آثار غزة: الخراب ككتاب تاريخٍ صامت

كل ما هو غير مرتبط بنشاط الجماعة الإسلامية وأهدافها وفكرها ورموزها، التي بدأ تأثيرها بالظهور في غزة سبعينيات القرن الماضي، هو بالضرورة ليس مكوِّناً من مكونات الهوية المتخَيلة عن المجتمع المسلم وفقاً لتصورات الجماعة. وبهذا، فهي تؤدي دوراً لم تدركه حماس كحركة تحرر وطني فلسطينية، وهو بلا شك يخدم المساعي الصهيونية في نفي التاريخ الفلسطيني، وبالتالي الرواية الفلسطينية.
2022-10-08

محمود زُغْبر

صحافي من غزة، فلسطين


شارك
رأس الالهة أنات الذي عثر عليه مزارع في غزة

بينما كان المزارع نضال أبو عيد يحرث أرضه في "تبّة الشيخ حمودة"، عثر على رأس تمثال أثري يعود للعهد الكنعاني، ويجسّد أسطورة إلهة الحب والجمال والصيد والحرب "أنات"، الملقبة بالمنتصِرة والسعيدة وفق الميثولوجيا الكنعانية. حدث ذلك في شهر نيسان/أبريل الماضي.

"أنات"، إلهة الحرب ورفيقة الإله بعل. تصورها القصائد على هيئة امرأة شابة رائعة الجمال وعلى رأسها قرون ولها أجنحة، مما يفسر سرعتها في التنقل وقطع المسافات. والتمثال يُعرض الآن في متحف قصر الباشا بمدينة غزة، وهو أحد المتاحف القليلة في المدينة.

أرّخ لها كتاب "الآلهة الكنعانية" (1)، فقال إنها ظهرت في سوريا القديمة، وكانت تحتل الصدارة في مجمع الآلهة في مصر، وكانت آلهة الطبيعة وقوة الحياة ولقبها "البتول". جاء في إحدى التعويذات السحرية المدونة على ورق البردي من عهد الفرعون رمسيس الثاني، الذي أطلق اسمها على ابنته وسيفه أيضاً، نصاً موجهاً ضد الذئاب، ويشير إلى الطبيعة القتالية للآلهة أنات، إذ يقول النص: "قف أيها الذئب الشرير، فقد قطع أطرافك حرشف بعد أن صرعتك أنات".

واجهت "أنات" في مصر المصير نفسه الذي واجهته في بقية أقطار الشرق القديم. وعلى الرغم من أنها كانت تمتاز بمحبة تفوق الوصف في الألفية الثانية قبل الميلاد، إلا أنها اختفت بعد ذلك كلياً عن مسرح الأحداث، ومُزجت بأساطير أخرى. ولكن هل ستواجه المصير نفسه في غزة أيضاً؟

تمتلك غزة سجلاً حافلاً من عمليات الإفراغ وإعادة الاستخدام، من خلال التغيير بين الأمم والنظم القديمة والحديثة التي حكمت غزة. لذا، تظهر الاكتشافات الأثرية المتنوعة على الدوام، كفاعل حضاري وإنساني، ومن ثم تعود لتمتلك القدرة الغريبة على الاختفاء. غزة ليست "أنات" المنتصرة، بل المغتصَبة. فسر الباحثون تأثر اليهود قديماً بالديانة الآرامية، بعدما اختاروا "أنات" زوجة لإلههم يهوه، أن "أنات" كانت محل تصارع بين الآلهة القديمة، وظلت تمثل وضوحاً جنسياً ملحمياً كان، على الرغم من عنفه، يدلل على الحب الذي امتلكته "أنات" لأنها لم تكن تقاوم تلك الملاحم، وأيضاً لم تهرب منها.

لربما من الممكن لتلك المفارقة إعطاء فكرة تمهيدية عن معتقدات الكنعانيين، ومقارنتها بالأديان السابقة والحديثة ومدى المشتركات بين الأديان القديمة، واليهودية والمسيحية والإسلام، والتي حملت جميعها منظومة معايير وسياسات محددة تحكم التمازج المديني للمكان.

