طرابلس الشام 1846 بعيني طبيب روسي

لطرابلس الشام موقع آخر لدى الطبيب الرحالة أرتيمي ألكسيفيتش رافالوفيتش، إذ اعتبرها أجمل مدن سوريا. غريب أمر طرابلس، فقد عشقها الرحالة الكييفي فاسيل بارسكي (1701-1747) وسمّاها "المدينة المجيدة"، واعتبرها كذلك أجمل المدن قبل نحو قرن من وصول رافالوفيتش إليها. فكيف كتب عنها؟
2023-06-01

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
على ضفة نهر قاديشا (أبو علي) في 10 أيار 1862 بعدسة بدفورد

رحلة الطبيب أرتيمي ألكسيفيتش رافالوفيتش (1816-1851) إلى الشرق مثيرة للاهتمام، لأنه كان يرسل تقاريره أثناء رحلته تباعاً، لتُنشر فوراً على صفحات "مجلة وزارة الشؤون الخارجية" الروسية تحت عنوان جامع وهو "تقارير طبيب روسي مُرسل إلى الشرق". وقد نشر اثني عشر مقالاً بين 1846 و1847، خمسة منها خصصت لإقامته في بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين)، تلقفها القراء لسهولة لغتها وحداثتها وغزارة المعلومات فيها.

يحكي العنوان الجامع للمقالات عن مضمون الرحلة كلها، إذ يختلف رافالوفيتش عن الرحالة الروس الآخرين، فلم يقصد بلادنا حاجاً ولم يلتزم بخريطة السياحة الدينية إلى الأماكن المقدسة التي أشبعها الآخرون وصفاً، ولا بآثار الأمم الغابرة في الشرق. لذلك كان القارئ الروسي أمام نص لم يألفه من قبل.

أتت رحلة رافالوفيتش في إطار برنامج طبي متعلق بالوقاية ودراسة منابع جائحة الطاعون، اقترحه بنفسه على وزارة الشؤون الداخلية القيصرية فابتعثته وكلفته بإتمام المهمة. يقول رافالوفيتش: "إن ما ورد في أبحاثي يلفت الانتباه إلى الظروف المحلية التي يظهر فيها الطاعون وينتشر". وكأنه يعني تصوره الشخصي لتحليل جميع ظروف الشرق كشاهد عيان لتحديد منشأ الوباء. من أجل هذا الهدف جاب رافالوفيتش عدداً كبيراً من مدن العالم العربي. لماذا؟ ما الداعي لكل هذا الوصف؟

استحوذت على اهتمام الطبيب أحوال الصحة العامة لسكان البلاد العربية. وقد أعطى مهمته بُعداً شمولياً يتفق مع متطلبات الصحة في تلك الحقبة الزمنية. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر لم يكن منشأ الطاعون معروفاً بعد، وإذا كان ناتجاً عن جراثيم فلم تكن معروفة فترة حضانتها وتكاثرها. كانت هنالك آراء مختلفة كذلك بالنسبة للمناطق كمصر سوريا وتركيا، ولظهور هذا الوباء وانتشاره. ولم يكن واضحاً كذلك ما هي الأدوات أو المواد التي تحمل العدوى وتنقلها.

الردّ العلمي المعلل على هذه الأسئلة كان يبعد قرابة خمسين عاماً عن زمن رحلة رافالوفيتش، أي عند اكتشاف جرثومة الطاعون في العام 1894. لذلك، كان على رافالوفيتش أن يكتب عن كل شيء شاهده. أما في موضوع مهمّته نفسها، فكان عليه أن يقرّ بأن "التوضيح النهائي لكل القضايا المعلقة والتي هي موضع نقاش، يجب أن يظهره المستقبل عبر المساعي المشتركة للباحثين المتتبعين من جميع الأمم الراقية".

في المقابل، يدين المستشرقون الروس لرافالوفيتش بوصف حيّ لظروف الحياة في الشرق منذ انطلق في رحلته من سان بطرسبورغ في 2 شباط/ فبراير 1846 حتى ختامها في 21‏ تشرين الثاني/ نوفمبر 1847.

بحثاً عن الطاعون

يتحدث رافالوفيتش عن مسار رحلته، يقول: وصلتُ إلى القسطنطينية في 2 آذار/ مارس 1846، حيث أمضيت أربعة أشهر ونصف الشهر. ثم زرت إزمير والإسكندرية والقاهرة ‏ومصر السفلى، وتفقدت القرى على ضفتي النيل والمنصورة ودمياط... وبعد عودتي إلى القاهرة في 14 نيسان/ أبريل توجهت عبر الصحراء الى برزخ السويس والعريش ثم الى فلسطين وسوريا مروراً بغزة ويافا والقدس وبيت لحم وغور الأردن والبحر الميت والناصرة وطبرية وحيفا وعكا وصور وصيدا وبيروت وطرابلس ودمشق ودير القمر واللاذقية والإسكندرون وأنطاكية وحلب ‏وحماه وحمص وزحلة... وفي 8 أيلول/ سبتمبر وصلت الاسكندرية عائداً من سوريا.

