخدم من يرى الآخر نكرة على المجتمعات والشعوب، إذ تتسلّط تلك الأمراض الاجتماعية وتتشوه القيم، فتكون ملْكاً لمن يراه تحقيقاً لمصالحه، مبقية الآخر أسير الماضي وضحية العلم بالحاضر.

الاستقواء على الآخر تطرف شديد ضد الإنسان، وهو من الأمراض الاجتماعية التي تغرس العنصرية والطبقية بين أبناء الوطن الواحد. وعندما تتربى عليه الأجيال فإنها تهوي إلى الإفلاس من القيم النبيلة، و"طرد ابن الساحل من المدرسة" بسبب عقول صغيرة نشأت على تبريرات اجتماعية سيئة، تشربت بها الخلل في منظومة الإنسانية، فكيف بها وهي تستحوذ على أفراد المجتمع الذي يُنتظَر منه الوقوف صفاً واحداً لبناء وطنه: "كانت نبتة صغيرة، لينة، تلقّت العناية من نظام متكامل يعتمد على هذا النوع من الاستقواء، على بقاء الأقوى ذي النفوذ لا الأصلح ذي المبدأ" (ص134). حينها سيكون البناء هشّاً.

أهمية الذات في الرواية تهيمن على الجزء الأكبر منها، لكنها لا تظهر في خطابها مباشرة في كل المواضع، بل تأتي ضمن سياقات إشارية ومعنوية. والذات هذه، التي تشكل محور الرواية الأهم، هي الإنسان والأرض والوطن، و"في وقت الأزمات، لا حامي للإنسان إلا روحه " (ص141)، إذ هي كلّ ما يبقى له من عدّة ترتبط بكرامته وحريته. وبهذه اللبِنَة تتشكّل المجتمعات التي تقدّر الإنسان مورداً ثابِتاً وأساسياً. وهكذا كان الجدّ مشهد العظمة الخالدة: "واقفاً في وجه الريح، ممسكاً بغصن سمرته، كنسر الأعالي مطلقاً نظرته العميقة في المدى" (ص144). وحين ترث الأجيال على اختلاف أزمنتها هذه العظمة، تصل إلى المكانة التي تسْتحقّها. فما الذي تعنيه القيم أكثر من السير على خطوات السابقين في مبادئهم النبيلة، أي فهم رؤاهم وتفكيك منطلاقاتها وتوجيهها ثابتة التكوين في مسارات العصر.

هدف الفن أن يكتمل بالإلغاء

من خلال عرض الثابت والمتحوّل، كانت محاكمة الالتصاق بالسائد والموروث بصفته النجاة من الزمن الذي يصرف الإنسان إلى المختلِف عن السابقين والأجداد الصالحين. هناك "صبي عطّرته أمه ليذهب ويصلّي جمعته كما يفعل الآخرون، الأم التي مرّتْ في خيالها صورة الجنة التي سيذهب إليها صبيها المؤمن" (ص191) ورثتْ ذلك وأتقنت الاحتفاظ به في بساطة تفكيرها وتواضع معرفتها. وربما يكون هذا الموروث جزءاً من طبيعة المعاملات الأسرية والاجتماعية، إذ تقوم العواطف بدور التوجيه ومدّ التواصل بالمفعولات الموروثة بشتى المسلمات الاجتماعية التي جرى تناقلها، على الرغم من اصطدامها بكثير من أنواع الرفض المتعلّق بما يمكن أن يحقّق للفرد رغباته. "ما هو المجهول الذي تحكيه لغة العيون كثيراً" (ص212 ). تزرع الرواية قلقاً فاعلاً في الذاكرة، فما لم يُزْرع بقوة في الأرض تنتزعه الرّياح التي لا يعنيها سوى مسيرها. وحين تكون الثوابت مساسا بحقّ الآتي تصير ذريعة للنيل من كل ما هو حقّ بالفعل. لهذا فالغراس زمنُ ومبتدأ القادمين وحدهم، ومن هنا كانت الرواية تصر على طرح المجهول متداخلاً مع مؤشرات نفسية ودوافع تلقي متنوعة، وبعدها يكون الاحتكام إلى العمق الذي تحفره المؤشّرات بعيداً عن سطحية قائمة على محاكمة الخطاب ليّاً.