تقدم التماثيل التي نعثر عليها في وقتنا الحاضر رؤى ثاقبة في سيرة أولئك الأجداد، وقدرتهم على التجدد الطبيعي، وامتلاكهم متطلبات القدرة على التوافق مع الربيع والخريف. النصوص الأثرية احتوت معلومات قليلة لكنها أخبرتنا أن الدين في زمن الكنعانيين كان يحوي تقاليداً أسطوريةً غنيةً، كانت بمثابة جسرٍ بين الديانات القديمة في بلاد الرافدين والآلهة اليونانية والرومانية اللاحقة، حيث تطور العديد من الآلهة الرومانية عن آلهة كنعانية سابقة.

ظهور "أنات" في غزة، جاء بعد نبش فلاح مصادفة في أرض ساحرة. لكنه لا بد يمنح الفلسطيني المحاصر من كل الجهات في المدينة، شعوراً بحصول الإنسان على فكرة مجانية عن الأشياء، هنا في هذه الأرض قبل كل تلك الآلاف من السنين. وعلى الرغم من أن أفكار المرء تتغير تحت الحصار، إلا أنه لا يزال بحاجة إلى هوية تضع الأسس لنموه الأخلاقي والفكري، مع تعريفه بالحياة اليومية شديدة التعقيد التي يعيشها الإنسان.

في عشرينيات القرن الماضي، اشتغلت في غزة كما باقي الأراضي الفلسطينية فرق سلطات الانتداب البريطاني خلال سنوات استعمارها لأرض فلسطين، بحثاً عن الآثار القديمة والمخطوطات التاريخية، بهدف مصادرتها ونقلها إلى المتحف البريطاني. كما أن السلطات العثمانية سبقتها في نقل مكتشفات ونوادر غزة إلى إسطنبول.

تعرّف الباحثة روزماري صايغ (2)، الهوية الفلسطينية على أنّها هوية سياسية، تختلف باختلاف السياق التي تُنتج وتولد فيه. وكون الشتات يولّد أيضاً حساً بالهشاشة، فمن الطبيعي الشعور بالتهديد من كل اختلاف. هنا عجزت إسرائيل عن اختلاق هوية غير مشتَتَة لها، ودفعها ذلك العجز لصنع اختلال متعمَّد، يكمن في الإبقاء على وضع يكون اعتبار الموردين الثقافي والتاريخي لهذه المدينة ذات أهمية أقل، عبر الاستهداف المباشر وفرض المعاناة والصراع اليومي للحصول على الأساسيات، لتحقيق غرض إقصاء المجتمع عن حقوقه السياسية والمعنوية.

تتقلص جدلية الزمن قليلاً، عند تتبع بعضٍ من تاريخ غزة، بحسب ما وصفه أحد الزوار اليونانيين سنة 570م، الذي قال إن غزة هي مدينة كل الأشياء المبهجة، وإن الأهالي فيها يتميزون بكل انطلاق وحرية وصداقة. ووصفها الرحالة المسلمون في القرن الرابع الهجري، بأنها "بلد ذات بساتين على ساحل البحر، وبها نخيل وكروم خصبة ولها قلعة صغيرة".

دخل المسلمون غزة لأول مرة عام 635 م، وهي مسقط رأس الإمام الشافعي. عاشت تحت الحكم العثماني منذ القرن السادس عشر وحتى عام 1917. تُعد من مدن العالم القديمة، وخضعت لحكم الفراعنة، والإغريق، والرومان، والبيزنطيين. وفي عشرينيات القرن الماضي، اشتغلت في غزة كما باقي الأراضي الفلسطينية فرق سلطات الانتداب البريطاني خلال سنوات استعمارها لأرض فلسطين، بحثاً عن الآثار القديمة والمخطوطات التاريخية، بهدف مصادرتها ونقلها إلى المتحف البريطاني، كما أن السلطات العثمانية سبقتها في نقل مكتشفات ونوادر غزة إلى إسطنبول.

كيف دُمرت آثار غزة؟

لا يمكن النظر في مسألة تاريخ غزة وآثارها المهملَين، دون المرور عبر تناول وجود إسرائيل وأجسامها ضمن السياق الرئيسي لما تعانيه المدينة ومختلف جوانب حياة سكانها. غزة تحكي سيرة بلد عاش في تشتت سياسي واحتلال خارجي أدى إلى موجات فقر، نتج عنها بالتالي موجات عنف أخرى طالت الأخضر واليابس.

