مصر: من أين يأتي التسلسل الرقمي للقضايا السياسية؟

وفق إحصاءات رسمية أخيرة، يصل عدد القضايا المدنية والجنائية التي تشهدها المحاكم سنوياً إلى 11 مليوناً! ويصل مجمل عدد القضاة إلى 22 ألف قاضٍ من بينهم 11 ألف قاضٍ جنائي. ولك أن تعلم أن كافة القضايا السياسية في مصر تُدرَج تحت اسم قضايا جنائية. وتأتي على رأس تلك الدوائر التي تنظر في القضايا السياسية، ما تُعرف بـ "دوائر الإرهاب"، وهي الأشهر والأهم والأكثر وطأة بطبيعة الحال.
2023-02-13

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك

في ذلك اليوم الذي وصل فيه للنيابة بعد اختفاء عدة أيام في مقر مرعب مقفر، كانت هناك عشرات التفاصيل التي تربكه وتسحب من رصيد إدراكه لآدميته. رغم التشوش، فقد استيقظت خلاياه العصبية حين تلفّظ وكيل النيابة لأول مرة برقم القضية التي ينتمي لها: القضية 188 لسنة 2018.

 استشعر البرودة التي كانت تنخر عظامه طوال الأيام الماضية وتساءل: من أين جاء هذا التسلسل الرقمي ونحن لم نبرح بعد منتصف الشهر الأول من العام؟

بعد أشهرٍ من تجديد قرار الحبس على الورق أو توجيه أسئلة حول الأفكار والتوجهات، بلا قرائن - كما هو الحال في أغلب قضايا الرأي (دون نفي التورط الفعلي لكُثُرٍ في قضايا عنف وإرهاب...)، بعد أشهرٍ من التحقيق أمام النيابة العامة، انتقلت القضية إلى ساحة المحكمة. هناك تحوّل هذا الرجل إلى مجرد اسمٍ مكتوب على تلك الورقة الممتدة المعلّقة عند مدخل قاعة رئيسية في "معهد أمناء شرطة طرة"، حيث تنعقد جلسات دائرة قضايا الإرهاب. قال لنفسه في يومه الأول داخل القفص الحديدي: الأمر لم يقتصر على رقم القضية وحده ولكن على تسلسلي أنا نفسي داخلها، فأنا وبلا فخر المتهم رقم 142. من أين نأتي جميعاً وما هو الرقم الذي تحمله القضية الجديدة التي ينظر فيها الآن وكيل النيابة نفسه الذي تولّى التحقيق معي قبل أشهر، ملقياً اتهاماته على أذن ذلك الشاب مشوش السمع والرؤية، القادم لتوه من الدهليز الرهيب.

إنها سطورٌ من قصصٍ لا يرويها أصحابها على الملأ، لكنهم يتبادلونها في جلساتهم الضيقة فيما بعد، بِحيرة واندهاش محاولين البحث عن تفسير لهذا التسلسل الرقمي المهول. هل هو ذو دلالة مباشرة فعلية، أم أن له حسابات خاصة ذات قواعد مختلفة؟ وعلى كل حال، هل هناك مبرر لتضخم هذه الأرقام؟ وهل هناك أي منحى يسمح بموضوعيّةٍ بتفسير هذا الوضع غير الطبيعي، ويشرح أسباب حبس (عشرات) آلاف الأشخاص في مصر لمجرد شبهة الرغبة في الاعتراض؟

ذلك الرجل الشهير مثالاً

المهندس يحيي عبد الهادي على سبيل المثال، هو رجل ذائع الصيت في الأوساط السياسية المصرية. ووفق ما رصدته تقارير حقوقية فقد ألقي القبض عليه في منزله فجر 29 كانون الثاني/ يناير 2019 وعُرض على نيابة أمن الدولة العليا في اليوم التالي للتحقيق معه في القضية رقم 277 لسنة 2019. ظلّ الرجل محبوساً على ذمة هذه القضية حتى تاريخ استدعائه من قبل نيابة أمن الدولة العليا مجدداً في 31 كانون الثاني/ يناير 2021 ليفاجأ بالتحقيق معه في قضية جديدة تحمل رقم 1356 لسنة 2019.

