الخطاطة السردية لتغيير قيادة "حزب العدالة والتنمية" في المغرب

القصر يستعيد صدارته ونفوذ محمد السادس بلغ أوجه. هناك موجة ارتداد سياسي واجتماعي، والأولوية للتمسك بالوضع القائم في المغرب، لأنه أفضل مما يجري في الجوار..
2018-01-07

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
سعد يكن - سوريا

تذكيراً بالوقائع: هذه عناوين الصحف المغربية في منتصف كانون الاول/ ديسمبر 2017، بعد أسبوع من مؤتمر "حزب العدالة والتنمية" الذي أسفر عن مغادرة عبد الإله بنكيران لقيادة الحزب بينما هو في أوج شعبيته وانتصاراته الانتخابية، واستبداله بسعد الدين العثماني، وذلك بعد أن رفض المجلس الوطني للحزب (برلمان الحزب) تعديل المادة 16 من النظام الأساسي التي تحصر المدة الانتدابية للأمين العام في ولايتين. وبذلك فقد بنكيران رئاسة الحكومة ومعها رئاسة الحزب.

حتى ذلك التاريخ، عبرت الصحف عن الفرح أو الشماتة بإزاحة بنكيران لكن، وللمفارقة، من دون فرح وتهليل لاستقبال بديله. قالت الصحف: "المؤتمر الثامن لحزب العدالة والتنمية يطوي صفحة بنكيران". "إبعاد بنكيران ومناصريه من قيادة الحزب". "انقلب عليه الوزراء الذين وصلوا بعمله لمواقع المسؤولية". وكان هناك أيضا أسئلة كثيرة عن مستقبل الحزب.

كانت التحليلات على مواقع التواصل الاجتماعي أكثر وضوحاً من مقالات الصحافيين المحترفين:  

"تيار الوزراء ينتصر على القواعد لكي لا يُفسد علاقته بالمؤسسة الملكية". "حزب العدالة والتنمية يستبدل زعيمه الشعبوي الذي ينتج خطابا ساخراً ويهاجم رجال القصر بقسوة". "بهذا القرار شاع إحساس أن الحزب يُدار من الخارج لا من الداخل". "تذكير من جديد بانتصار فرسان البلاط على استقلالية الأحزاب". "قادة الحزب يستغنون عن الزعيم الذي أوصلهم للمناصب الوزارية لصالح بطل مزيف استجابة لقوة خارجية"...

يتشكّل التيار المحافظ في الحزب من وزراء وبرلمانيين ومنتخبين في مواقع متقدمة يقودون سيارات رباعية الدفع بعد سنوات الفقر. وقد فَرضت مواقعهم موقفهم. هم مع رئيس الوزراء. كانوا مع بنكيران وهم الآن مع العثماني. هم مع الكرسي لا مع الشخص..

في هذا السياق، قال المحلل السوسيولوجي محمد الناجي: بعد انتخاب العثماني، صار حزب العدالة والتنمية رسمياً في خدمة الحكم، والانتخابات المقبلة فارغة المعنى..

على هذا الفرض، فقد تمت العملية بنجاح. تمّ ترتيب المشهد الحزبي المغربي كاملاً ما بعد انحسار ارتدادات الربيع العربي.

ولتقديم مراحل هذا الترتيب سنطبق بنية السيناريو الخماسية، ليظهر أن السياسة سردٌ أيضاً. وهو سرد يعبر تضاريس السياسة المغربية عبر "فلاش باك" يبدأ من آخر الفيلم ليستعيد بدايته. لنجرب:

الوضعية البدئية: الانتخابات تقرر

كانت الوضعية البدئية هي: فوز بنكيران في انتخابات تشرين الاول/ أكتوبر 2016 وتعيينه حينها رئيساً للوزراء لتشكيل الحكومة. بنكيران شكر الملك على احترام المنهجية الديمقراطية. بالموازاة مع ذلك انطلق جدل حاد.

المستوى الأول للجدل هو أن الذين يرفعون شعار عاش الملك صباح مساء يعبِّرون عن غضب شديد من أن بنكيران يعبِّر عن ولائه للملك وإيمانه بالملكية. إنهم يتهمون بنكيران بالانبطاح لملكهم.

سبب الغضب؟ يزاحمهم في مصدر رزقهم.

المستوى الثاني للجدل حساب على طريقة جحا. فمن بين ثمانية وعشرين مليون مغربي يحق لهم التصويت تسجل 16 مليون في اللوائح وصوت سبعة ملايين فقط. وحصل "حزب العدالة والتنمية" على مليون ونصف المليون صوت، وفاز ب 125 مقعد في البرلمان.