خلال عملياته العسكرية في غزة، كانت المواقع الأثرية هدفاً للجيش الإسرائيلي. دمرت إسرائيل أجزاءً من مسجد العمري في بلدة جباليا القديمة ومسجد المحكمة ومقام الشيخ المنطار الذي يقع ضريحه على تلة تشرف على مدينة غزة من جهة الشرق، وهي آثار تعود للعصر المملوكي، كما تسبب القصف بأضرار في الأرضية الفسيفسائية وفي جدران مقام إبراهيم الخليل الواقع داخل مسجد "خليل الرحمن" الأثري بمنطقة عبسان في محافظة خان يونس، ويعد من أهم المقاصد الصوفية قديماً، إضافة إلى مقام الخضر الذي يعود للعصر اليوناني في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، ومقام النبي يوسف شرق جباليا والذي يعود للفترة العثمانية.

منذ وجوده في الأرض الفلسطينية، عمل الاحتلال بأساليب شتى على خفض الشعور الفلسطيني باستحقاقه للبقاء في هذه الأرض. كان ارتكاب المجازر والطرد هما الوجه الأوضح لنكبة الشعب الفلسطيني واغتيال هويته، إلا أن خطايا الاحتلال طالت أعمال طمس للتاريخ الفلسطيني ومحاولة تصنيع تاريخ إسرائيلي اعتماداً على جذور مملكة "إسرائيل القديمة" المذكورة في "العهد القديم".

أصبحت معالم حالة الآثار في فلسطين واضحة تماماً مع نهاية عام 1948، حين وقعت النكبة الفلسطينية. كانت الحركة الصهيونية أنشأت ذراعها في مجال التنقيب الجائر عن الآثار في أرض فلسطين عام 1914 تحت اسم "جمعية بحث أرض إسرائيل"، واستمرت أعمال التنقيب في المواقع الأثرية إلى يومنا هذا، حيث تنوعت بين مباني وقطع وتماثيل وألواح وأرضيات فسيفسائية وجدران وقلاع، إلى جانب عملها في الأبحاث والدارسات المتعلقة بالاكتشافات الأثرية.

حصلت الجمعية على تغطية مالية من عدة جمعيات وهيئات من خارج فلسطين للقيام بالحفريات ونشاطات التنقيب عن الآثار، كما تُصْدر الجمعية عدة منشورات، من أهمها: مجلة فصلية باسم "كدمونيوت"، وهي تعني "أموراً قديمة"، ومجلة فصلية أيضاً بالإنكليزية باسم "مجلة استكشاف إسرائيل"، بالإضافة إلى سلسلة من الكتب والمقالات وعقد الندوات الدراسية والثقافية، تعقد الجمعية مؤتمراً عالمياً لها مرة كل خمس سنوات لإظهار الاهتمام بالآثار اليهودية في فلسطين.

في إسرائيل الحديثة التجربة مختلفة تماماً، ولا يُبذل أي عناء للدلالة على "الجهد الصهيوني المبادر"، بل يجري التصرف بـ "بديهية" مثلما يتم خلع شجرة الزيتون ووضع صورتها على البزة العسكرية المخصصة لحرس الحدود، أو إنشاء وحدة "قصاصي الأثر" المكرس عملها بأنشطة التتبع والتحري خلال ملاحقة الفدائيين الفلسطينيين.

استهدفت القوات الإسرائيلية نحو 74 موقعاً أثرياً، متعمدةً الإضرار بالبنية التحتية والاقتصادية، وطمس الهوية الثقافية والأثرية لقطاع غزة، بحسب ما أفادت به هيام البيطار، رئيسة قسم الآثار بوزارة السياحة والآثار في غزة، التي قالت إن إسرائيل تنتهك ما جاء في البروتوكول الثاني لاتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في أوقات النزاع المسلح، والموقع في آذار/ مارس عام 1999.

منذ فرضه بالصورة المشددة على غزة، مثّل الحصار وما يخلفه من أعراض خطيرة على المجتمع، ذروة كل ما حملته تلك الألفيات من السنين في جانبها الشرير، وكأنها تتحضر لانبلاج معضلة إسرائيل الكبيرة مع الهوية المهزومة فيما بين النهر والبحر، والتي لطالما موّهتها إسرائيل الحديثة باستباق العدوان والمزيد من التوسع الاستيطاني والفصل العنصري. وفي غزة، كان ما توصلت إليه دون تردد: منع الأفراد والبضائع من الدخول إلى القطاع أو الخروج منه.

