أحداث العنف القبلي في السودان التي احتلت نشرات الأخبار الإقليمية والعالمية مؤخراً، وتوزعها على مناطق جغرافية متباينة في البلاد، تُسلط الضوء على خلفيات وعوامل عدم الاستقرار التي تعصف بالبلاد. وقد جاءت حالة الرخاوة السياسية عقب تغيير النظام، إضافة إلى ضعف الدولة والقوى الحزبية التي كان يفترض أن تشكل حاضنة أوسع للتحركات الشعبية، مما وفّر كله مناخاً أكثر ملاءمة لانتشار حوادث العنف القبلي.
ففي الوقت الذي لم يخمد فيه أوار دورة العنف في دارفور، المستمرة منذ قرابة العقدين من الزمن تحت مختلف اللافتات السياسية والقبلية، تمدد هذا العنف شرقاً إلى ولايات البحر الأحمر والقضارف وكسلا، ثم اتجه جنوباً إلى ولاية النيل الأزرق. وهذا التمدد يفرض البحث في جذور الأزمة التي تتخذ عدة أشكال على رأسها موضوع الأرض، المفتاح الرئيسي فيما يتعلق بعلاقات السكان مع بعضهم البعض ومع الدولة.
ما أطاح بحلم "سلة الخبز" السودانية
09-05-2019
ترتبط الأرض بالنشاط الاقتصادي عبر الزراعة والرعي وعبر السيطرة عليها لتحديد حركة السكان. وقد برزت الملكية الفردية للأرض منذ نهاية سلطنة "الفونج" مطلع القرن التاسع عشر، إلى جانب الدور الذي كان يلعبه السلاطين، بداية في دارفور، بمنحهم الأراضي للأتباع والمريدين. وعبر التطور التاريخي أصبحت "الحاكورة" - وهي المصطلح الذي يربط مساحة محددة من الأرض بقبيلة معينة - جزءاً مكملاً لهوية العديد من المجموعات السكانية والقبلية. عمل الإنجليز إبان استعمارهم للسودان 1899-1956 على تقنين هذا النظام الذي نما وتطور من خلال العرف وذلك عبر سلسلة من القوانين انطلقت من مبدأين أساسيين وهما: أن تكون للقبائل الكبيرة اليد العليا، بما يساعد على حفظ الأمن والنظام ويقلل من كلفة هذه المهمة بالنسبة للبريطانيين، وأن يهيَّئ المناخ لاستغلال موارد البلاد الطبيعية. وكان أن أصدرت السلطة الاستعمارية منذ بداية تأسيسها في 1899 سلسلة من القوانين، فأصدرت أول قانون للحقوق على الأراضي وآخر للغابات وثالثاً لنزع الأراضي للصالح العام، بل ولعدم بيع أي أراضٍ بدون موافقة حكومية وذلك لقفل الباب أمام سيطرة الأجانب على أراضي السودان خاصة منهم المصريين.
تقنين فكرة الحواكير
وفي هذا الإطار قام الإنجليز في عشرينيات القرن الماضي بإنشاء الإدارة الأهلية كوسيلة فعالة وأقل تكلفة لإدارة الأقاليم، كما تمّ تقنين فكرة الحواكير وتمييز بعض القبائل وتجميع بعضها تحت إمرة قبيلة أكبر وأكثر نفوذاً، وكان ذلك يسمح للقبائل الصغيرة بالعيش تحت كنف تلك الكبيرة صاحبة الحواكير وكانت تقوم بمختلف الأنشطة من زراعة ورعي في مقابل مادي معلوم، لكن ليس لها أي استقلال إداري.
بمرور الزمن وتوسع القاعدة السكانية للقبائل الصغيرة التي تعيش في كنف قبائل أخرى، ومع التطورات السياسية التي فتحت أعين الكثيرين على حقوقهم بعد الثورات الشعبية التي أطاحت بثلاثة أنظمة عسكرية في 1964 و1985 و2019، أصبحت هذه القبائل الصغيرة تطالب باعتراف من قبل الدولة وأن تعامَل على قدم المساواة مع القبائل الكبيرة.