الرحلة كانت مأثرة فريدة في طبيعتها، قضى فيها العالم قرابة 34 شهراً – من 2 شباط/ فبراير 1846 حتى 21‏ تشرين الثاني/ نوفمبر 1847- من التنقل المتواصل على القارب الصغير والجمل أو الحصان أو البغل في حرّ منهك أو رياح خماسينية، أو في مواسم الأمطار الغزيرة. وكان يبجث في مرض الطاعون الذي كان يعرف عنه القليل في حينها، وعوامل انتشاره.

بعد ذلك توجهت في تشرين الأول/ أكتوبر إلى أعالي النيل لدراسة المنطقة الممتدة إلى الجنوب من القاهرة، ومصر الوسطى والعليا وبلاد النوبة السفلى، تفقدت الفيوم ونواحيها ومدن بني سويف والمنية وأسيوط ومنفلوط وقنا وأسوان والدير وعدداً كبيراً من القرى ‏على ضفتي النيل حتى وادي حلفا والنوبة. وفي ختام جولتي هذه بدأت في ‎ 20 كانون الأول/ ديسمبر رحلة بطريق البرّ إلى مناطق الدلتا الداخلية ومصر السفلى. ثم وبإذن من معاليكم (وزير الداخلية) بدأت في ‎ 30 نيسان/ أبريل 1847 بتفقد الشاطئ الشمالي الغربي لأفريقيا والمحاجر الصحية لموانئ البحر المتوسط. وقد استغرق ذلك ستة أشهر، زرت خلالها الجزائر وسهل متيجة ومدن بليدا ودبليس وجبة وتونس والمحاجر الصحية في مالطا ومرسيليا... ووصلت أخيراً في ‎21‏ تشرين الثاني/ نوفمبر إلى سان بطرسبورغ عائداً بعد أربعة وثلاثين شهراً من السفر.

تعتبر المستشرقة الراحلة إيرينا سميليانسكايا، التي اعتنت بنصوص رافالوفيتش، أن هذه الرحلة كانت مأثرة فريدة في طبيعتها، قضى فيها عالم قرابة 34 شهراً من التنقل المتواصل على القارب الصغير والجمل أو الحصان أو البغل في حرّ منهك أو رياح خماسينية، أو في مواسم الأمطار الغزيرة. لم تسنح لرافالوفيتش أوقات استراحة قصيرة إلا حين يكون في المحاجر الصحية، فكان ينصرف الى ترتيب مذكراته. ولحسن حظه أنه لم يلتقط عدوى الطاعون خلال رحلته.

أجمل مدن سوريا

قضى رافالوفيتش في بلاد الشام نحو خمسة أشهر بين نيسان وأيلول، أي في عزّ الصيف. يصف المدن والمعاناة من الحرارة المرتفعة فيها، إلا أن لطرابلس الشام موقعاً آخر لديه، فاعتبرها أجمل مدن سوريا. غريب أمر طرابلس، فقد عشقها الرحالة الكييفي فاسيل بارسكي (1701-1747) وسمّاها "المدينة المجيدة" واعتبرها كذلك أجمل المدن قبل نحو قرن من وصول رافالوفيتش إليها. فكيف كتب عنها؟

"تتعاطى طرابلس تجارة الحرير الخام وزيت الزيتون والاسفنج اليوناني الذي يستخرج من مكان قريب من الشاطئ. أما الإنتاج والنشاط الصناعي بصورة خاصة فقد انهار منذ جلاء المصريين عن سوريا. فعندما غادروا المدينة (نحو 1839) حملوا معهم مصادر دخلها السابق...".

"المنازل حجرية من طبقتين أو ثلاث مع تقسيم داخلي مريح. ‏في فناء كل منزل حوض ماء ونافورة تنساب منها المياه باردة وتظللها أشجار ضخمة من الليمون والبرتقال. كل هذه المميزات جعلت المدينة ألطف مدن المشرق وأجملها".

"من جبيل الى طرابلس 11 ساعة، والطريق اليها متعرّجة وتسير بموازاة الشاطئ البحري، لكنها تبقى على بعض المسافة منه بسبب الصخور الكلسية الضخمة التي تطوّقه". كل هذه المدة في الطريق بسبب "جبل شاهق وطويل شديد الانحدار يخترق السهل متجهاً من الشرق الى الغرب لا ينتهي إلا في البحر برأس عمودي يحمل اسم رأس الشقعة". 

كان عليه الالتفاف حوله: "أمضينا ساعتين ونصف الساعة حتى عدنا إلى نقطة على شاطئ البحر لا ينبغي أن تبعد سوى دقائق من النقطة التى انطلقنا منها عندما بدأنا هذه الدورة الكبيرة". ثم يتابع طريقه نحو القلمون فطرابلس، التي "تقع على مسافة أربعة أو خمسة فرستات" (وحدة قياس طول قيصرية تساوي 1067 متراً). يقول: "تلف المدينة بساتين الفاكهة الشاسعة ومزارع التوت وينساب من جبال لبنان نهر قاديشا الغزير الذي يزودها وضواحيها بالمياه العذبة. يبلغ عدد سكان طرابلس قرابة خمسة عشر ألف نسمة، ثلٹهم من العرب المسيحيين من الطائفة الارثوذكسية. الشوارع واسعة ونظيفة. تسير المياه في معظمها في أقنية مكشوفة من نهر قاديشا. المنازل حجرية من طبقتين أو ثلاث مع تقسيم داخلي مريح. ‏في فناء كل منزل حوض ماء ونافورة تنساب منها المياه باردة وتظللها أشجار ضخمة من الليمون والبرتقال. كل هذه المميزات جعلت المدينة ألطف مدن المشرق وأجملها".