أثرٌ يصارع البقاء

هكذا، تعيش مدينة غزة في أرضها منذ الأزل. كان حي الشجاعية، الذي دمرته القوات الإسرائيلية بالكامل في عام 2014، وارتكبت فيه بليلة وضحاها مجزرة إبادة جماعية، هو ذاته الموقع الذي أقيمت فيه البلدة القديمة للمدينة التي كانت مقصداً طبيعياً للذين مروا على غزة عبر تاريخ يمتد إلى زمن العصر الحجري: تقبع كآخر محطة تسبق الصحراء والفراعنة في مصر. كما أنها نهاية المطاف للقادمين من مصر إلى الشام، وقريبة من أرضها الخصبة، ذات المياه العذبة.

منذ وجوده في الأرض الفلسطينية، عمل الاحتلال بأساليب شتى على خفض الشعور الفلسطيني باستحقاقه للبقاء في هذه الأرض. كان ارتكاب المجازر والطرد هما الوجه الأوضح لنكبة الشعب الفلسطيني واغتيال هويته، إلا أن خطايا الاحتلال طالت أعمال طمس التاريخ الفلسطيني ومحاولة تصنيع تاريخ إسرائيلي اعتماداً على جذور مملكة "إسرائيل القديمة" المذكورة في "العهد القديم".

استهدفت القوات الإسرائيلية نحو 74 موقعاً أثرياً، متعمدةً الإضرار بالبنية التحتية والاقتصادية، وطمس الهوية الثقافية والأثرية لقطاع غزة، بحسب ما أفادت به هيام البيطار، رئيسة قسم الآثار بوزارة السياحة والآثار في غزة، التي قالت إن إسرائيل تنتهك ما جاء في البروتوكول الثاني لاتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في أوقات النزاع المسلح، والموقع في آذار/ مارس عام 1999. 

لمأساة غزة تكرار لا مفر منه، بما في ذلك الآلهة وصفاتها وقدراتها وقصصها الأسطورية. وبينما من المفترض بآثار أي مجتمع أن تلملم شتاته وتقص حكاية وجوده، باتت هوية أهل فلسطين قائمة على جمع شتات الذاكرة، وأصبح مناطٌ بالأرض المحررة، مهمة تكوين هويتها السياسية، وهي في هذه الحالة مدينة غزة.

في غزة نحو 40 ألف قطعة أثرية مسجلة رسمياً. يقضي هواة وعشاق للآثار أعمارهم في جمع واقتناء القطع الأثرية، والبعض منهم سواء كانوا باحثين أو مؤرخين أو هواة، أسس متحفاً صغيراً وخاصاً في أجزاء من منازلهم. ولكن هذا لا ينفي الجرح القادم من العالم السفلي الذي يمثله وجود الاحتلال كالفيل في الغرفة، إلى جانب أذرع الفساد التي تطال كل شيء تقريباً في غزة.

بسبب ضيق المساحة وانحسارها عما سواها في المنطقة والحصار من كل الجهات، تتشابك المواقع الأثرية الهامة مع البناء الطاغي في مناطق المعيشة في غزة، في الوقت الذي لا زال عدد من المواقع الأثرية عالقة في مشكلات قانونية وإجرائية تخص معاملات استملاك الأرضي بين الجهات الحكومية والمواطنين.

عشرات الموقع الأثرية في منطقة ضيقة، بات منها ما هو تحت بنايات ومزارع، وآخر تعرض للسرقة والتهريب للخارج والتنقيب غير الشرعي، إلى جانب تعرض بعضها للبيع في المزادات والفنادق وبعض المتاحف الخاصة المملوكة لرجال أعمال مستثمرين وهواة جمع الآثار.

قبل ثلاثة أعوام، كشفت السلطات الإسرائيلية عن مصادرتها نحو 60 قطعة نقدية كانت في طريقها للبيع، وقالت إنها كانت داخل شاحنة تنقل منسوجات متجهة من غزة نحو كيان الاحتلال. لم تعلق أية جهة فلسطينية في حينه على ما نشرته الصحافة الإسرائيلية، باستثناء جمعية أصحاب مصانع الخياطة في غزة التي نفت أي علاقة لها ولأعضائها بتلك القطع النقدية.

