تسعة ملايين مواطن فوق الستين يناضلون، ثلاثة ملايين آخرين يشكرون ويتمنون أن تمنّ عليهم السماء ـ عبر قرارت الحكومة ـ بالمزيد. إنهم أصحاب المعاشات (أو التقاعد) التأمينية ومستحقّو معاشات الضمان الاجتماعي للأسر الأكثر احتياجاً في مصر.
تتواجه هذه الأعداد الكبرى للمواطنين بأرقام زهيدة هي المبالغ التي يتحصّلون عليها شهرياً في ظلّ تزايد مسعور للأسعار في مصر وارتفاع بمستويات التضخم وتراجع الناتج الاقتصادي. وهو ما أدى على مدار ما يقارب العشرة أعوام الأخيرة إلى حالة شدّ وجذب وتدافعات بين الجانبين ـ أصحاب المعاشات والحكومات ـ إلى أن تمّ قبل أيام وعبر البرلمان إقرار قانون "زيادة المعاشات". فهل هي نتيجة مُرْضية لجميع الأطراف؟ هل هي كافية لأن تقول أن كبار السن في مصر والأرامل والمعيلات وذوي الاحتياجات الخاصة يعيشون حياة كريمة؟
أسر وأموال في الميزان
أرسل مجلس النواب مشروع قانون زيادة المعاشات بنسبة 10 في المئة إلى رئيس الجمهورية للتصديق عليه وإصداره ونشره في الجريدة الرسمية تمهيداً لصرف المعاشات بالزيادة الجديدة. عقب انتخاب الفريق عبد الفتاح السيسي، تم اتّخاذ قرارات عدة تتعلق بأصحاب المعاشات، منها بالطبع ما أصدره الرئيس مباشرة وفاجأ به الجميع، من أربع زيادات متوالية في معاش العسكريين. أما من هم خارج "البدلة الميري"، فتكفّلت بهم وزارة التضامن الاجتماعي، فتمّ رفع عدد المستفيدين من المعاشات غير الممولة (معاشات الضمان الاجتماعي) من 1.5 مليون إلى 3 مليون مستفيد، وهي معاشات "ناصر" و "السادات" وتذهب أغلبها للأسر التي يقوم على شؤونها أرامل ومطلّقات أو التي دون عائل ولذوي الإصابات أو الإعاقة.
و قد كان كثير من هذه الأسر لا يزيد حجم ما يصرف لهم شهرياً عن 74 جنيهاً، رفعت تدريجياً بحيث أصبحت جميعها فى حدود الـ 400 ـ 500 جنيه، أي بزيادة تصل إلى 500 في المئة، كلفت ميزانية الدولة ـ حسب التصريحات الرسمية ـ 7 مليارات جنيه. لكن هل كان ذلك لإسناد أسر لا يقل عددها فى أغلب الأحوال عن خمسة أشخاص؟
من لا يملك سرق من يستحقّ
الدعم المباشر من خزانة الدولة لمن لهم حقوق أصيلة التزام يتوجب على أية سلطة قائمة تلبيته، ولكن ماذا عمن استغلت الدولة دون حق مدخراتهم وسدّت بها ديوناً داخلية؟
هم جيش الموظفين بالقطاع العام والخاص عبر السنوات، وتُقدر أعدادهم بـ 9 ملايين مواطن. هؤلاء سطع اسمهم على الشاشات مع غزو الشعر الأبيض لرؤوسهم وغزو النظام لجيوبهم، عقب استيلاء وزير مالية مبارك الأخير يوسف بطرس غالي على أموال هيئة التأمينات والمعاشات لسد عجز الموازنة العامة، بما قدر بـ 435 مليار جنيه. كما ذهبت 200 مليون جنيه أخرى إلى بنك الاستثمار القومي، وأيضاً 300 مليون جنيه من صناديق تأمينات القطاع الخاص للمضاربة بها في البورصة، ما أسفر عن خسائر فادحة لحقت بتلك الأموال وبلغت 60 في المئة من أصولها.
