ختان الإناث في مصر.. رحلة استئصال عادة الإستئصال

بعد نضال مديد ومتقاطع بين تيارات مدنية ومؤسسات رسمية، غُرست قناعة في نفوس الجميع، مؤيداً كان لممارسة ختان الاناث أو معارضاً، أننا لسنا أمام أمر عادي، وأن من يمارسه اليوم يعلم أنه يرتكب شيئاً تشوبه شبهة الانحطاط، وهو يفعل في الخفاء باعتبار القانون حظّر الختان. لكن هذا الكابوس سينقشع وتنساه أجيال قادمة... كأنّه لم يكن موجوداً من الأصل.
2022-06-27

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
| en
آني كوركجيان، لبنان

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

إنها رحلة تزيد عن مئة عام، تشعبت الجهود في مناهجها والكيانات المؤثرة فيها. ونضجت معها أكثر من غيرها ملامح المجتمع المدني الذي تشكّل من أجل المواجهة، أصوات وأقلام وجمعيات أهلية وروابط نسوية وجامعات ومؤسسات دينية. ثم كان دور السلطة في تبنّي هذا القضية المُنادى بها دولياً. كل ذلك النضال كان - ولا يزال - من أجل استئصال عادة استئصال أجزاء من الجهاز التناسلي للأنثى. وعلى الرغم من ذلك، هناك في مصر من لا زالوا يستمرئون ممارسة الجريمة ويتبجحون في طرح الحجج المهينة لتصل نسبة المختونات في أكثر التقديرات تواضعاً إلى 91 في المئة من عموم المصريات وفق دراسة مسحية (1) أجرتها منظمة اليونسيف التابعة للأمم المتحدة في العام 2015، بالتعاون مع الدولة المصرية.

أسماءٌ ناشطة وهبت كل جهدها لتلك القضية وتحقق معها تراكم لم يذهب سُدى ولم يُصبْ بعد كامل الهدف، لكنه نجح بالتأكيد في غرس اللبنة الأولى التي من بعدها يصبح طريق البناء ممكناً مهما طال الوقت وتكسرت أيادٍ وأزُهقت بكل حسرة أرواح فتيات صغيرات. غُرست قناعة في نفوس الجميع، مؤيداً كان أو معارضاً، أننا لسنا أمام أمر عادي عارض، وأن من يمارسه اليوم تجاه طفلته، يفعلها وهو يعلم تمام المعرفة أنه يرتكب شيئاً تشوبه شبهة الانحطاط، ولا يملك أن يكتم الخوف في داخله وهو يتركها على باب طبيب يمسك مشرطاً أو سيدة تستعد لكتم سيل الدم بقماط.

أولى الخطوات.. حين تشعبت الطرق وتلاقت

تحت عنوان "ختان الإناث نضال ممتد عبر التاريخ" ذكرت الباحثة المصرية "مي عجلان" (2) فى دراسة رصديةٍ لها محطات هامة ودالة على حجم التحديات التي لاقاها من شقوا هذا الطريق وكذلك مستوى التحرك الأفقي والرأسي وما ينقصه حتى اللحظة الراهنة.

وتوضح دراستها أنّ الخطوة الاولى كانت في 28 كانون الأول/ ديسمبر 1928، حين أعلن الجراح العالمي المصري وأول عميد مصري لطب القصر العيني، علي باشا إبراهيم، خلال مؤتمر عُقد بالقاهرة، أنه لم يتعلم ختان الإناث ولا يعلّمه لطلابه، ناصحاً بعدم إجرائه، لافتاً إلى أن كل معلوماته عنه أتت من البنات اللواتي استدعينه لإنقاذهنّ من عواقبه.

تلا هذا سلسلة من المقالات والحملات الصحافية التي تزعمها كتاب وكاتبات للتعريف بتلك العادة الضارة والتدليل على عدم نفعها الطبي وانعدام صلتها بالدين. بل تطرق الحديث إلى ضرورة التساوي بين الجنسين في حق التمتع الجسدي بالعلاقة الزوجية، واعتبار ما يجري جريمة كما تنص المواثيق الدولية.

جاء رد الفعل الرسمي الأول بعدما يقارب ال 30 عاماً، وتحديداً في عام 1959، حين أصدر وزير الصحة القرار رقم 74 في حزيران/ يونيو 1959 بحظر إجراء ختان الإناث في مستشفيات ووحدات وزارة الصحة، وهو ما لم يحقق أي إنعكاس على الوعي بخطورة الظاهرة أو التراجع في مستوى ممارستها حيث كان المعتاد أن من يقوم بتنفيذها هي القابلة أو الحلاق.