كان على الرواية أن تستند على مدخل الشخصية وتشكيلها النفسي الثقافي والاجتماعي. ويخدم تنوّع شخصيها الفكرة التي يسعى الكاتب إلى اقناعنا بها. وربما كان تشكيل الشخصية الروائية من أهم ما يحقّق فنيتها واختلافها. وبمجرّد أن يكون الوصول إلى فهم هذه الشخصية سهلاً، تفقد الرواية جزءاً كبيراً من هذه الفنية. هنا حديث الذات عن نفسها: "ولدتُ كائناً حلزونياً بكل المقاييس الحلزونية. رخواً في أحاسيسي، بطيئاً في فهمي للأشياء وعواقبها، صموتاً، متقوقعاً داخل قوقعة نفسي، صيداً سهلاً لكل متطلّع، خائفاً، مطيعاً، لديّ مجسّات بصرية حادة ربما لتعويض عينيّ أمي، وقدرات على الشم واللمس غير عادية، ربما ميراث جيني متطور لقدرات هذه الأم التي أبْقتها حيّة ونافعة لطبيعة عاشت فيها وغمرتها بالعيش مثلما حرمتها من الحياة" (ص57).

فما الذي يمكن توقّعه من هذه الشخصية وهي الفاعلة المؤثرة في توجيه أحداث الرواية. إن قدرة إخفاء ملامح الشخصية الحقيقية وصفاتها الأساسية خلف حديث يُقنع المتلقي بما لا يمكن أن يؤسس له انطباعاً جاهزاً، ترتبط بأهمية الفاعلية التي تنتجها الشخصية المختفية، إذ ينشط الاستقراء بتكوين مقروء يتشكّل من ثقافتي الكاتب والمتلقي. وهدف الفن أن يكتمل بالإلغاء، دون الالتفات إلى ما يمكن أن يُثقل التأويل والربط. وفي الرواية تكون الشخصية ما يصل إلى المتلقي، وحين يرفض الملامح التي لا تتجاوب مع فعلها فهو يعيد رسمها بمواقف أخرى تشكل غالبية الانطباعات الفنية.

راشد ــ مثلاً ــ شخصيّة يشغلها الوعي بالحياة ومن أجلها. على الرغم من حصاره لم ينكسر، فيحاول طرح واستدعاء شخصيات ثقافية لمنح الحياة فُرص أخرى أمام ما يؤمن به. والغالية تحقّق الوعي الذي يصطدم بما لم يفهمه الآخر مقارنة بغيرها من الذكور في مجتمع ينظر إليها من زاوية واحدة، ومن زاوية أخرى تُلام على طرح أسئلتها، وتوثيق لوحات التغيير والاصطدام بالوجه الآخر. وما يقوم به راشد والغالية هو الشعور بالفرق بين السائد والمختلف المتنوع في أوجه الشخصيات التي تسهم في طرح مسارات الحياة المتعلّقة بالجديد المجهول لدى الغالبية، محاولة تعرية السائد الذي يُراد له أنْ يكون الوحيد. ولهذا فالصدمة الفكرية ترتبط بمنعطفات ثقافّة تعود إلى الوعي وألمه المرجعي، فيصير الوعي المتولّد من المعرفة ألماً تأسيسياً للصراع. "مأساتي أكبر من النسيان، تجثم على ذاكرتي. هل يمكن للإنسان أن يصبح بلا ذاكرة؟ دلّني على طريقة لأبلغ هذا المقام" (ص278)، ولهذا فالذّاكرة محمّلة بألم الوعي، وقراءة الأحداث التاريخية، وكلّ ألم هو نفاذ إجابة حادة بعيداً عن الواقع مما يشكّل صدمة وقلقاً وجودياً لا يتوقّف عند حدٍّ معين، بل يتطوّر إلى مطاردة ذاتية محملة بالشعور بالمسؤولية حول المفردات المختلفة.

