جاءت الإشارة الأولى في الخامس من أيلول / سبتمبر الماضي، عندما قررت مجموعة "أوبك بلس" بقيادة السعودية وروسيا خفض إنتاجها بمقدار 100 ألف برميل يومياً. وعلى الرغم من صغر حجم التخفيض إلّا أن الخطوة تتضمن رسالة تشير إلى أن منتجي النفط قد اعتادوا على معدل أسعار في حدود 100 دولار للبرميل، وأنهم سيراقبون تطورات السوق بدقة ليتخذوا الخطوات اللازمة لضمان الحصول على تلك العائدات المطلوبة، حتى ولو تطلب الأمر خفضاً يمثل عُشْراً على واحد في المئة فقط من الطلب العالمي.
الرسالة الثانية كانت موجهة إلى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن. فعلى الرغم من قراره بالمخاطرة السياسية والذهاب إلى الرياض للالتقاء بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لحثه على زيادة الإنتاج النفطي، إلّا أن الأخير وافق على زيادة طفيفة في حدود 100 ألف برميل يومياً في أغسطس/آب، وتم سحبها في الشهر التالي. ومنذ ذلك الوقت، اجتهد المسؤولون في إدارة بايدن، وخصوصاً مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ووزيرة المالية جانيت يلين، في حث الدول الخليجية على ضخ المزيد من الإنتاج وذلك تخوفاً من انعكاسات آثار الغزو الروسي لأوكرانيا على الأسعار، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية التي تستعد لإجراء الانتخابات النصفية للكونغرس، ويشعر الديمقراطيون أنهم مهددون بفقدان سيطرتهم على المجلسين مع ما يلحق ذلك من تبعات سياسية على إدارة بايدن وبرنامجها للحكم.
نتيجة لضعف الاستثمارات، يقدَّر أن حجم الطاقة الإنتاجية الفائضة أصبحت في حدود 1.5 في المئة من حجم الطلب، وهي نسبة متدنية جداً قد لا تغطي حدوث فجوة كبيرة في الإمدادات، وهي بذلك تعتبر عاملاً مساعداً على ارتفاع الاسعار.
في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها "تبعات". كما تبارى أركان إدارته والديمقراطيون في الكونغرس في طرح اقتراحات تتراوح بين وقف التعاون العسكري أو المضي قدماً في طرح قوانين تسمح بمقاضاة دول أوبك.. وغير ذلك.
أجواء المواجهة
وهكذا يبدو أن الاجواء التي تظلل العلاقات الأمريكية-السعودية عادت إلى فترة السبعينات من القرن العشرين، وبعد الحظر النفطي الذي أعقب الحرب العربية-الإسرائيلية في 1973، والتساؤل عن قيمة اعتبار السعودية حليفاً موثوقاً... والخطوة الأخيرة اعتبرت وكأنها دعمٌ مباشرٌ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ توفر له مداخيل إضافية، كما أنها تعتبر تدخلاً في الشؤون الداخلية إذ ينظر إلى خطوة خفض الإنتاج وما يتبعها من ارتفاع في الأسعار على أنها تصب لصالح الجمهوريين.
صدر تقرير صندوق النقد الدولي السنوي راسماً صورة كئيبة لمستقبل المناطق الاقتصادية الرئيسية الثلاث في العالم: الولايات المتحدة والصين ومنطقة اليورو، وأن معدلات النمو ستتراجع العام المقبل في المتوسط إلى 2.7 في المئة، وأن حالة عدم اليقين التي تسود العالم سياسياً واقتصادياُ ستجعله أقرب إلى الدخول في مرحلة الكساد.
السعوديون ردوا بأن القرار تم بإجماع مجموعة "أوبك بلس" وأنه ليس قراراً سعودياً منفرداً، وأنه استند على حسابات وتقديرات اقتصادية بحتة. وفي اليوم التالي لقرار المجموعة، صرحت كريستالينا جورجيفا، المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي أن التقرير السنوي لهذه المؤسسة الذي سيصدر بعد أسبوع سيتضمن تراجعاً في معدلات النمو العالمي. وبالفعل صدر التقرير راسماً صورة كئيبة لمستقبل المناطق الاقتصادية الرئيسية الثلاثة في العالم: الولايات المتحدة الأمريكية والصين ومنطقة اليورو، وأن معدلات النمو ستتراجع العام المقبل في المتوسط إلى 2.7 في المئة بدلاً من 2.9 في المئة كما كان التوقع قبل ثلاثة أشهر، وأن حالة عدم اليقين التي تسود العالم سياسياً واقتصادياً ستجعله أقرب إلى الدخول في مرحلة الكساد.