القطع النقدية المُهربة هي عُملة معدنية هلنستية (يونانية قديمة) فضية، قد تكون سُكت قبل حوالي 2300 عام، في زمن الاسكندر المقدوني أو بعد قليل من موته، وتعتبر هذه القطع المعدنية عناصر نادرة للغاية، وذات قيمة ثقافية كبيرة. في وقت لاحق كشفت وزارة جيش الاحتلال عن اعتقالها اثنين من التجار الفلسطينيين عند معبر كرم أبو سالم التجاري جنوب قطاع غزة، وقالت إن اعتقالهما جاء على خلفية تهريب تلك القطع بغرض بيعها في الداخل المحتل.

كان حي الشجاعية، الذي دمرته إسرائيل بالكامل في عام 2014، وارتكبت فيه مجزرة إبادة جماعية، هو ذاته الموقع الذي أقيمت فيه البلدة القديمة للمدينة التي كانت مقصداً طبيعياً للذين مروا على غزة عبر تاريخ يمتد إلى زمن العصر الحجري: تقبع كآخر محطة تسبق الصحراء في مصر. كما أنها نهاية المطاف للقادمين من مصر إلى الشام، وقريبة من أرضها الخصبة.

مصدر من وزارة الآثار في غزة طلب عدم الكشف عن هويته، قال إن الوزارة بالتعاون مع الأجهزة المختصة، شكلت لجنة للتحقيق في عملية التهريب تلك، التي قدر مراقبون محتوياتها بقيمة مالية تبلغ نحو 6 ملايين دولار، كاشفاً عن شبهات بتورط شخصية معروفة في سوق الأعمال بغزة في هذه العملية.

قبل نحو شهر من الآن أو أقل، كشف تحقيق صحافي نشرته "شبكة أريج للتحقيقات الاستقصائية"، عن مخالفات كبيرة وتجاوزات في قطاع الآثار، تورطت بها مؤسسات رسمية وغير رسمية، وكذلك تورُّط شخصيات متنفذة على مدار سنوات مختلفة بالإضرار بمواقع أثرية هامة، واستمرار سوء الوضع القائم (3).

بعد ذلك بأيام قليلة، نشرت وكالة "أسوشيتد برس" الأمريكية، تقريراً عن اكتشاف مزارعيْن فلسطينيين لموقعٍ أثري هام، بمساحة 500 متر مربع شرق مخيم البريج، يحتوي على أرضية فسيفسائية أثرية تعود للعصر البيزنطي (4)، وذلك خلال عملهما في زراعة أشجار الزيتون في أرضهما القريبة من السياج الأمني الفاصل مع إسرائيل.

 تأخر إعلان وزارة الآثار في غزة، وأصدرت بياناً بعد أن وصلت الأنباء للجمهور من خلال الإعلام، وتركته يتساءل حائراً عن مصير كل تلك المقدرات التاريخية، وكذلك عن حال عشرات القصص المتداولة والقضايا في أدراج المقار الأمنية والوزارية، والتي بقيت دون معالجة.

على الرغم من مناشدات نشطاء الرأي العام ومطالبات عدد من الصحافيين الملتزمين في غزة للتدخل وحماية المواقع والقطع الأثرية والإبقاء على مكانة خاصة لها، لا تلتفت النخب السياسية في غزة إلى الاتجاه نحو تعزيز الفضول الفكري والتفاهم المجتمعي من خلال تاريخ وثقافة المدينة المادي والمعنوي. ويدل ذلك على السوء الذي وصلت إليه إدارة الموارد السياحية -الاقتصادية العامة والخاصة المهتمة بالاستثمار في المنتجعات والمطاعم في شوارع غزة وبخصخصة كورنيش شاطئها، بينما تبقى المواقع الأثرية كمقابر مهجورة.

تخالف الممارسات آنفة الذكر القانون الفلسطيني دون التباس. لسنا بصدد التحقق مما إذا كانت تلك الممارسات، بخلاف التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، تجري بصورة منظمة، ولكن هذه المادة ما هي إلا محاولة لنقش أثر جديد في مسعى الحفاظ على الآثار في المدينة، باعتبارها مورداً رئيسياً إلى جانب الموارد الاجتماعية والاقتصادية.

