بعد إزاحة عقبة مقتدى الصدر بنجاح، تمكّنت القوى الشيعية العراقية الحليفة لطهران من تشكيل حكومة محاصصة "ائتلافية" خاطفة، وذلك بعد استعصاءٍ سياسي دام عاماً. وهو استعصاءٌ رافقته مواجهاتٌ ومناوراتٌ سياسية عنيفة، مهدت لبيئة تصادم بوتيرةٍ متسارعة أكثر من أي وقتٍ مضى، بل وكادت أن تؤدي إلى صدام مسلح طويل الأمد.
الجديد: الإطاحة بالمحرمات السياسية والأمنية
صراع ما بعد الاقتراع المُبكر في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 كشف عن عمق الانقسام الشيعي - الشيعي، وهشاشة النظم المتحكمة بـ "العملية السياسية العراقية" المرتكزة على محاصصة الدولة عبر الإبقاء على التوازنات التقليدية. لكنه أيضاً أطاح بالمحرّمات السياسية والأمنية التي تشددت الطبقة الحاكمة في تحصينها طوال 18 عاماً مضت. فقد عُطلت الأدوات الدستورية للدولة عبر احتلال ومحاصرة مباني السلطتين التشريعية والقضائية واقتحام مقار الحكومة، في مسعىً إلى تفكيك هياكل السلطة القائمة وإحلال أخرى بديلة، على أساس ترجيح فائض القوة ومبادلة العنف بين الخصوم كأداة تكتيكية لخفض التوتر وحيازة المكاسب وفرض شروط تفاوضية.
من الاقتراع إلى الاحتجاج.. انقلابات المشهد العراقي
17-08-2022
العراق بلا حلول وتحت رحمة حرب ممتدة
30-08-2022
تحايلت منظومة سُلطة الرؤوس المتعددة في العراق على الرغبة الشعبية بصياغة عقد سياسي جديد قد يُفضي إلى قيام دولة مؤسساتية أكثر استقراراً وعدالة ومواطنية كإفراز مباشر لحراك "تشرين" 2019. وقد استطاعت هذه المنظومة تجاهل المطالب العمومية وتفاديها من خلال الاتفاق على عقد انتخابات مبكرة. لم يكن الاقتراع المُبكر ممراً لإحداث تغيير في الجسم السياسي من طرف قوى الرفض الاجتماعي والمُحتجين، بقدر كونه مخرجاً آمناً لقوى السُلطة. كما أشارت المقاطعة الواسعة له إلى تفاقم اليأس العام في ظل استمرار تغذية "العملية السياسية" من البئر المالحة ذاتها منذ 2003.
عندما تشكلت حكومة حلفاء طهران برئاسة عادل عبد المهدي وفقاً لصيغة "تهجين تقاسم السُلطة" التي رعاها تفاهم إيراني - أميركي أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2018، وعقب انتفاضة البصرة المُدوّية، لم يُلتَفت إلى مطلب الجمهور بالتغيير ولا إلى نتائج الاقتراع. بل أصرَّ النظام حينها على تشكيل حكومة حماية مصالح فقط، لاغياً الإرادة العامة للناخبين، مما شَكّلَ خيبة أمل مُدمِّرة لثقة المُصوِّتين.
نقص الثقة العمومية وحتمية تنامي قوة الرفض الاجتماعي قادا إلى اندلاع "احتجاجات تشرين" 2019 التي كانت قد مهدت لها أساساً احتجاجات البصرة قبل عام. لكنّ خيبة الأمل الأكبر كانت في فشل الاحتجاج بتحييد قوى النظام وعجزه عن خلق بديلٍ سياسي.
وقد بلغ الانقسام ذروته بين القوى الممسكة بالسلطة، إضافة إلى توظيف العنف الميليشياتي، وذلك حين انتقل الصراع المكوناتي العام إلى التناحر الفئوي داخل المجموعات الطائفية ذاتها. وقد اشتبكت هذه المجموعات بضراوة حول حيازة أوزان تمثيلية داخل "مجلس النواب/البرلمان" باعتباره "الدعامة الشرعية" لنظام سياسي تستند هياكله الأساسية الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) على عاملين مدمِّرَين، هما: قوة الجماعات المسلحة الباطشة، و"الثلاثية المقدسة" للسنة والشيعة والكُرّد. ولهذا ظلّت الديمقراطية العراقية هشة وضعيفة وفاقدة لأهلية تمثيل العموم والمواطِنية، بقدر تمثيلها للجماعات السياسية ومُشغِّليها الإقليميين والدوليين.