إحدى نتائج هذا الاضطراب الاقتصادي وما يتبعه من تضخم وارتفاع في معدلات الفائدة وتضعضع في شبكة الإمدادات على نطاق العالم، هو تراجع الطلب على النفط. ولهذا يبدو قرار أوبك وكأنه خطوة استباقية لما يمكن أن يحدث.
السجال الأمريكي-السعودي، على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا وتبعاته في ميدان الطاقة، أعاد إلى الواجهة قضية أمن الطاقة وتنويع مصادرها، كما أشار إلى أن وجود دور حكومي في التنظيم ووضع السياسات أصبح ضرورة، وأنه من المهم ألّا يُترك الأمر كلية إلى القطاع الخاص كما كان سائداً إلى حد كبير خلال العقود الماضية.
على أن ما يجري بين واشنطن والرياض يعكس أزمة أعمق من خلاف بين زعيمين. فمع أن العلاقات بين البلدين تعود إلى اللقاء الشهير بين مؤسس السعودية عبد العزيز والرئيس فرانكلين روزفلت في "البحيرات المُرّة" في المياه المتاخمة لقناة السويس ("اتفاق كوينسي" الذي تمّ التوصل إليه في 14 شباط / فبراير 1945 وذلك على متن الطراد "يو أس أس كوينسي")، وأنها قامت على تفاهم أساسه الدعم الأمني والديبلوماسي الأمريكي للسعودية مقابل تدفق الإمدادات النفطية، إلّا أن ذلك التفاهم لم يتبلور قط في معاهدة سياسية أو ترتيبات عسكرية محددة، كما أن تطور الأمور بمرور الزمن أبرز بعض القضايا التي لم تحظ بنقاش جاد ومن ثم بلورة سياسات واضحة ترسم مستقبل علاقات البلدين.
قضايا معلقة
ومن هذه القضايا المعلّقة طبيعة الوجود الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط. ومنذ عهد الرئيس باراك أوباما بدأ الاتجاه إلى الاهتمام أكثر بمنطقة المحيط الهادئ، خاصة مع الوجود الصيني المكثف هناك، والصين قوة رئيسية على المسرح العالمي تشكل تحدياً تنافسياً. وجاء ترمب ليرفع شعار أن تخرج أمريكا من حروب الشرق الأوسط التي لا تنتهي، وهو ما أكمله بايدن بانسحاب قواته المرتبك من أفغانستان العام الماضي.
اعتُبرت الخطوة الأخيرة وكأنها دعمٌ مباشرٌ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ توفر له مداخيل إضافية، كما اعتبرت تدخلاً في الشؤون الأمريكية الداخلية، إذ ينظر إلى خطوة خفض الإنتاج وما يتبعها من ارتفاع في الأسعار على أنها تصب لصالح الجمهوريين. وهناك انتخابات نصفية للكونغرس في 8 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
السجال الأمريكي-السعودي، على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا وتبعاته في ميدان الطاقة، أعاد إلى الواجهة قضية أمن الطاقة وتنويع مصادرها، كما أشار إلى أن وجود دور حكومي في التنظيم ووضع السياسات أصبح ضرورة، وأنه من المهم ألّا يُترك الأمر كلية إلى القطاع الخاص كما كان سائداً إلى حد كبير خلال العقود الماضية.
على أن الخطوة التي أثارت قلقاً خليجياً وسعودياً على وجه التحديد هو قرار واشنطن عدم الرد على الضربة الإيرانية لمرافق النفط السعودية في "أبقيق" و"خريص" في العام 2019، عبر صواريخ وطائرات درون، مما أدى إلى تعطيل 6 في المئة من الإنتاج العالمي للنفط في ضربة واحدة.
الموقف الأمريكي ذاك يمكن إرجاعه إلى التطور الذي شهدته صناعة النفط الأمريكية بعد التوسع الكبير في الإنتاج المحلي بسبب عامل التقنية المتاحة عبر الحفر الهيدروليكي، التي جعلت من الممكن الحصول على النفط والغاز الصخريين، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة قوة مؤثرة في هذين المجالين، وهو ما شكل أساساً لإضعاف اهتمامها بمنطقة الخليج، خزان النفط التقليدي. ويضاف إلى ذلك تنامي الوعي بقضايا التغيير المناخي ودور الوقود الأحفوري في ذلك، وهو ما أدى بدوره إلى الدفع باتجاه "اتفاقية باريس" التي تطمح إلى الوصول إلى مرحلة وقف الانبعاث الحراري بحلول العام 2050. وسيكون الوصول إلى تلك المرحلة تأثيرها الواضح على السعودية والدول الخليجية.