ويعتبر صراع قبيلتي "المعاليا" و"الرزيقات" الذي تفجر بصورة واضحة في العام 1965، أي بعد عام من "انتفاضة أكتوبر" الشعبية ضد الحكم العسكري الأول، من أوائل الصراعات في هذا المجال، وقد لفت الأنظار إلى هذه المشكلة. وعلى الرغم من الوساطات للوصول إلى تسوية ما، إلا أن تلك المحاولات لم تخاطب جذور الأزمة، وتكرر الصراع في سنوات لاحقة حتى وصل الأمر بحكومة "الإنقاذ" (أيام سلطة البشير) إلى اعتقال مجموعات من زعامات القبيلتين في العام 2017. "المعاليا" التي لم تجد إنفاذاً لوعود حزب الأمة بمساندتها في مطلبها ب"نظارة"1 مستقلة على أيام حكومة الصادق المهدي، ذهب قسم منها للانضمام للحركة الشعبية المتمردة، بينما استمر البعض الآخر في مسعاه لاستكشاف مختلف سبل الحلول، وبلغ بهم الأمر في عهد "الإنقاذ" أن دعوا إلى فصلهم عن ولاية شرق دارفور ووضعهم تحت إشراف رئاسة الجمهورية.
في ظل الاستعمار الانجليزي للسودان 1899-1956 تمّ تقنين فكرة الحواكير وتمييز بعض القبائل وتجميع بعضها تحت إمرة قبيلة أكبر وأكثر نفوذاً، وكان ذلك يسمح للقبائل الصغيرة بالعيش تحت كنف تلك الكبيرة صاحبة الحواكير وكانت تقوم بمختلف الأنشطة من زراعة ورعي في مقابل مادي معلوم، لكن ليس لها أي استقلال إداري.
والمفارقة أن مثل هذه الخطوة تشير إلى تجذر هذا الصراع من ناحية، كما أنها تثير علامات استفهام حول فعالية نظام الإدارة الأهلية لتحقيق الأمن والنظام في المناطق الريفية.
وتكرر الشيء نفسه مع كل من "الرشايدة" و"الهدندوة" في شرق السودان مثلاً. ف"الرشايدة" وفدوا إلى السودان من الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر واستقروا في مناطق تقع تحت سيطرة "الهدندوة". وفي إطار العرف القبلي القائم – الذب قام الإنجليز بتقنينه فيما بعد - سمح لـ "الرشايدة" بالانتفاع بالأرض واستغلالها مقابل دفع حق البئر والرعي والزراعة وفق رسوم تجدد سنوياً، على أن يكونوا خاضعين لـ "الهدندوة" إدارياً وسياسياً.
كما تكرر بين "الفلاتة" و"الهبانية" إذ يقول الأخيرين أنهم استضافوا "الفلاتة" في مناطق في دارفور، وكذلك "المساليت" في منطقة "قريضة" وغيرهم في حاكورتهم. لكنهم اشتكوا من أن نظام "الإنقاذ" فتح باب الهجرات أمام قبائل ذات جذور عربية أصبحت تنافس السكان الأصليين على أراضيهم. وأشاروا إلى أن "الإنقاذ" قام بمحاباة القبائل ذات الجذور العربية لدعم قاعدته الجماهيرية، خاصة عندما أدخل نظام "الإمارة" فكانت 13 من جملة 19 أمارة تم تأسيسها تتبع للقبائل ذات الجذور العربية.
بل إنّ الأمر وصل إلى مناطق الحضر، كما في صراع "الكواهلة" و"البطاحين" في منطقة شرق النيل، شرق العاصمة المثلثة، الخرطوم. فالكواهلة كانوا يطالبون بنظارة مستقلة منذ سبعينات القرن الماضي وسعوا إلى استغلال التطورات السياسية وحاجة بعض القوى إلى التأييد الجماهيري وهي التي بذلت الوعود بنظارة مستقلة. وهو بالظبط ما حدث مؤخراً مع "الكواهلة" الذين استغلوا حاجة المكون العسكري لحاضنة شعبية بعد إزالة نظام البشير. لكن "البطاحين" قابلوا الخطوة بعنف أدى إلى فرض حظر التجول في المنطقة إلى أن هدأت الأحوال.
قبيلة "المعاليا" مثلاً لم تجد إنفاذاً لوعود حزب الأمة بمساندتها في مطلبها ب"نظارة" مستقلة على أيام حكومة الصادق المهدي، فذهب قسم منها للانضمام للحركة الشعبية المتمردة، بينما استمر البعض الآخر في مسعاه لاستكشاف مختلف سبل الحلول، وبلغ بهم الأمر في عهد "الإنقاذ" أن دعوا إلى فصلهم عن ولاية شرق دارفور ووضعهم تحت إشراف رئاسة الجمهورية.
