إشعار على زجاج الباب: "الوكالة البنكية مراقبة بالكاميرات". في مدخل الطريق السيّار إخبار: "من أجل سلامتكم الطريق مراقب بالكاميرات".. في كل مكان تجد نفسك فيه تحت كاميرا، عليك أن تفرح لأنك مراقب.
افرح، لن يسرق هاتفك أو نقودك في السوبر ماركت والمقهى وقرب البنك وأمام الصيدلية، بل حتى أمام دكان الجزار والحلاق..
هذه المراقبة التكنولوجية أكثر فعالية مقارنة بالمراقب في الأفلام القديمة حيث يجلس رجل أنيق في مقهى واضعاً ساقاً على ساق وينتعل حذاء فيه أبيض وأسود ويتظاهر بقراءة جريدة بينما هي مثقوبة ليراقب خصمه. لو بعث رجل مخابرات هذا الآن لما فهم المشهد ولما وجد عملاً.
عزيزي المواطن، أنت مراقب ولن تتعرض للاعتداء لأن اللصوص يخافون من الكاميرات أكثر مما يخافون من الشرطة. لهذا زادت مبيعات الكاميرات في المغرب بنسبة 45 في المئة في 2015. يمكن لهذا الخبر أن يزعج حتى الذين اشتروا كاميرات، لأن الوعي الجمعي لدى الأفراد يكره المراقبة التي تذكرهم بالشرطة، لكن المراقبة الآن ليس للشرطة بل لأفراد ذاتيين. صاحب المقهى هو الذي يراقبك. وحتى حين يحصل خلاف بينك وبين التاجر حول هل دفعت أم لا، فـ "الكاميرا هي الحل" للتأكد مما جرى. وكلما زاد خوف الناس زاد لديهم هوس التأمين الذاتي، وهذا يجعلهم يبجلون الشرطة.
لهذا هناك المزيد. ففي مدينة الدار البيضاء التي يسكنها خمسة ملايين شخص، أطلق الملك محمد السادس مشروعاً لتثبيت 760 كاميرا بداية 2016.
عين بوليسية فوقك
وهذه الكاميرات لم ينصبها مخرج هوليود في مواقع منتقاة، بل ستنصبها عين بوليسية تابعة لوزير الداخلية. وبالمناسبة، استعرضت وسائل الإعلام المغربية الهدف بسخاء باستخدام حرف العطف. الهدف: المراقبة الحضرية بواسطة الفيديو وتأمين الفضاء العمومي وتنظيم حركة المرور وضمان أمن الأشخاص والممتلكات وخفض معدل الجريمة وحماية البنايات والمرافق العمومية وربط كاميرات الشوارع بكاميرات موجودة سلفاً في المطار والميناء والأسواق التجارية والبنوك من خلال 220 كلم من الألياف البصرية.. وهذا سيسهّل الرصد الأوتوماتيكي للحوادث والتعبئة الفورية للقوات العمومية وتحديد الأغراض والأشخاص والعربات المشبوهة والتعرّف على السيارات المسروقة ومقارنة أرقام اللوحات بلوحات السيارات المبلَّغ عنها، وحساب سرعة السير وتحديد الهويات.. ومراقبة النقط السوداء للجريمة وحماية المُلْك العمومي من التخريب..
ألا يستحق كل هذا أن تفرح لأنك مراقب؟ آه. أنت لا تفرح لأن الكاميرا تنتهك حميميتك؟
طيب هناك جوابان، شخصي وحكومي.
الجواب الشخصي هو سؤال استنكاري: هل تتوهم أن حميميتك محصّنة أصلاً؟
منذ كم سنة تستخدم هاتفاً ذكياً وصفحة على فايسبوك تخزن كل معلوماتك وممارساتك وصورك؟
كل مراهق لديه هاتف ستكون صفحته على "الفايس" أدرى به وبروحه. غوغل يعرف الأفراد أكثر مما يعرفون أنفسهم. كل شيء مسجل: الرسائل والصور وتاريخها ومكانها يوماً بيوم. قديماً كان الإنسان يعذَّب ليحكي ماضيه، والآن فإن فايسبوك يعوض ذلك ويخزن ويقدم أسرار الفرد. انتهى زمن النسيان، انتهى الحق به. مع هذا الوضع يتغير مفهوم الحميمية.