"الرؤية" السعودية: من الريع وإليه تعود
10-02-2017
مواردُنا المنهوبة.. أنابيب إسرائيليّة لغازٍ فلسطينيّ
19-03-2020
لكن وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أصبحت تنتج ما يمكن أن يغطي احتياجاتها من النفط والغاز وأكثر، إلّا أن واقع الحال يشير إلى أن الصلة مع منطقة الخليج وصناعتها النفطية ستظل قائمة بسبب أن صناعة النفط أصبحت عالمية ولا يمكن السيطرة على أسعارها محلياً. ومن هنا تأثير قرارات أوبك على سوق أسعار الوقود المحلية في المدن الأمريكية. ثم أنه بسبب القضايا التي يثيرها التغير المناخي، فإن الكثير من الشركات العاملة في الصناعة النفطية بدأت تستنكف عن الاستثمار في هذا القطاع، خاصة في مجالات الاستكشاف والتطوير والإنتاج، مما يهدد بحدوث شح في الإمدادات. ولذا، فاستمرار الدول النفطية، خاصة الخليجية منها، في ضخ الاستثمارات في هذا القطاع يبدو حاسماً. ونتيجة لضعف الاستثمارات، يقدَّر أن حجم الطاقة الإنتاجية الفائضة أصبحت في حدود 1.5 في المئة من حجم الطلب، وهي نسبة متدنية جداً قد لا تغطي حدوث فجوة كبيرة في الإمدادات، وهي بذلك تعتبر عاملاً مساعداً على ارتفاع الأسعار.
وهناك أيضا الفجوة بين ممارسة السياسة انطلاقاً من المصلحة المباشرة للدولة الأمريكية وبين الشعارات التي ترفعها عن الديمقراطية وحقوق الانسان، وهو الجدل الذي استعر في الصيف الماضي عندما قرر بايدن السفر إلى السعودية لحثها على ضخ المزيد من النفط، على الرغم من حديثه عن أن السعودية أصبحت "دولة مارقة" وأنه سيعاملها على هذا الأساس على إثر اغتيال الصحافي جمال خاشقجي.
بدأ منذ عهد الرئيس باراك أوباما الاتجاه إلى الاهتمام أكثر بمنطقة المحيط الهادئ، خاصة مع الوجود الصيني المكثف هناك، والصين قوة رئيسية على المسرح العالمي تشكّل تحدياً تنافسياً. وجاء ترمب ليرفع شعار أن تخرج أمريكا من حروب الشرق الأوسط التي لا تنتهي، وهو ما أكمله بايدن بانسحاب قواته المرتبك من أفغانستان العام الماضي.
وعلى الرغم من الضجيج الإعلامي والتصريحات السياسية ذات المضامين التهديدية، إلّا أنه لم يتبلور شيء محدد فيما يخص العلاقات الثنائية بين البلدين حتى الآن. فلم يتم تكوين لجنة مثلاً لمراجعة أسس ومستقبل علاقة البلدين، ولم يحدد وقت أو تاريخ معين لختام هذه المراجعة، كما لم تبلور دراسات في شكل خيارات محددة، بل حتى لم تحدث مشاورات مع القيادات الرئيسية في الكونغرس للتوافق على الخطوات المقبلة.
مستشار الأمن القومي جيك سوليفان لخّص الموقف في مقابلة مع شبكة سي.أن.أن أن الرئيس سيتصرف بصورة منهجية واستراتيجية، وسيأخذ ما يحتاجه من وقت في التشاور مع أعضاء في الكونغرس من الحزبين بعد العودة من العطلة لبلورة الخيارات.
وفي تقييمه للوضع، قال مارتن أنديك، مساعد وزير الخارجية الأسبق للشرق الأوسط، أن هناك حاجة إلى علاقة استراتيجية جديدة مع الرياض وليس إلى الوصول إلى مرحلة الطلاق، وأن تكون البداية بالتراجع من حافة الهاوية الحالية التي تقف عليها علاقات البلدين، وأن من متطلبات هذه العلاقة أن تتصرف السعودية بمسؤولية فيما يتعلق بسوق النفط والقضايا الإقليمية المختلفة، وفي المقابل أن تقدم واشنطن ضمانات دبلوماسية وأمنية ملموسة.