نظام "الحاكورة" الذي بدأ في دارفور، اكتسب له معانٍ وهوية جغرافية واجتماعية لارتباطه بقبيلة معينة، ثم تدخلت الدولة لتقنينه عبر سلسلة من القوانين جعلت مرجعيتها الدولة التي تضع يدها على الأرض وتحدد من يستفيد منها.
خطوتا النميري
استمر الوضع على هذا الحال واستمر دور الدولة في تحديد كيفية الاستفادة من الأرض حتى في فترة ما بعد الاستعمار. شهد عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري خطوتين تتعلقان بالأرض ولا تزال أثارهما تترى. فقد أصدر في العام 1970 قانوناً يسمح للحكومة بالسيطرة على كل الأراضي غير المستغلة والتي لا تتبع لملكية خاصة، والحق في اللجوء إلى القوة لضمان تنفيذ القانون وتأكيد سيطرة الدولة على الأرض. وفي العام التالي قام بإلغاء الإدارة الأهلية التي مثلت حجر الزاوية في مسعى السلطات البريطانية لحكم المناطق الريفية بطريقة غير مباشرة. وقد فعل النميري ذلك بدون إيجاد نظام بديل له من القدرة والفاعلية بما يعوض عن النظام الملغي.
بدأ العمل في مشروع الجزيرة في العام 1925 وبلغت مساحته مليونين ونصف المليون فدان، حوالي 40 في المئة منها مستأجراً. لكن فترة الإيجار انتهت منذ ستينات القرن الماضي ووُجهت الحكومات المتعاقبة بخيارات صعبة ما يطرح تساؤلات حول مستقبل المشروع الذي يعتبر صاحب أكبر مساحة زراعية تحت إدارة واحدة في العالم.
وتزامنت هذه الفترة مع رفع شعار "السودان سلة غذاء العالم" وفتح الباب أمام المستثمرين الأجانب حيث تم استخدام القانون لفتح مساحات واسعة من الأراضي أمام هؤلاء المستثمرين، الأمر الذي أضعف من الغطاء النباتي وأسهم في خلخلة النسيج الاجتماعي وتحطيم علاقات الإنتاج القديمة واقتلاع مواطني تلك المناطق من مزارعهم وأراضيهم لإفساح المجال أمام المستثمرين المحليين والأجانب، واستغلال سلطة الدولة لتحقيق ذلك كما في التوسع في مشروعات الزراعة الآلية. دفع كل ذلك بالكثيرين إلى الهجرة إلى المدن القريبة موفرين عمالة متدنية الأجور. ثم جاء جفاف عامي 1983 و1984 ليفاقم من الصراع القبلي، مع شح موارد الكلأ والماء، وهو ما وضع الأساس لدورة العنف التي انطلقت في دارفور في مطلع الألفية الحالية ودفعت بسكرتير عام الأمم المتحدة وقتها بان كي مون إلى القول إن ما يجري في دارفور نتيجة مباشرة للتغيرات المناخية التي أصابت المنطقة.
وبسبب هذا الوضع احتل موضوع الأراضي مكانة متقدمة في الحوارات السياسية، بل أن اتفاقية سلام نيفاشا مع الحركة الشعبية في 2005 نصت على تكوين مفوضية للأراضي، لكنها لم تر النور قط طوال فترة الاتفاقية التي استمرت ست سنوات. وحدث الأمر نفسه في اتفاقية أبوجا في 2006 لمعالجة مشكلة دارفور، على الرغم من أنه تمّ تكوين تلك المفوضية إلا أنها لم تحقق شيئاً يذكر على المستوى الفعلي.
وصل الصراع إلى مناطق الحضر، كما في نزاع "الكواهلة" و"البطاحين" شرق النيل، قرب العاصمة المثلثة الخرطوم. والكواهلة كانوا يطالبون بنظارة مستقلة منذ سبعينات القرن الماضي وسعوا إلى استغلال التطورات السياسية وحاجة بعض القوى إلى التأييد الجماهيري بعد أن بذلت الوعود لهم. وهو بالظبط ما حدث مؤخراً مع "الكواهلة" الذين استغلوا حاجة المكون العسكري لحاضنة شعبية بعد إزالة نظام البشير.