ولم تجد الحكومة أمامها مخرجاً غير التحايل على هذا العجز باقتراح رفع سن التقاعد (المعاش) إلى 65 بدلاً من 60 عاماً.
نضال "فوق الستين"
جاءت ثورة لم تكتمل، وتوالت حكومات لم تقدم أي منها حلولا كاملة لاستعادة تلك الأموال، ومن فعل بقيت أوراقه حبيسة الأدراج.
لم يعد مليم واحد، وظلت المعاشات محصورة ما بين 400 ـ 1100 جنيه لا أكثر، وبدأ نضال "فوق الستين" عبر عشرات الوقفات والاعتصامات، تزايدت خلال العامين الماضيين إلى أن صدر القانون الأخير الذي يقر بتلك الزيادة، بحد أدنى 125 جنيهاً وبحد أقصى 323 جنيهاً، ورفع الحد الأدنى لإجمالي المعاش إلى 500 جنيه. كما نص على زيادة الحد الأدنى لأجر الاشتراك التأميني إلى 400 جنيه. وحسب إحصاءات حكومية، يستفيد من الحد لأدنى لزيادة المعاشات 2 مليون و624 ألف مواطن، وتتحمل الخزانة العامة للدولة تكلفة هذه الزيادة التي تبلغ حوالي 15 مليار جنيه.
يقول نائب برلماني ومؤسس حملة "أصحاب المعاشات عايزين حقهم: "نحن نواجَه دوماً بأنه تمّ تمويل الزيادات عبر خزانة الدولة مباشرة، وأن هذا يُثقل ميزان العجز، وكأنها دعوة مباشرة للتنازل عما لا تقدر على التنازل عنه".
أكمل خلال كلمته أمام البرلمان قبيل إقرار القانون: الزيادة 10 في المئة هي خطوة إيجابية من رئيس الجمهورية، لكنها غير كافية. فلدينا حكم قضائي من المحكمة الدستورية العليا بأحقية الصرف بأثر رجعي للفوائد المتراكمة على المبلغ الذي استولت عليه الحكومة عبر 10 سنوات، إضافة إلى ما أقرّته من حقنا الدستوري في المساواة بالحد الأدنى للأجور في مصر وهو 1200 جنيه. وأشار إلى أن حساب حجم الفوائد يجعل أجمالي الرقم ينخفض إلى تريليون جنيه، فكيف يستجدي "أصحاب التريليونات" حقّهم؟
أسر كادحة وميزانية مثقلة
قبل ثلاثة أعوام من إقرار القانون، وتحديداً في تموز/ يوليو 2013، قَدَّم عدد من الاقتصاديين المصريين عبر لجنة برئاسة الخبير الاقتصادي أحمد سيد النجار، ومن خلال التعاون مع وزارة التضامن الاجتماعي، رؤية اقتصادية تحاول رأب الصدع بين وجعين، الأول هو أحقية هؤلاء المواطنين بتلك الأموال وحاجة أسرهم لها من أجل الحياة الكريمة، والوجع الثاني الذي لا يقل امتداداً وعمقاً هو العجز الدائم بالموازنة مع تراجع ملحوظ بحجم الاستثمار الأجنبي.
تبنت الرؤية أفكارا عدة، منها فرض الحد الأقصى للأجور وإخضاع الصناديق الخاصة التابعة لمؤسسات أمنية وسيادية وغيرها إلى المراجعة المالية، من أجل تمويل هيئة تحمل اسم "استرداد أموال المعاشات والتأمينات" عبر هذه المصادر، ووفق خطة زمنية طويلة الأمد. وكذلك قيام هذه الهيئة ـ التي لم ترَ النور ـ بإدارة هذه الأموال عبر مشروعات صغيرة ربحية يملك أصحاب المعاشات أسهمها بشكل مباشر.
لم تتحقق تلك الحلول لأسباب عديدة، بينما بقيت الأزمة على حالها.
زيادة الـ 10 في المئة هي الثمرة التي وقعت الآن في جعبة أصحاب المعاشات، وحد أدنى للأسر الأكثر احتياجا؛ تطور غير كافٍ بعد انتظار طويل ووعود مرجأة التنفيذ.