أثر الكاميرا
مع الزمن ستصير المدينة ذكية تراقبك مثل الهاتف الذكي. ستعيش أمام الكاميرا لا خلفها كما في فيلم "الرجل صاحب الكاميرا" للمخرج الروسي دزيغا فيتروف. كيف تنعكس الكاميرا على الفرد؟
في اليوم الأول والثاني يتصنع، ينتبه، يقدم صورة نموذجية، يعرض قناعاً يناسب المكان، يتصرّف بحذر، يسعى للتطابق مع الجماعة ليتفادى أحكامها القاسية. في الشارع والمقهى والمسجد. هنا مثلاً سيحرص المصلّي على إظهار خشوع أكثر ولن يلعب بهاتفه إن استطاع.
سيداوم على القناع حتى ينتقل القناع للاشعور، فيتخذ وجهه شكل القناع. أشير لرسم لعلي فرزات عن موظف واظب على القناع حتى أخذ وجهه شكل القناع المستطيل. بعد سنوات سيتعود الفرد على العيش عارياً تحت الكاميرات. إذا كان الجميع مراقَبين فلا مشكل. يصير مثل الذي جاء إلى بحر ليسبح، لا يخجل من عريه حين يرى الجميع بلا ثياب. إذا عمّت هانت.
كانت الحميمية تعني الحفاظ على الرسائل الشخصية التي يطلع عليها شخص أو اثنان. الآن صارت مكشوفة للملايين. قوة التكنولوجيا تغيّر العادات.
هكذا سيتوسع مفهوم الحميمية. سيصير المنزل امتداداً للشارع ومقر العمل وستزول الجدران. لقد مكّن العلم الفرد من السيطرة على الطبيعة، والآن سيوفر العلم فرصة للسيطرة على الفرد نفسه. انقلب عليه سلاحه. عليك التعود على أن هاتفك يراقبك، يتجسس عليك ويسجل سيرتك طيلة عمرك ويكشفها للغير. تواضَع قليلاً.
الجواب الحكومي عن انتهاك حميميتك: تحت كل إعلان وضع الكاميرا في مؤسسة حكومية يوجد تنبيه قانوني يحيل على نص ورقمه: "تم وضع الكاميرا بعدما تمّ التصريح به لدى اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي. تتم معالجة بياناتكم الشخصية لأسباب تتعلق بسلامتكم. يمكنكم تقديم "شكاية" في حال اعتبرتم أن خصوصيّتكم قد انتُهِكت.
لا أحد يشتكي ولا أحد يحتجّ من أجل خصوصيته. ثم أن كثرة الاحتجاج ميّعته. وتمييع الاحتجاج هو تمهيد للاستسلام لديكتاتورية الشفافية التي تنتهك الحميمية.
ثم أن الدولة تعتبر أمنك أهم من حميميتك. ثم لو قُتلت في تفجير ألن تنقرض حميميتك؟ الدولة أدرى بمصلحتك منك في الفضاء العمومي. وهذا لم يبدأ اليوم. ففي الفضاء العمومي كان الأخ الأكبر يراقب منذ رواية جورج أورويل "1984" والتي صدرت في 1948، وتخبرك "كان ذلك الوجه ذو الشارب الأسود يطلّ محدقاً في وجه المارة". كما تخبرك أن بطل الرواية، وينستون، كان يتلقى الحقائق من "شاشة الرصد" التي تراقبه بالصوت والصورة وتنقلها "لشرطة الفكر". ولكي يتخلص وينستون من المراقبة، يعطي ظهره للكاميرا. لكن مع الزمن استسلم وصارت العادة غريزة لأنه يشعر أن ظهره مخترَق.
لقد استسلم مواطن اليوم. استسلم لمن؟
استسلم لمراقب مجهول. غوغل هو الأخ الأكبر الذي يراقبك في عالم اليوم. يندد ثوريّو فايسبوك بالمراقبة ويتهمون الـ "سيستم" ــ وهو غير مشخصن ــ بكل المصائب. والغريب أنه لا يمكن لوم "السيستيم" لأنه لا أحد... يكفي لوم الكاميرا.