أعفى الملك بنكيران من مهمة تشكيل الحكومة وعين بدلاً منه سعد الدين العثماني، الرجل الثاني في الحزب: فعل درامي لقوة سحرية خارجْ ــ حزبية تتدخل في مسار الحزب وتقترح عليه بطلاً جديداً.. مزيفاً، فهو خسر قيادة الحزب أمام بنكيران في 2012..

حينها شرع الخاسرون الأذكياء يقومون بفرز أصوات غير المصوتين للتأكيد بأنها أكثر من أعداد المصوتين، واستنتاج لا شرعية الانتخابات. ورفع الخاسرون العدميون لافتات مثل "لا أحد يمثلني"، أما الخاسرون الذين فقدوا السيطرة على أعصابهم فشرعوا في شتم المصوتين "أيها المواطن البسيط السعيد، مبروك عليك فوز العدالة والتنمية... مبروك عليك الذل والفساد".

وانطلق موال هجاء الشعب، سمى الرفاق الشعب شواري الذبّان (الذباب) وسموا أنفسهم "كمشة النحل"... (حفنة نحل أي نخبة النخبة)، يوبخون الشعب الذي لم يحقق أمانيهم. وفي الجرائد كانت صور الزعيم الخاسر في الانتخابات اكثر حضوراً من صور زعيم الحزب الفائز. كتب أحدهم "ترانا نحتاج إلى وطن جديد؟ أم تراه وطننا يحتاج إلى شعب جديد؟"


اقرأ أيضاً: إبداعات الساسة المغاربة لبلوغ القبة السحرية


المستوى الثالث للجدل هو من سيقرر في من سيشارك في الحكومة؟ رفض بنكيران مشاركة "حزب الاتحاد الاشتراكي" لأنه لم يفز ولأنه ماطل في الجواب ولأنه يدار من خارجه.. بعد خمسة أشهر من المفاوضات أعلن بنكيران فشله في تشكيل الحكومة بإملاءات خارجية وصرح: "انتهى الكلام".

الحدث المشوش: إعفاء الرجل الأول

في منتصف آذار/ مارس 2017 تمّ انتهاك الوضع القائم. أعفى الملك بنكيران من مهمة تشكيل الحكومة وعين بدلاً منه سعد الدين العثماني، الرجل الثاني في الحزب. بعد خمسة أشهر من المراوحة وقعت الصدمة الاولى. الواهب يتراجع.

إنه فعل درامي لقوة سحرية خارج ــ حزبية تتدخل في مسار الحزب وتقترح عليه بطلاً جديداً. وقد ظهر، بناء على ردود الأفعال الأولى لقواعد الحزب، أن البطل الجديد مزيف.

لماذا مزيف؟ لأنه خسر قيادة الحزب أمام بنكيران في تموز / يوليو 2012. حينها فازبنكيران بنسبة 85 في المئة وحصل العثماني على 13 في المئة من الأصوات.


اقرأ أيضاً: ثرثرة فوق الرباط


كان الإعفاء والتعيين صدمة لقواعد الحزب. ومع الصدمة هدية ذهبية عاجلة للقيادة تقول إن "الملك يريد العمل مع الحزب".

تراجع بنكيران إلى الظل وشكل العثماني الحكومة بسرعة وقد قبل دخول "حزب الاتحاد الاشتراكي" فيها. نجح العثماني، لكن لم يكن يبدو أن حزبه يدعمه. صار حزب العدالة والتنمية برأسين.

الاختبارات: الحلفاء والأعداء والتحديات

الزعيم يقع فهل ينهض؟ عرفنا البطل والبطل المضاد وعرفنا الجائزة. الملك يريد العمل مع حزب العدالة والتنمية، والتتمة المحذوفة للجملة: بدون بنكيران.

كان ظهور الفعل المشوش والمنتهك للوضع القائم هو المحطة الثانية من الخطاطة السردية، وقد ترتبت على ذلك اختبارات ومغامرات. بدأت المطاردة بين من يقود الحزب ومن يقود الحكومة ومع من ستقف قيادة الحزب وقواعده؟

يملك الأول شرعية انتخابية وشبيبة مناضلة ويتمتع الثاني بدعم القيادات الحزبية التي وصلت لمواقع المسؤولية في الحكومة والبرلمان والبلديات. للثاني امتياز: لديه أداة سحرية هي التعيين الملكي. تقبل التعيين في صمت وترتب عن ذلك واقع جديد.

التحليلات على مواقع التواصل الاجتماعي أكثر وضوحاً من مقالات الصحافيين المحترفين: "تيار الوزراء ينتصر على القواعد لكي لا يُفسد علاقته بالمؤسسة الملكية"، "حزب العدالة والتنمية يستبدل زعيمه الشعبوي الذي ينتج خطابا ساخراً ويهاجم رجال القصر بقسوة"، "بهذا القرار شاع إحساس أن الحزب يُدار من الخارج لا من الداخل"..