حكومة العام الواحد لعبد المهدي كانت واحدة من أسوأ النسخ الحكومية لمرحلة ما بعد 2003، لأسباب تتعلق بتقويض الاستجابة لقناعة الناخبين و"الديمقراطية"، فضلاً عن توسعة حقل الفساد، والتدخل الخارجي المباشِر، والإفلات من المحاسبة، وانتهاءً باستخدام القوة المميتة المفرطة وقطع الإنترنت لقمع الاحتجاجات العامة.
بدت أزمة حيازة السُلطة عقب الاقتراع المُبكر غير قابلة للتفكيك مع احتفاظ القوى الشيعية المتنافسة بمساحات وأدوات تنافس سلمية وعنفية بالدرجة ذاتها من القوة والندّية والموارد.. حتّى تفوقت مهارة المناورة السياسية للنفوذ الإيراني على الاستعصاء السياسي، لكنها فشلت في إيجاد مقاربة تضمن توازناً آمناً بين مجموعتي التنافس الشيعي، "التيار الصدري" و"الإطار التنسيقي".
تحايلت منظومة سُلطة الرؤوس المتعددة في العراق على الرغبة الشعبية بصياغة عقد سياسي جديد قد يُفضي إلى قيام دولة مؤسساتية أكثر استقراراً وعدالة ومواطنية كنتيجة مباشرة لـ "حراك تشرين" 2019. وقد استطاعت هذه المنظومة تجاهل المطالب العمومية وتفاديها من خلال الاتفاق على عقد انتخابات مبكرة.
بلغ الانقسام ذروته بين القوى الممسكة بالسلطة والموظِّفة للعنف الميليشياتي، حين انتقل الصراع المكوناتي العام إلى التناحر الفئوي داخل المجموعات الطائفية ذاتها. وقد اشتبكت هذه المجموعات بضراوة حول حيازة أوزان تمثيلية داخل مجلس النواب باعتباره "الدعامة الشرعية" لنظام سياسي تستند هياكله الأساسية الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) على عاملين مدمِّرَين، هما: قوة الجماعات المسلحة الباطشة، و"الثلاثية المقدسة" للسنة والشيعة والكُرّد.
تبنى الإيرانيون الصيغة الآفلة ذاتها لـ "تهجين تقاسم السُلطة 2018" مع هامش غير مُرضٍ للأميركيين في تشكيل حكومة العراق 2022، وبتعديلٍ يحمل مخاطرَ مستقبلية تتمثل بعقاب الصدريّين وإزاحتهم من الصفوف الأولى للتشكيلة الحكومية، على الرغم من اضطرارهم لإبقائهم في المواقع القوية داخل الهياكل التنفيذية كعامل تهدئة واحتواء. لذا يُمكن اعتبار تشكيل الحكومة الجديدة التي يرأسها محمد شياع السوداني، "إزاحة مُقنَّعَة" مُستلهَمة من الإستراتيجية الأصلية لمقتدى الصدر التي استهدفت إزالة منافسيه الشيعة عبر "الإزاحة المُطلقة".
معضلة الصدر
ينشط الصدريون، بوصفهم تياراً شعبياً مهووساً بتمجيد زعامته وبسحق منافسيه وحلفائه معاً، وكتنظيم عقائدي انعزالي مسلح لا يؤمن بالشراكة إلا بحدود منافع التوازن الصوري داخل أجهزة النظام. أما المنافسون الشيعة الآخرون فيحتكرون قطاع السلاح الفصائلي، وحزمة واسعة من المجموعات الأمنية الرسمية النشطة داخل وزارتي الداخلية والدفاع وجهاز أمن الدولة، وتُعدّ السلطة القضائية أداتهم الأقوى لكبح مساعي تقويض النظام السياسي الحالي.