من ناحية أخرى فإن مفاهيم الحواكير والسيطرة على الأرض تتصادم مع مفاهيم الدولة الحديثة والمساواة في الحقوق والواجبات وحق كل مواطن في التملك، بل إن نظام التُبّع يعني عملياً وضع بعض المواطنين في المرتبة الثانية، إذ لا يسمح لهم أن يكون لهم صوت في ادارة شؤونهم المحلية بينما يمكنهم من ممارسة حقوقهم الدستورية في الانتخابات الوطنية العامة! ومن الأمثال على هذا التضارب أنه عندما فاز اثنان من "المساليت" بمقاعد برلمانية في "القضارف"، شرق السودان في 1986، رُفض طلبهم بإقامة نظارة مستقلة للمساليت في القضارف لأن الشكرية تواصلوا مع سلطان المساليت في غرب دارفور الذي قال إن سلطته تشمل كل المساليت في أي مكان وبالتالي لا يسمح بقيام نظارة مستقلة خارج سلطته.
لم يقتصر موضوع الأرض على محتواه القبلي وإنما تمدد إلى جوانب أخرى مثلما هو حادث في مشروع الجزيرة. فالمشروع الذي بدأ العمل فيه في العام 1925 بلغت مساحته مليونين ونصف المليون فدان، ويعتبر حوالي 40 في المئة من تلك المساحة مستأجراً، لكن فترة الإيجار تلك انتهت منذ ستينات القرن الماضي ووُجهت الحكومات المتعاقبة بخيارات صعبة منها أن تستمر في عملية الإيجار مع تعديل للثمن المدفوع وهو ما يتطلب توفير ميزانية ضخمة، أو أن تتخلى عن هذه الأراضي، وهو ما لم تستطع أي من الحكومات المتعاقبة مواجهته، ما يطرح تساؤلات حول مستقبل المشروع الذي يعتبر صاحب أكبر مساحة زراعية تحت إدارة واحدة في العالم.
وهناك جانب آخر يتصل بقضية الأراضي في مشروع الجزيرة وهو ما يعرف ب"سكان الكنابي". والكنابي عبارة عن مجمعات سكنية للعمال الزراعيين وأصحاب المهن البسيطة الذين تم تهجيرهم للعمل في المشروع من مناطق ريفية أخرى، بل وأحياناً جيء بهم من خارج السودان، بطريقة منظمة أو غير منظمة. هذه الكنابي تم إنشاؤها باستبطان أنها ترتيب مؤقت، لكنها في واقع الحال هي وسكانها استمروا في مواقعهم هذه لعقود من الزمن، تتالت خلالها عدة أجيال من أبناء وبنات هذه المجمعات، وتجاوز عددهم المليونين مع شبه حرمان من توفر الخدمات أو تملك الأراضي للاستخدامات الاقتصادية أو للإسكان خاصة مع محدودية المساحة المتاحة أمام توسع هذه الكنابي، الأمر الذي يجعلها قنبلة قابلة للانفجار.
رُفع في ظل حكم النميري في السبعينات الفائتة شعار "السودان سلة غذاء العالم"، وفتح الباب قانونياً أمام المستثمرين الأجانب لاتاحة مساحات واسعة من الأراضي أمامهم، ما أضعف الغطاء النباتي وأسهم في خلخلة النسيج الاجتماعي وتحطيم علاقات الإنتاج القديمة واقتلاع مواطني تلك المناطق من مزارعهم وأراضيهم واستغلال سلطة الدولة لتحقيق ذلك كما في التوسع في مشروعات الزراعة الآلية.
كما أسهمت التطورات السياسية في البلاد وعلى رأسها انفصال الجنوب في 2011 وتكوين دولة مستقلة إلى ولادة تأثيرات لا تزال ارتداداتها تتواصل، إذ انتهى الانفصال بفقدان السودان لنحو 28 في المئة من مساحته، وهي تشمل 70 في المئة من الغطاء الغابي في البلاد وكذلك نحو 40 مليون فدان قابلة للزراعة، ما زاد من الضغط على موارد الأرض والمراعي المتاحة وفتح الباب أمام مزيد من الصراعات.