قمة العقدة: خصمان في المقدمة، ولا بد من قطع رأس أحدهما. بدأت مطاردات بطل التصويت وبطل التعيين. اكتشف بنكيران أن الكثير من أنصاره غيروا مواقعهم بين يوم وليلة. وهم يعلنون تقديرهم له لكنهم يوقرون ويجلون ويرحبون بالإرادة الملكية. مستوى التشويق يزداد. يُروى أن زعيماً حزبياً مغربياً ردد القول المأثور: رب اكفني شر أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم.

هنا، لا بد من ألاعيب صغيرة لتحقيق أهداف كبيرة. من يعرف كيف يستغل الفرص سينتصر شرط أن تكون القوى المساعدة فعالة أكثر من القوى المعاكسة.

الصدمة الثانية: زادت الاختبارات لتصعيد الرجل الثاني، قل نقد الحكومة في الجرائد لتسهيل مهمة البطل المضاد. في دهاليز الحزب مطاردات بين بطل التصويت وبطل التعيين. البطل المضاد يطارد بطل الانتخابات.

هناك تعقيدات وسقوط ونهوض... حاول أنصار بنكيران تعديل المادة 16 من القانون الاساسي للحزب والذي يفول لولايتين لكي تصير ثلاث ولايات. في 26-11-2017 رفض برلمان الحزب تعديل المادة للتمديد.

كانت تلك هي الصدمة الثانية.

ما سبب الرفض؟ الغيرة المفاجئة على الديمقراطية، مع أن في المغرب أحزاب لديها قيادات هرمة وتقود مدى الحياة.

تياران في الحزب

تشكل تياران للعب والمطاردة: تيار الوزراء وتيار أنصار بنكيران. يزعم تيار الوزراء أن التمديد لبنكيران سينظر إليه كتحدي للملك. فمن ينوي تحدي الملك؟

الوزراء يريدون طاعة الملك. وانتخاب شخص آخر غير العثماني لرئاسة الحزب كان سيجعل الحزب برأسين، ولإقناع المترددين تم التهديد - التحذير من انقسام الحزب.

من جهتهم ميز نشطاء "حزب العدالة والتنمية" بين تيار نقدي وتيار محافظ. من هو التيار المحافظ؟

يتشكل من وزراء وبرلمانيين ومنتخبين في مواقع متقدمة يقودون سيارات رباعية الدفع بعد سنوات الفقر. وقد فرضت مواقعهم موقفهم. هم مع رئيس الوزراء. كانوا مع بنكيران وهم الآن مع العثماني. هم مع الكرسي لا مع الشخص.


اقرأ أيضاً: في المغرب الرعب من فوز الإسلاميين باقٍ ويتعمّق


هناك تفسيران لموقفهم: أولاً طاعة الملك. ثانياً الحفاظ على الامتيازات.

منذ عشر سنوات كتب الوزير الأسبق خالد الناصري "فصل السلط مازال على الشكل الذي كان يقدمه به الحسن الثاني. فقد كان الملك الراحل يقول إن فصل السلط موجود على جميع المستويات باستثناء الملك".
فهمتم؟

شرح الناصري حينها "المغرب لا يعيش انتقالا ديمقراطيا، بل منزلة بين المنزلتين.

لصناعة فعل درامي مضاد طولب بنكيران أن ينشق كما انشق رجب طيب أردوغان عن نجم الدين أربكان.
لم يقع الفعل الدرامي المضاد. بنكيران صامت لحد الآن.

المرحلة الرابعة: المؤتمر يُحضّر لحل العقدة

لحسم الصراع، عقد الحزب مؤتمره الثامن. هنا كرر أنصار بنكيران محاولة تعديل المادة للتمديد له في المؤتمر، وخسروا التصويت في 9-12-2017، فوقعت الصدمة الثالثة.

وصوت المؤتمر على سعد الدين العثماني أميناً عاماً للحزب. وفي المؤتمر تمّ تصعيد العثماني لكي لا يفقد ثقة الملك كما قال مصطفى الرميد الذي كان يفترض أن يحل محل بنكيران في رئاسة الحكومة، لكنه رفض لكي لا يتهم بالخيانة.  

قدم المؤتمر حلاً للعقدة، تصعيد البطل المزيف ومنحه الكرسي. وعودة هذا البطل تعني سيطرته على الحزب فهل يسيطر على الحكومة؟ لا يوجد ضرورة لذلك.