إنه كانون الثاني / يناير من جديد مع فارقٍ لا يزيد عن عامين، ومع فارق في تسلسل أرقام قضايا متداخلة، ففي أي شهرٍ بدأ التحقيق في تلك القضية؟ وكيف أُدرج اسمه عليها في تاريخٍ سابقٍ لتاريخ القبض عليه؟ ومن المسؤول عن كل ذلك؟

مثال آخر حدث مع الباحث أحمد سمير سنطاوي، لكنّ القصة هذه المرة ذات مؤشرات عكسية، فقد ألقي القبض عليه في 1 شباط/ فبراير 2021 وتعرض للإخفاء القسري لمدة 6 أيام إلى أن تمّ التحقيق معه في رقم أقل وطأة هو 56 لسنة 2021. تعرّض سنطاوي لعملية تدوير، أي أنه أدرج اسمه في قضية جديدة خلال فترة حبسه، فقد استدعي للتحقيق في أيار/ مايو 2021 أي بعد أقل من ثلاثة أشهر، في القضية رقم 877 لسنة 2021 حصر أمن دولة عليا.

آلية العمل القضائي في مصر

وفق إحصاءات رسمية أخيرة، يصل عدد القضايا المدنية والجنائية التي تشهدها المحاكم سنوياً إلى 11 مليوناً!

وقال وزير العدل أن تطوراً كبيراً حدث في وتيرة التداول، حيث أن القياسات الدولية تشير إلى حاجة كل 14 ألف مصري لقاضٍ بينما في مصر يزيد العدد عن 33 ألفاً. ويصل مجمل عدد القضاة إلى 22 ألف قاضٍ من بينهم 11 ألف قاضٍ جنائي، ولك أن تعلم أن كافة القضايا السياسية في مصر تُدرَج تحت اسم قضايا جنائية. وتأتي على رأس تلك الدوائر التي تنظر في القضايا السياسية، ما تُعرف بـ "دوائر الإرهاب"، وهي الأشهر والأهم والأكثر وطأة بطبيعة الحال.

تلفّظ وكيل النيابة لأول مرة برقم القضية التي ينتمي لها: القضية 188 لسنة 2018. استشعر البرودة التي كانت تنخر عظامه طوال الأيام الماضية وتساءل: من أين جاء هذا التسلسل الرقمي ونحن لم نبرح بعد منتصف الشهر الأول من العام؟

إنه كانون الثاني / يناير من جديد مع فارقٍ لا يزيد عن عامين، ومع فارق في تسلسل أرقام قضايا متداخلة، ففي أي شهرٍ بدأ التحقيق في تلك القضية؟ وكيف أُدرج اسمه عليها في تاريخٍ سابقٍ لتاريخ القبض عليه؟ ومن المسؤول عن كل ذلك؟ 

في تقريرٍها الدوري السنوي (1)، قالت "الجبهة المصرية لحقوق الإنسان" (2)، إن دوائر الإرهاب الثلاث خلال عام 2021 عقدت 126 جلسة، نظرت فيها بـ 28959 قرار تجديد حبس لمتهمين في 2043 قضية أمن دولة، وقامت بإخلاء سبيل إجمالي 976 متهماً فقط على مدار العام، بمعدل 3.4 في المئة من إجمالي قرارات تجديد حبس المتهمين المنظورة أمامها. ومقارنةً بإحصائيات عام 2020 التي رصدتها الجبهة، انخفض عدد القضايا المنظورة بفارق 549 قضية وهو ما ترتب عليه نقصان عدد قرارات تجديد الحبس للمتهمين بفارق 8 آلاف (أغلبهم جُدِّد له أكثر من مرتين على مدار العام). وبالطبع انعكست هذه الزيادة على نسبة قرارات إخلاء سبيل المتهمين، ففي عام 2020 أخلي سبيل 758 متهماً، في حين وصل عدد المخلى سبيلهم عام 2021 إلى 976 متهماً.

في محاولة لفهم وتحليل التقديرات المختلفة لأعداد السجناء السياسيين في مصر، نشرت مجلة نيويورك تايمز لمراسليها في مصر تقريراً مبسطاً (3) اعتمد على زيارةٍ ـ لا يُسمح بها للصحافيين المصريين ـ إلى مكان عقد جلسات تلك الدوائر القضائية ورصد أعداد المسجّلين بالأقلام على أوراقٍ معلقةٍ على أبوابها.

جاء في التقرير أنه بتحليل مجموعة من الوثائق مثل هذه، وجدت النيويورك تايمز أنه خلال ستة أشهر، ما بين أيلول /سبتمبر 2020 وشباط/ فبراير 2021، تمّ احتجاز أكثر من4500 شخص. كما كان المدّعي العام يمدّد فترة السجن بعد كل عرضٍ قانونيٍ، في جلساتٍ تستغرق الواحدة منها عادة حوالي 90 ثانية، بحساب وقت العرض لكلّ متهم.

كما يشير التقرير إلى عدم وجود سجلاتٍ رسميةٍ لعدد الأشخاص المتحجزين على ذمة المحاكمة، والجدير بالذكر أنّ تحليل الصحيفة هو لنسخة مكتوبة بخط اليد يحتفظ بها محامو الدفاع المتطوعون بشقّ الأنفس.