فحتى ذلك الوقت كانت لا زالت تلك الدعوات حبيسة الأوراق، سواء على شكل مقالات أو قرارات وجميعها مقتصرة على المثقفين في دولة تزيد نسبة الأمية فيها عن 80 في المئة. وبطبيعة الحال لم يكن نطاق قرائها يمتد كثيراً خارج القاهرة والمدن الرئيسية. كانت هناك حاجة للنزول على الأرض وأن تتكوّن مجموعات فاعلة. وعلى الرغم من النمو الذي لاقته الحركة النسوية في تلك الفترة وتلاقيه مع الإرادة السياسية للدولة في دعمها لبعض الحقوق السياسية والإجتماعية للنساء، ومن بينها إقرار المشاركة السياسية كحق الترشح والانتخاب، إلا أن ضعف الأطر التنظيمية بشكل عام وسيطرة نسق "التنظيم السياسي الواحد" ساهما في الحد من حركة تلك المجوعات النسوية على أرض الواقع ومن نزولها إلى المساحات الرئيسية بالنجوع والقرى، خاصةً بما يخص التماس مع قضية رئيسية كـ"الختان".

الخطوة الاولى كانت في 28 كانون الأول/ ديسمبر 1928، حين أعلن الجراح العالمي المصري وأول عميد مصري لطب القصر العيني، علي باشا إبراهيم، خلال مؤتمر عُقد بالقاهرة، أنّه لم يتعلم ختان الإناث ولا يعلّمه لطلابه، ناصحاً بعدم إجرائه، لافتاً إلى أنّ كل معلوماته عنه أتت من البنات اللواتي يستدعينه لإنقاذهنّ من عواقبه.

جاء ظهور حركات من المجتمع المدني المعنية بالشأن في العام 1979 مع تأسيس "جمعية القاهرة لتنظيم الأسرة" برئاسة د.عزيزة حسين التي شهدت لأول مرة ندوة رائدة عن "التشويه البدني لصغار الإناث في مصر"، عقدت بالمقر الرئيسي بالقاهرة ثم انتقلت لعدد من دواوين المحافظات المصرية. وقد تمت الاستعانة خلال تلك الندوات بأول منجز بحثي، حيث أعدت "ماري أسعد" دراسة ميدانية عن ختان الإناث في مصر، وقدمتها بشكل رسمي باسم الدولة المصرية خلال الاجتماع الذي عقدته "منظمة الصحة العالمية" بالخرطوم عن الممارسات الضارة بصحة النساء.

أولى المعارك: حين اختار كل طرف معسكره

شهدت تلك القضية تلاقياً بين التوجه الرسمي والأهلي والحقوقي. ولعل السبب يكمن في خطورتها وفي تجذّر الممارسة في النسيج الشعبي الذي توارثها حتى منتصف القرن الماضي كـ"عرف" وعادة تربط بينه وبين الحد من الرغبة الجنسية لدى النساء من ناحية، وارتفاع رصيد تمتّع الرجال جسدياً من ناحية أخرى. هذه العادة التي لم يعرفها على مستوى العالم سوى27 دولة أفريقية من بينها مصر والسودان، وقد جاءت مصر وفق إحصاء اليونسيف (3) في المركز الثالث من حيث الانتشار بعد كل من أثيوبيا والصومال، وقالت الدراسة المسحية أن عدد النساء المختونات حول العالم يقدر بـ 200 مليون أنثى.

شكلت مسألة الختان نقطة التقاء بين أصحاب وصاحبات تيارات فكرية مختلفة، عدا التيار الإسلامي بشقيه الإخواني والسلفي وغيرهما، الذي تزايد انتشاره وتأثيره منذ منتصف السبعينات الفائتة، وتصادف ارتفاع أسهمه في الشارع وانتشار أفكاره مع بدء دوران عجلة مقاومة تلك الممارسة، فاتخذ أصحابه موقف المدافع عنها وأسبغوا عليها صفة دينية وخرجوا على المنابر للدفاع عنها وإيراد مبررات فقهية تعضد وجهة نظرهم، على الرغم من انتفاء تلك الممارسة في الجزيرة العربية التي كانت هي المورِّد الفكري الرئيسي للكتب الدينية التي يتم تداولها بين شباب تلك التيارات ومشايخه آنذاك.