وأخيراً: الحرية

تنتصر الرواية للحرية من كل ما يشكّل عبئا على الذات. والأفق يبدأ منها لأنها تمنحه امتداداً شعورياً. ولا يمكن للآخر أن يفهم هذا الموقف بطرح التفسيرات المدنية والمكررة حول الغربة والعزلة والاختلاف. وما تستعرضه الرواية ليس الانسحاب إلى الذات بقدر ما هو انعتاق من الكلي في المنظومة الجمعية، وجزء منه إيغال في الذاكرة الموجّهة للأجيال المتعلّقة بصراع نمط العيش والرسوخ في ما يشبه الشعور بالأمان فيه: "نحن لا شأن لنا بالزراعة. الزراعة سجن للرجال"، "الخير في الجبل وفي السّيح..".

وإضافة إلى حدود العالم الممتد في الذات، الحرية بمفهوم السلام: "صورة نفسي وأنا في جبلي البعيد، أرعى أغنام أمي، ولا أكترث بمخلوق سوى هذه الأغنام، متربّص بالذئاب الغادرة، فكري مشغول بالمرعى وبأين أجد العشب والخصوبة".

"وهل هناك أمضى سلاحاً على روح الإنسان من فقدان الأمل"

تأتي بعض التساؤلات القاسية مدْخلاً آخر في الرواية. ومن الطبيعي أن تتّخذه مدخلاً لأنها تقوم على تشكيلات الذات وعلاقتها بما حولها. والسؤال نتاج مؤثرات مختلفة، وتعود قسوته إلى كونه يرفض الاستسلام للمجاني من الإجابات، تلك التي لا تكتمل بها معاناته الوجودية والمعرفية: "وهل هناك أمضى سلاحاً على روح الإنسان من فقدان الأمل".

رصدت الرواية بعض الشخصيات والأحداث التي تتعلق بكثير من المتغيرات والعلاقات التاريخية. وتتفاوت هذه الشخصيات والأحداث في درجة تأثيرها: الميجور الإنكليزي ( ماك جِلّ)، والطفولات القديمة ورصد الفوارق من خلال "رحلة الإمارات العربية المتحدة بعد انتهاء العام الدراسي" (ص91)، الروابط وعلائق النسب بأهلها، الضابط الإنكليزي وجمع المعلومات عن البلاد وأسلحته (ص98)، وشخصية "أبو الخرز" ودورها في طرح المختلف، والأستاذ بديع وولادة المفردات والموقف منه ومن أفكاره، والعنصرية (ابن الساحل وموقف الطلاب منه ومن تفوقه)، والحب والخوف: "أحببت الباهية لكن خوفي كان أكبر من حبي، الخوف الذي عاش معي، الخوف الذي رأيته في كل من يتنفس حولي، الخوف من نفسي وعلى نفسي. أليس الخوف نقيضاً للحب؟ أنّى للقلوب الخائفة أنْ تحب؟" (ص230).

هذه مقاربة للرواية حاولت فيها طرح منطلقات للراغبين في دراستها بشكل أوسع، وعلى أسس علمية أكثر رصانة وقابلية لرصد حركة "تعويبة الظل".

_______
(*) رواية "تعويبة الظل" للكاتب العُماني سعيد سلطان الهاشمي، صدرت في 2018 عن "دار التنوير" (بيروت – القاهرة – تونس). وقد منعت الرواية في دول الخليج وصودرت من معارض الكتب فيها.

مقالات من عمان

بيان المثقفين العمانيين

2023-12-09

70 مثقفاً عُمانياً ينددون بمجاز إسرائيل الوحشية ويناشدون العالم بالوقوف مع الحق الانساني، والدول المطبِّعة بانهاء التطبيع، ويطالبون السلطة الفلسطينية بالإنحياز الى الشعب الفلسطيني.