إلا أن للجمال ثمناً غالياً تدفعه طرابلس وفق رافالوفيتش: "إذ تنتشر فيها حالات الحمى الدورية المستوطنة التي تشتد في بعض السنين. الجبال التي تحيط بطرابلس من الجهة الشرقية توقف أبخرة الرطوبة المتصاعدة باستمرار فوق سطح البحر وتكوِّن سحباً تنقلها الرياح الجنوبية الغربية إلى الجبال فلا تسمح لها بالتوغل شرقا فتتكثف فوق المدينة. كما أن غزارة المياه في المنازل وسوء تنظيم الأقنية وتمديدات الريّ، تشكِّل حولها مستنقعات ومجمعات مائية واسعة لا بد أنها من الأسباب الرئيسة لحالات الحمى هذه، والتي قد يكون بعضها من الأنواع الخطرة".

يزور رافالوفيتش الطبيب الوحيد المقيم في طرابلس، يقول: "الدكتور جيوستي طبيب أوروبي جيد يعيش في المدينة، وقد شاهد هنا خلال خمس أو ست سنوات من العمل نحو خمسين حالة حمى... ولا شك في أن الشرطة الطبية الجيدة لو كانت موجودة في المدينة، كان من شأنها ودون كبير عناء أن تبعد قسماً كبيراً من المؤثرات التي تسبب الأمراض والحمى نفسها. أو على الأقل أن تراقب المياه وغيرها من العوامل التي تسبب ذلك".

"تلف مدينة طرابلس بساتين الفاكهة الشاسعة ومزارع التوت وينساب من جبال لبنان نهر قاديشا الغزير الذي يزودها وضواحيها بالمياه العذبة. يبلغ عدد سكان طرابلس قرابة خمسة عشر ألف نسمة، ثلٹهم من العرب المسيحيين من الطائفة الارثوذكسية. الشوارع واسعة ونظيفة. تسير المياه في معظمها في أقنية مكشوفة من نهر قاديشا". 

"يقع ميناء طرابلس على مسافة ثلاثة فرستات إلى الغرب منها، قرب شريط رملي عريض وموغل عميقاً في البحر. وتقع على طرفه الشمالي بلدة الميناء التي تلقي السفن مراسيها قرب رصيفها. يسكنها قرابة ألفي نسمة من الذكور والإناث، ثلثهم من المسلمين والباقون من العرب الأرثوذكس. كل أهل دين يعيشون في حي منفصل، لكل حي سوقه ومنازله الحجرية. والحيّان محاطان بالبساتين..." 

تتعاطى طرابلس تجارة الحرير الخام وزيت الزيتون والاسفنج اليوناني الذي يستخرج من مكان قريب من الشاطئ. أما الإنتاج والنشاط الصناعي بصورة خاصة فقد انهار منذ جلاء المصريين عن سوريا. فعندما غادروا المدينة (نحو 1839) حملوا معهم مصادر دخلها السابق ولم يبقوا بدلاً منه غير أمراض الزهري التي لم يكن يعرفها الأهلون هنا قبل مجيء المصريين إلى هذه المدينة!".

ثم يتجه نحو مرفأ المدينة: "يقع ميناء طرابلس على مسافة ثلاثة فرستات إلى الغرب منها، قرب شريط رملي عريض وموغل عميقاً في البحر. وتقع على طرفه الشمالي بلدة الميناء التي تلقي السفن مراسيها قرب رصيفها. يسكنها قرابة ألفي نسمة من الذكور والإناث، ثلثهم من المسلمين والباقون من العرب الأرثوذكس. كل أهل دين يعيشون في حي منفصل، لكل حي سوقه ومنازله الحجرية. والحيان محاطان بالبساتين... موقع الميناء المشرع على الريح من جميع الجهات يجعل مناخها صحياً أكثر من طرابلس. لذا، فحالات الحمى أقل هنا بكثير".

في الميناء "مكتب أو محجر صحي صغير يزوّد السفن التي تغادر المرفأ بالوثائق، ويدقق في شهادات السفن الآتية من يافا وبيروت وقبرص وغيرها. لقاء الشهادات، وحسب كميات البضائع يتقاضى المحجر من ‎4 إلى ‎26 قرشاً عثمانيا على أساس التعرفة المعمول بها. يجمع مدير المحجر، أي الدكتور جيوستي، للخزينة عشرة آلاف قرش (نحو ألفي روبل)، دخلاً صافياً، ويعمل معه كاتب وثلاثة حراس".  

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....