لعب المناخ السياسي والاقتصادي دوراً كبيراً في التأثير على الوضع آنذاك. فبعد أن شهدت معدلات التنمية ارتفاعاً في مصر حتى أوائل الثمانينات الفائتة، أخذ هذا المنحنى في الهبوط مُضافاً إليه التراجع في المخصصات المالية لكل من التعليم والصحة والثقافة الجماهيرية وشق وتمهيد الطرق، فتسبب في تراجع معدلات القضاء على الأمية وانتشار ظواهر التسرب من التعليم والعنف الأسري وغيرها من الممارسات السلبية. وقد تعزز وسط ذلك المناخ الذكوري السلطوي الذي ساهم تارةً باسم العرف وتارةً أخرى باسم الدين في المقاومة الشرسة لمحاولات القضاء على الختان في ريف مصر وصعيدها.

فصلت بشكل مبكر وصادم الكاتبة الطبيبة الشهيرة بالنضال النسوي، "نوال السعداوي"، في كتابها "المرأة والجنس" (4) كافة تلك الدوافع والحجج، صدرت 4 طبعات من الكتاب في عامٍ واحد! ولكنه أيضاً دفع بها إلى حملة خاضتها بمفردها ضد عدة أطراف أهمها نقابة الأطباء وكل من ينتمي لها وينفّذ الختان في عيادته الخاصة. هجوم وهجوم متبادل انتهى بفصلها من النقابة تحت لائحة عدم الانضباط وتوجيه إهانات لاذعة للزملاء.

وقد أثمرت أولى المعارك بشكل حقيقي بعد ذلك بما يقارب العشرين عاماً وتحديداً في العام 1994. فعلى الرغم من تشكّل أول لجنة وطنية عامة للقضاء على عادة الختان بمشاركة عدد من الجمعيات الأهلية، وانعقاد المؤتمر الدولي للسكان والتنمية في القاهرة والذي سلّط الضوء بصورة كبيرة على تلك الظاهرة، إلا أن وزير الصحة المصري آنذاك تراجع عن القرار المتبع منذ 35 عاماً، فتبنى قراراً إدارياً يقضي بفتح المستشفيات العامة لإجراء الختان بناء على رغبة أولياء الأمور. وعلى الرغم من أن ديباجة القرار تتضمن تعداداً لأضرار ختان الإناث، فقد سمح بإجرائه، على ألا يمارسه سوى الأطباء المتخصصون.

تتجذّر الممارسة في النسيج الشعبي الذي توارثها كـ"عرف"أولاً وكعادة تربط بينه وبين الحد من الرغبة الجنسية لدى النساء، وترفع رصيد تمتّع الرجال جسدياً. والختان معروف على مستوى العالم في 27 دولة أفريقية من بينها مصر والسودان. وتحتل مصر المركز الثالث من حيث الانتشار بعد كل من أثيوبيا والصومال، ويُقدّر عدد النساء المختونات حول العالم بـ 200 مليون أنثى.

لاقى القرار مقاومة مجتمعية كبرى عبر وسائل الإعلام بل ورفعت حقوقيات دعوى قضائية تم الحكم فيها بعد ثلاث سنوات كاملة بإلغاء القرار الإداري. وساهمت هذه المعركة في إلقاء الضوء على عدد من الأصوات ووجهات النظر الجديرة بالرصد:

فعلى الضفة الأول، دافع وزير الصحة والقائمين على اتخاذ القرار في إدارته عن وجهة نظرهم عبر التأكيد على إقرارهم بضرر عملية ختان الإناث ورفضهم لها، إلا أن انتشارها في كافة أنحاء الجمهورية وممارستها على أيدي غير المختصين تنتج عنه حالات نزيف تفضي إلى الموت في كثير من الأحيان، فرأوا على ضوء ذلك وكنوع من التفاعل مع الأمر الواقع ـ من وجهة نظرهم ــ السماح بإجرائه على يد جراحين تابعين لوزارة الصحة. إلا أن المحكمة الإدارية العليا رفضت ذلك، من منطلق قاعدة رفض إقرار الخطأ، وأوصت بضرورة اتخاذ التدابير اللازمة، القانونية والأمنية والمجتمعية، للتصدي لتلك العادة المخالفة للمواثيق الدولية.