كان يبدو للمراقبين أن المؤتمر شكلي والأمور مقررة سلفاً وقد تحقق السيناريو المتداول. الدليل؟

قبل المؤتمر، كتب علي أنوزلا مدير موقع "لكم 2": "يصعب تصور حزب العدالة والتنمية بدون زعيمه الشعبي والتاريخي والكاريزمي، عبد الإله بنكيران. لكن هذه هي الصورة التي يجب أن نتعود عليها بعد مؤتمر الحزب".


اقرأ أيضاً: كيف تؤسس ''جماعة العدل والإحسان'' خلافة في ثلاثة أيام؟


من جهته كتب مناضل حزبي إسلامي بمرارة "المنطق الديمقراطي يقتضي أن يعين الملك الأمين العام المنتخب للحزب السياسي الأول في الانتخابات... ولكن التملق الديمقراطي يقتضي العكس، وهو أن ينتخب الحزب السياسي الأول في مؤتمره رئيس الحكومة الذي عينه الملك أمينا عاما للحزب".  وهذا هو المسكوت عنه في دفاع التيار المحافظ في الحزب عن الجمع بين رئاسة الحكومة ومنصب الأمين العام.. هذا تقليد جديد من تقاليد وأعراف الاستثناء المغربي.

كان من الواضح للقياديين في حزب العدالة والتنمية أنهم لن يحصلوا على رضا القصر طالما بقي بنكيران زعيماً. وجب أذاً إرساله للاعتكاف في بيته. بعد إنجاز المهمة حان وقت الديماغوجية. قال القيادي في العدالة والتنمية عبد العزيز أفتاتي، ليهدئ الغاضبين: "الجميع يرغب في بنكيران.. وسيظل دوره حبيس التوجيه بثوب عفوي". من جهته صرح قيادي آخر في الحزب: "مؤتمر استثنائي في الأفق.. وقد يقود بنكيران الحزب مرة أخرى.

نهاية أوهام

ما النسق البنيوي الذي يتحكم في الحكاية الحزبية؟

لم يكن المحللون المغاربة بحاجة لابتكار خطاطة تفسيرية لما جرى، لقد كانت لديهم وقائع سابقة مشابهة. إنها مرحلة العزل الديمقراطي لزعيم الحزب بواسطة أعوان السلطة المنتفعين والمنتشرين في الأحزاب، وهم العدو الأول للزعيم وهم جاهزون لإرساله إلى بيته إن هدد مواقعهم المدرة للعسل.     

تبحث السرديات السياسية عن قوانين جامعة، ويبدو أن هذا هو القانون الذي يحكم المغرب.

الوضع النهائي: تبات ونبات؟

المحطة الخامسة من الخطاطة السردية هي الوضع النهائي، السلطة للملك والمهاترات بين الأحزاب، الشماتة للرابح في الانتخابات والجائزة للخاسر وله سمات. فالصحف تصف العثماني بأنه ماهر في المشي على البيض.

الدليل؟ تتحدث الصحف عن تعديل حكومي في الأفق والمشاورات ليست بيد رئيس الوزراء. القصر يستعيد صدارته، ونفوذ محمد السادس بلغ أوجه، والدولة لديها موارد لفرض إرادتها. هناك موجة نكوص وارتداد سياسي واجتماعي، والأولوية للتمسك بالوضع القائم في المغرب لأنه أفضل مما يجري في الجوار الإفريقي والعربي. تسري همسة تؤكد أننا البلد الأفضل والأكثر أمناً وهذا يولد رضا وخدر ويدفن الأسئلة.

إنه انتصار فرسان البلاط ونهاية مرحلة. القطار على السكة والشعار هو أن ارتباط المرشحين للوزارة بالمحيط الملكي فيه خير لكل حزب. هكذا سيعيش الوزراء في تبات ونبات وسيخلفون صبيان وبنات.

... هكذا تنتهي الحكايات. لكن في السياسة الأمر مختلف، لأن كل حكاية تلد أخرى. ففي المرحلة التالية، وحين ستندلع احتجاجات، لن تسمع للوزراء أصوات. وستتجه أنظار المراقبين للقصر. وقد يتم حينها حل الحكومة فتجرى انتخابات جديدة قد تحرم أولئك الوزراء من الثبات والنبات والكراسي.


اقرأ أيضاً: الرفيق يدخل الحكومة تحت إبط الكفيل فقيهاً ومليارديراً


مقالات من المغرب

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...

للكاتب نفسه

حكي الفقر.. تحليل الفقر

الأدب هو خبرة الإنسان في العالم منذ الخلق إلى الآن. علم الإجتماع يعرّي، يحلل، يفسر.. الادب يلتقط المشاعر التي تفرزها المصائب، تلك التي جرتها السياسات والأنظمة على الافراد..