حاول مقتدى الصدر توظيف أدوات جديدة غير معتادة لتغيير قواعد التنافس السياسي، مستفيداً من الهزة العميقة التي أحدثتها احتجاجات تشرين، بدءاً من اعتماد قانون الدوائر الانتخابية الصغيرة المتعددة الذي قوّض القوانين السابقة المعتمدة على التمثيل النسبي وفق القاسم الانتخابي لأصوات المقترعين ("Sainte-Laguë method"). وبعد حرمانه من التمتع بفوزه الانتخابي وتشكيل حكومته الخالصة، لجأ الصدر إلى تحطيم الصورة الرمزية لقوة النظام باقتحام أنصاره للمنطقة الخضراء واحتلال مبنى البرلمان وتعطيل السلطة التشريعية، والاشتباك المسلح المحدود، سعياً لإسقاط السُلطة وفرض نفسه كبديل بوصفه "قائداً لتيار الإصلاح". بالمقابل أتاح الصدر لخصومه المناورة بالأدوات السلمية والعُنفية ذاتها مع فارق تفوقهم عليه بهيمنتهم على السلطة القضائية التي كَسرت طموحات الصدر بمزيج من الاحتيال القانوني وادعاء حماية الأطر الدستورية.
بعد حرمانه من التمتع بفوزه الانتخابي وتشكيل حكومته الخالصة، لجأ الصدر إلى تحطيم الصورة الرمزية لقوة النظام باقتحام أنصاره للمنطقة الخضراء واحتلال مبنى البرلمان وتعطيل السلطة التشريعية، والاشتباك المسلح المحدود، سعياً لإسقاط السُلطة وفرْض نفسه كبديل بوصفه "قائداً لتيار الإصلاح".
رأت إيران، مع تمسك الصدر بخطة إزاحة بقية فصائل الشيعية السياسية والتمهيد لانفراد فصيله بإدارة الحكم، ورفضه الانخراط بتسوية سياسية تضمن له شراكة حكومية مريحة، أنّ زعيم الصدريين يمارس انتحاراً سياسياً غير مسبوق ينسجم مع خطط تغيير المناخ السياسي العام في المنطقة ككل. كما بدا لها أنّ عزل الصدر، على الرغم من المخاطر المستقبلية، هو خيارٌ أفضل من بقائه دون ترويض.
ثلاثة عوامل حيّدت قوة الصدر التي برزت في لحظةٍ ما كقوة لا تقهر، تمثلت أولاً باللجوء إلى العنف المسلح كقوة أمر واقع تفرض سلطتها عبر الجماعات المسلحة في ظل الإدانة الدولية الواسعة، وثانياً بمهارة خصومه في استخدام السلطة القضائية كقوة رادعة إزاء قوة التفوق العددي للصدريين. أما العامل الثالث فقد تمثّل بقوة النفوذ الإيراني بوصفه ضامناً لأمن النظام السياسي للشيعية السياسية في العراق.
رأت إيران، مع تمسك الصدر بخطة إزاحة بقية فصائل الشيعية السياسية والتمهيد لانفراد فصيله بإدارة الحكم، ورفضه الانخراط بتسوية سياسية تضمن له شراكة حكومية مريحة، أنّ زعيم الصدريين يمارس انتحاراً سياسياً غير مسبوق ينسجم مع خطط تغيير المناخ السياسي العام في المنطقة ككل. كما بدا لها أنّ عزل الصدر، على الرغم من المخاطر المستقبلية، هو خيارٌ أفضل من بقائه دون ترويض.
"الشعب" العراقي وسؤال ولاءاته
15-10-2022
سارعت طهران عبر حلفائها إلى تشكيل حكومة (هيمن على مجرياتها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي) معتبرة ذلك مساراً للتهدئة وتعزيزاً للإمساك بالسلطة، ولمد نفوذ أكثر اتساعاً داخل الدولة لمواجهة مخططات الصدر المستقبلية ومحاولاته حيازة السلطة. لكنها، ومنذ الوهلة الأولى، بدت كحكومة محاصصة ضعيفة تفتقر لعناصر البقاء لولاية دستورية كاملة. وليس تضمين برنامجها الحكومي المقتضَب اجراءَ انتخابات جديدة مبكرة في غضون عام، إلا اعترافاً بهشاشة الوضع السياسي العام، وبأنّ ثمة نيران مُستعرة تحت رماد الهدوء المعلَن.