على الضفة الثانية، نشط محامون إسلاميون في تحريك دعاوى قضائية مضادة تطالب بإلغاء قرار الإلغاء وإعادة التفعيل، وهي الدعوى التي رُفضت، لكن أصحابها أ(و من ينتهجون نهجهم) كرروها عدة مراتٍ. ولعل أشهرها معركة عام 2007 وتحريك دعوى قضائية جاءت في سياق زمني شهد انتشار القنوات الفضائية الخاصة في مصر ومن بينها قنوات دينية بث بعضها (وبشكل خاص "قناة الناس") حملات لبعض المتحدثين المعروفين كـ"صفوت حجازي"، قاد حملة للدفاع عن ختان الإناث. وكان كل ما ساقه يندرج في صلب المذكرة المقدمة أمام المحكمة والتي جاء فيها: "حجية الأحاديث النبوية الواردة بصحيفة الدعوى وصحتها ودلالتها القاطعة على مشروعية ختان الاناث واتفاق أئمة الاسلام وعلمائه سلفاً وخلَفاً على صحتها والاستدلال بها على مشروعيته بل والاتفاق على استحبابه لأن فيه مصلحة ومكرمة للأنثى، وهو من خصال الفطرة ومن شعائر الاسلام، ومع إصرارنا وتمسكنا بالقول بعدم جواز الرجوع إلى قول بشر ولو كان طبيباً ما دام صح حديث فى المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى فهي مفيدة صحياً وخلقياً بالأنثى".

ولم يكن من الغريب، ومع وصول التيار الإسلامي إلى منصة التشريع والحكم في مصر عام 2012 أن تعود ممارسات مماثلة للسطح، فنظّم "حزب الحرية والعدالة" التابع لجماعة الإخوان المسلمين قوافل إلى قرى المنيا من أجل دعوة الأهالي لإجراء عمليات الختان تحت إشراف أطباء، وتوفير السبل لذلك.

النزول للأرض وإحصاءات الحصاد

على الضفة الثالثة كانت تلك السنوات العشرة (1997- 2007) هي المختبر الرئيسي الذي تفاعلت داخله دعوات تنادي بحملات وطنية عامة للتوعية وتصحيح المعتقدات وإصدارتشريع قانون يُجرّم عمليات ختان الإناث ويقضي بعقوبة ولي الأمر والقائم بها. فشهدت وسائل الإعلام ومقرات المنظمات الحقوقية والجمعيات الأهلية النسوية وعدد من المؤسسات الرسمية أيضاً مناقشات واسعة مع مؤسسة الأزهر الشريف والجمعية العلمية لطب النساء والتوليد ونقابة الأطباء من أجل صياغة خطاب مشترك، وقد تحقق ذلك إلى حد كبير.

لا زالت الجهود مستمرة ومتراكمة، ومتطورة بلا شك. وعلى الرغم من هذا تبقى محدودة التأثير في ظل حجم امتداد ممارسة الختان. هذا ما يدركه الجميع الآن داخل ما يقارب مئتي مؤسسة مدنية إضافة إلى الجهات الرسمية، وهو يقول إنّ الطريق للوصول والدخول إلى كل بيت صعب، والأصعب منه هو إنارة العقول وترقيق القلوب.

جاء انعقاد مؤتمرين بنهاية التسعينات الفائتة لتعضيد الموقف الجماعي، أولهما مؤتمر "السكان والصحة الإنجابية في العالم الاسلامي" الذي انتهى بصدور بيان يؤكد انتفاء صحة التوصية النبوية بإجراء هذه العادة، وفي العام 2005 صدر كتابً يعتبره البعض مرجعية شرعية وهو "نحو القضاء على عادة ختان الإناث" من إعداد المركز الدولي الإسلامي للدراسات والبحوث السكانية بجامعة الأزهر.

وأما الثاني فكان المؤتمر السنوي لجمعية أطباء النساء والتوليد المصرية والجمعية المصرية لرعاية الخصوبة، وخصصت فيه جلسة خاصة بختان الإناث، انتهت بإعلان موقف جاء فيه: "أنها ممارسة غير ضرورية وضارة ومحفوفة بالأخطار، ولا يصح أن يقوم بها طبيب أقسم على احترام مهنة الطب، وأن الحالات التي تولد بعيوب خلقية تستدعي إجراء جراحات تكميلية على عضو التأنيث الخارجي شديدة الندرة، وأنها جراحات دقيقة يقررها فريق متخصص في الوراثة والغدد الصماء وجراحة الأطفال، بعد تقييم دقيق، ولا تشمل استئصال البظر ولا الشفرين ولا تسمى ختاناً".

في التوقيت نفسه، تشكلت بالفعل "اللجنة الوطنية للقضاء على ختان الإناث" تحت مظلة رسمية سمحت بانضمام عشرات من الجمعيات الأهلية لها، نشط البعض منها على الأرض خاصةً في المناطق العشوائية بالقاهرة أو داخل قرى الصعيد، وانصبّ دورها الرئيسي على تقديم خدمات للنساء مثل محو الأمية والمشروعات الصغيرة للتمكين الاقتصادي ورفع مستوى الصحة الإنجابية، وفي سياق ذلك جاءت محاضرات وندوات التوعية للأمهات بعدم إخضاع بناتهنّ لهذه العادة.