لا زال السؤال عن التسلسل

في دأبٍ ومخاطرة، يحاول محامون مصريون بالفعل تقديم تلك الخدمة عبر صفحاتهم الإلكترونية. ينشرون بشكل شبه دوري أسماء من عُرِضوا بجلسات التجديد وأرقام قضاياهم، لكنّه أمر شديد الإرهاق إضافةً إلى ضرورة دوام المواظبة على حضور الجلسات التي كثيراً ما لا يحصلون في داخلها على حقهم في الدفاع، لكنهم كانوا وجهتنا للإجابة على السؤال الأساسيّ.

وجدتْ صحيفة نيويورك تايمز أنه خلال ستة أشهر (أيلول /سبتمبر 2020 وشباط/ فبراير 2021)، تمّ احتجاز أكثر من 4500 شخص. كما كان المدّعي العام يمدّد فترة السجن بعد كل عرضٍ قانونيٍ، في جلساتٍ تستغرق الواحدة منها عادة حوالي 90 ثانية، بحساب وقت العرض لكلّ متهم. كما يشير التقرير إلى عدم وجود سجلاتٍ رسميةٍ لعدد الأشخاص المتحجزين على ذمة المحاكمة.

حصلنا على إجابات شفوية من بعض المحامين (لن نذكر أسماءهم) وقد اتضح لنا فيما يتعلق بالقضايا السياسية - والتي تتسع لتضم وقائع الإرهاب والعنف من ناحية وأصحاب الرأي من ناحيةٍ أخرى - توافقَ هذه الإجابات حول السلطة التي تقوم بمنح كل متهمٍ رقماً في ملف قضية، وهي التي تُعرف بـ "نيابة أمن الدولة العليا" الموجودة في القاهرة دون غيرها من المحافظات.

ووفق صحيح القانون الحالي الذي ينظّم أغلب تلك القضايا دون تفريق، وهو "قانون الإرهاب"، فإن الأمر يبدأ من تحرير "محضر تحريات أول" من قبل "جهاز الأمن الوطني" يرسله إلى النيابة بهدف التصريح له بالقبض والتفتيش والاحتجاز لمشتبهٍ به لمدة 14 يوماً تُجدّد مرةً واحدة بهدف الحصول على دلائل وقرائن تدعم أو تنفي محضر التحريات الأول. وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة للقانون نفسه ومدى دستوريته واتفاقه مع الميثاق الدولي للحريات، فما يحدث على الأرض، أنّ فترات الاحتجاز تتخطّى المدى الزمني المنصوص عليه بكثير، بينما يكون المواطن المشتَبه به أو المتهم قد حصل على رقم قضية منذ اليوم الأول للتصديق على محضر التحريات. وعليه يكون من المنطقي - خاصةً في ظل تكرار ظواهر الاختفاء القسري وحملات القبض العشوائي - أن يشهد شهر كانون الثاني/ يناير تسلسلاً يتخطى المئات بينما يقارب الألفين في شهر أيلول/ سبتمبر، كما كان الأمر مثلاً بالقضية رقم (1833 لسنة 2019) حين تم القبض على ما يقارب 4 آلاف متهم على خلفية دعوة معارض من الخارج (محمد علي) للتظاهر.

يقول أحد المحامين: بشكل عام، هناك ميل منذ العام 2020 إلى تقصير مدة الاحتجاز غير القانوني، كما إلى سرعة صدور قرارات الإحالة من النيابة العامة للمحكمة. لكن يمكننا القول، بالمقابل، وإن بشكل تقريبي، أنه في عام 2022 الذي شهد حملة قبض موسعة تزامناً مع الدعوة للتظاهر في تشرين الثاني /نوفمبر 2021، شهدت نيابة أمن الدولة تحرير محاضر تحريات حديثة ضد ما لا يقل عن 4500 متهم بواقع يقارب 2000 قضية ناتجة عن محاضر تحريات حديثة.

***

إنها مصر التي على الورق وخلف القضبان، وبعض مما يجري فيها لا يمكن اختزاله ببعض الأرقام على الرغم من كل ما تحمله من دلالات موجعة وموحية في آن. 

______________________

1- تقرير الجبهة المصرية للحريات السنوي عن دوائر الإرهاب في مصر https://bit.ly/3HVPZ1N
2- وهي، وفق تعريفها بنفسها، جهة حقوقية أسستها مجموعة من الحقوقيين المستقلين المصريين في الخارج وفق القانون بجمهورية التشيك.
3- تقرير نيويورك تايمز عن أعداد المحتجزين السياسيين في مصر https://nyti.ms/3JY119w

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...