المفارقة التاريخية وحدها وليس الحصار، هي ما جعلت من مدينة غزة البالغة مساحتها 1.1 في المئة من مساحة فلسطين، من أغنى المدن الفلسطينية بالمخطوطات والقطع والشواهد والمواقع الأثرية. وعلى الرغم من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لا يزال المورد الأثري في غزة ينقل إحساساً بالهوية والاستمرارية. خطر الاضمحلال في أحد أكثر مناطق العالم كثافة سكانية وأسرعها نمواً لا زال قائماً بسبب الطلب المتزايد على مساحة المعيشة. وبالإضافة إلى ذلك، غالباً ما يفتقر عامة السكان إلى الوعي بأهمية التراث المعماري، من دون الباحثين والهواة. ومن أجل ضمان الحفاظ على التراث الثقافي والتاريخي، يلزم اتخاذ تدابير التخطيط الحضري والموارد المالية وكذلك المتخصصين المدربين.

تبعث على الأمل المبادرات التي يقودها شباب متطوعون، وباحثون شغوفون بجذور مدينتهم، وهي مبادرات تستهدف علاقة الإنسان مباشرة بالمكان والبيئة. كان آخرها إصدار "الدليل الأثري لقطاع غزة"، ومبادرة "انتقال 2030" الشبابية للتوعية بأهمية الآثار وحمايتها، والعديد من النوادي الطلابية في جامعات غزة تتبع لأقسام التاريخ والآثار، التي لا زالت تعمل بمستوى تخصص دون مستوى الكلية الجامعية.

تتركز هنا أهمية غزة كأرض فلسطينية محررة تفتقر لعوامل الصمود، وأُرغمت على تلقي الضربات الوحشية الإسرائيلية، ولكن لا زال فيها من الطاقات من يعمل بإيمان ودأب ولهفة.

ويبقى من المباح القول إن أحد الأسباب التي لا يجب إغفالها تأتي نتاجاً لسنوات من عمل وزارات حكومة الظل في غزة، ومن بينها وزارات الحكم المحلي والأوقاف والتعليم والسياحة والآثار وسلطة الأراضي، وغيرها من جهات إنفاذ القانون، والتي تديرها حركة حماس منذ عام 2007، وصبغت عملها باتخاذ طريق أسلمة المجتمع، لتغيير مظاهر التعددية في الهوية الفلسطينية، والذهاب نحو احتكار الهوية في بضعة إجراءات تهدف لتغيير تسميات مراكز عامة وشوارع ومرافق وطنية لتحقيق الهدف نفسه.

في غزة نحو 40 ألف قطعة أثرية مسجلة رسمياً. يقضي هواة وعشاق الآثار أعمارهم في جمع واقتناء القطع الأثرية، والبعض منهم أسس متحفاً صغيراً وخاصاً في أجزاء من منازلهم. ولكن هذا لا ينفي الجرح القادم من العالم السفلي الذي يمثله وجود الاحتلال كالفيل في الغرفة، إلى جانب أذرع الفساد التي تطال كل شيء تقريباً في غزة.

إدارة الموارد السياحية -الاقتصادية العامة والخاصة مهتمة بالاستثمار في المنتجعات والمطاعم في شوارع غزة وخصخصة كورنيش شاطئها، بينما تبقى المواقع الأثرية كمقابر مهجورة. المفارقة التاريخية وحدها وليس الحصار، هي ما جعلت من مدينة غزة البالغة مساحتها 1.1 في المئة من مساحة فلسطين، من أغنى المدن الفلسطينية بالمخطوطات والقطع والشواهد والمواقع الأثرية. 

فكل ما هو غير مرتبط بنشاط الجماعة الإسلامية وأهدافها وفكرها ورموزها، التي بدأ تأثيرها بالظهور في غزة سبعينيات القرن الماضي، هو بالضرورة ليس مكوناً من مكونات الهوية المتخَيلة عن المجتمع المسلم وفقاً لتصورات الجماعة. وبهذا، فهي تؤدي دوراً لم تدركه حماس كحركة تحرر وطني فلسطينية، وهو بلا شك يخدم المساعي الصهيونية في نفي التاريخ الفلسطيني، وبالتالي الرواية الفلسطينية. 

______________________

 1- خزعل الماجدي "الآلهة الكنعانية"، منشورات دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمان، الاردن، 1999     
 2- في مقابلة مع ميسون سكرية نشرت في مجلة الدراسات الفلسطينية صيف 2009 https://www.palestine-studies.org/ar/node/42196         
 3- جاء التحقيق بعنوان "إهمال السلطة و"حماس" يقضي على تاريخ يمتد لآلاف السنين".   
 4- "آثار غزة الشاهدة على أزمانها"، السفير العربي، 22 /09/ 2022، 

مقالات من فلسطين

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....

للكاتب نفسه