يراهن بعض الحكّام العرب على تحول كبير في السياسة الخارجية الأميركية بعد الانتخابات المقبلة. فالأكثر حظاً في الانتخابات، هيلاري كلينتون، مقربة من الخليج وتركيا، والقاسم المشترك لكل المرشّحين، حتى لو بتفاوت - وبدرجة أقلّ ساندرز - هو الصداقة لإسرائيل والعداوة لإيران. أي أنّهم جميعاً على مسافة من السياسة الحالية. إلّا أنّه وعلى الرغم من ذلك، فإنّ السياسة الخارجية الأميركية المقبلة لن تكون لمصلحة طرف أكثر من الآخر بل ستكون على الأرجح قائمة على "انعزالية/ مافياوية" أكبر، وعلى حماية اقتصاديّة أقوى، وهذا ما بدأ يتّضح من خلال الخطاب السياسي لجميع المرشحين، وليس فقط لترامب. أما سبب ذلك فيعود إلى متغيرين أساسيين حصلا في الولايات المتحدة الأميركية خلال السنين العشر الأخيرة، أحدهما إيجابي، وهو انخفاض الاعتماد على الطاقة المستورَدة، وثانيهما سلبي وهو الارتفاع الهائل في الدَين العام.
الدَين العام والطاقة
وصل الدَين العام الأميركي إلى نقطة تحوّل مفصلية، إذ أصبح أكبر من الدخل القومي، وذلك لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت ذاته، انخفض معدل النمو في السنوات العشر الأخيرة إلى أدنى مستوياته، بل من المحتمل أن تدخل أميركا في مرحلة انحسار اقتصادي السنة المقبلة. ولأول مرة منذ 70 عاماً، سيكون الدين العام في أعلى مستوياته في أواخر "دورة النمو الاقتصادي" (التي تدوم عادة بين 6 و8 سنوات).
ماذا يعني هذا؟ وما تأثيره على السياسة الخارجية الأميركية؟ ببساطة فإن الإدارة المقبلة لن تتمكن من دفع فوائد ديونها من خلال مداخيلها، حتى لو رفعت الضرائب إلى حد تمتص به كل النمو الاقتصادي.
هذا ما يعلمه تماماً المرشحون للرئاسة! فما بالهم إذاً يتكلمون عن تخفيض الضرائب على الشركات بدلاً من رفعها، وبالتالي رفع سقف الدين العام المسموح به من الكونغرس في شهر آذار/مارس من السنة المقبلة. هل يعني ذلك أنّ المرشّحين يستخفون بشعبهم أم أنّ لدى الرئيس الجديد (أيّاً كان!) أجندة خفية، تماماً كما حصل بعد انتخاب جورج بوش الإبن؟ الجواب نعم بالتأكيد، بمعنى أنّ الوعود في الخطاب السياسي (لدى جميع المرشحين) تفترض استراتيجية سياسية جديدة، خاصة وأنّ حوالي 8 تريليون دولار من الدين العام مملوكة من الخارج، أكثرها موجود بين أيدي دول معادية أو لم تعد صديقة لأميركا..
ماذا إذاً ستكون خطة أقوى دولة في العالم وأكثرها ديناً؟
هنالك بعض الاختلافات بين مرشح وآخر، والفروقات في الأولويات، إلّا أنّ الكلّ متّفق على بعض المسائل. منها ما هو تكملة لسياسة أوباما.. ومنها الآخر، جديد، سيغير من قوانين اللعبة، بحيث تحل الولايات المتحدة الأميركية مشاكلها على حساب العالم مرة أخرى، من خلال:
1- عدم التدخل العسكري المباشر قدر الإمكان،
2- التعويض عنه بالعقوبات والتطويق،
3- رفع سقف الدين العام نتيجة تخفيض الضرائب وإجبار الدول الصديقة "المرهونة عسكرياً" للولايات المتحدة على حمل القسم الأكبر من الديون الإضافية (ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية والخليج العربي)،
4- تحميل المصاريف العسكرية الخارجية (القواعد الأميركية) لتلك الدول نفسها بشكل أساسي.
كل ذلك يجب أن يتزامن مع بعض الحماية الاقتصادية التي نرى بذورها حالياً في قرار أوباما دعم قطاع الحديد، وفي التصريحات المعادية للصين التي تحضِّر لتلك الحماية وتبررها مسبقاً على الأقل.. مما سيؤدي إلى تخفيض العجز في ميزان المدفوعات وسيرفع من ناحية أخرى النمو الأميركي لاحقاً.
لم يكن، ولن يكون ذلك ممكناً لولا انخفاض الاعتماد الأميركي على استيراد الطاقة، إذ برهنت الولايات المتحدة أنّها تستطيع زيادة إنتاجها 5 ملايين برميل في اليوم خلال السبع سنوات الأخيرة، وأصبحت بذلك الدولة التي تقرر الحدّين الأدنى والأعلى لسعر البرميل ((Swing state. ووضعت بالتالي دول الخليج في موقع أضعف من السابق عسكرياً (سوريا) ومالياً (ابتزازها بفتح ملف 9/11). وهذا ينطبق أيضاً على إسرائيل التي ضعف موقعها الاستراتيجي، حيث يلاحظ أن القاعدة المضادة للصواريخ المنوي بناؤها في إسرائيل ستكون لأول مرة تحت سيطرة الأميركيين مباشرة.
خلاصة
هذه الإستراتيجية الجديدة القائمة على انعزالية أكبر، لا يمكن ان تتحقق إلا بتجييش الشعور الوطني الأميركي، وخلق جو من الحرب الباردة مع روسيا والصين، بالإضافة إلى الضّغط على الدول الصديقة ذات الادّخار الكبير (نتيجة الفائض التجاري مع أميركا)، لعدم بيع سندات الخزينة الأميركية بل لزيادة شرائها بشروط أسوأ.
ومن هنا نستطيع أن نفهم هذه اللّهجة الأميركية الانتخابية المعادية للخارج، وتحضير الرأي العام الأميركي والعالمي لقوانين لعبة جديدة على الصّعيد العسكري من إعادة تموضع بدأ منذ فترة، وكذلك على الصعيد الاقتصادي الذي سنرى قواعده كاملة لاحقاً. وهذه اللعبة الجديدة هي:
1- أقل ليبرالية. فمن سخرية القدر أنّ من سيضعف الليبرالية هي الدولة الأكثر ليبرالية وليس تلك المناهضة لها.
2- وأكثر "مافياوية" أي مبنيّة على "الخوّة مقابل الحماية". فأميركا ستتحول من دولة عسكرية إلى دولة بوليسية للعالم (استخبارات، تنصت، خنق اقتصادي، خوّة..)
الواقع أن الوضع الاقتصادي الأميركي وصل إلى حد لن تستطيع معه الإدارة بعد الآن أن تحل أزمتها إلا على حساب الخارج (من دون تدخل كبير لجيوشها)، وأهم أدواتها في الشرق الأوسط هو المحافظة على توازن القوى، فلا تسمح لأي طرف أن ينتصر أو أن يُهزم (حماية مقابل بدل أتعاب للأضعف، وعقوبات اقتصادية وضغوطات على الأقوى).. مما يسهل امتصاص قسم من الفائض المالي الخليجي إلى الولايات المتحدة.