كان لهذه المبادرات الأهلية أثرها في أن تنتهج الدولة نهجاً مماثلاً، فتم من جديد في العام 2003 محاولة دمج وتشبيك تلك النشاطات تحت عنوان واسع حماسي آخر وهو "البرنامج القومي" وتحديد 120 قرية كمرحلة أولى لإعلانها خالية من ختان الإناث، جاء أغلبها في مناطق متعددة بالصعيد، وشهد أغلبها نشاط بعض هذه الجمعيات. لكن كغيره من العناوين الكبرى فقد خفًتَ سريعاً، لم يجر إعلان نتيجة المرحلة الأولى. حاول المجتمع المدني شحذ همته مرة أخرى وبعيداً عن المظلة الرسمية، فأعلن في العام 2009 "اائتلاف الجمعيات الأهلية لمناهضة الختان" ودُرِّبت تحت مظلته 145 عاملة في مجال التوعية.

غابت الإحصاءات الدقيقة حتى صدور تقرير اليونسيف ذاك الذي تحدث عن نسبة عامة تصل إلى 91 في المئة وهو ما يثبت ضخامة الظاهرة على الرغم من كافة الجهود المبذولة رسمياً وأهلياً.

محدودية الإمكانات المادية لكثير من الجمعيات الأهلية، وعدم جدية بعض القائمين على الوحدات المحلية المنوط بها التوعية والمراقبة، والمد الديني المتجذر داخل القرى والمناطق الشعبية... هكذا حددت الحقوقية النسوية "نهاد القمصان" أسباب تلك الغلبة في نسبة الختان على الرغم من كافة الجهود المبذولة، ولكنها نوهت في الوقت نفسه بأن الأرقام التفصيلية بالدراسة ترصد التباين في نسب المختونات حسب الشريحة العمرية، والتي قد تعطي انطباعاً بإمكانات حصد أثر السعي بشكلٍ أفضل في السنوات القادمة. ففي حين تشير الدراسة الدولية إلى نسبة عامة، فقد بينت دراسة الباحثة قمصان (5) ارتفاع تلك النسبة إلى 93 في المئة بين المتزوجات من سن 15 إلى 45 ، بينما لم تزد النسبة بين الفتيات الصغيرات من سن 1ـ 7 سنوات عن 21 في المئة، وأنها 56 في المئة بين الفتيات من سن 16- 17 سنة. كما رصدت الدراسة التباين على مستوى التقسيم الجغرافي، ففي حين وصلت نسبة المختونات بالصعيد إلى 96 في المئة فهي لم تزد في المدن الساحلية كدمياط وبورسعيد عن 16 في المئة.

شكلت مسألة الختان نقطة التقاء بين أصحاب وصاحبات تيارات فكرية مختلفة، عدا التيار الإسلامي بشقيه الإخواني والسلفي وغيرهما، الذي تزايد انتشاره وتأثيره منذ منتصف السبعينات الفائتة، وتصادف ارتفاع أسهمه في الشارع وانتشار أفكاره مع بدء دوران عجلة مقاومة تلك الممارسة، فاتخذ أصحابه موقف المدافع عنها وأسبغوا عليها صفة دينية وخرجوا على المنابر للدفاع عنها وإيراد مبررات فقهية تعضد وجهة نظرهم.

تشكلت "اللجنة الوطنية للقضاء على ختان الإناث" كمظلة رسمية سمحت بانضمام عشرات من الجمعيات الأهلية لها، نشط بعضها على الأرض خاصةً في المناطق العشوائية بالقاهرة وداخل قرى الصعيد، وانصبّ دورها الرئيسي على تقديم خدمات للنساء مثل محو الأمية والمشروعات الصغيرة للتمكين الاقتصادي ورفع مستوى الصحة الإنجابية، وفي سياق ذلك جاءت محاضرات وندوات التوعية للأمهات بعدم إخضاع بناتهنّ لهذه العادة. 

في العام 2014، وبعد عزل التيار الإسلامي من الحكم، تم إطلاق "الاستراتيجية القومية لمناهضة ختان الإناث 2016-2020" بمشاركة كل الأطراف بهدف خفض معدلات ممارسة ختان الإناث إلى نسبة 10 -15 في المئة وسط الأجيال الجديدة في الفئة العمرية من 0 إلى 19 وحتى القضاء عليها تماماً.

الحقيقة الموجعة

تَعتبر السيدات الرائدات في العمل ضد هذه العادة أن بدء الحصاد كان بتهيئة مناخ تشريعي يسمح بمحاصرة الفكرة وحسرها. يعلمن ذلك ويؤكدن في الوقت نفسه أن هذا لم يحدث فقط نتيجة لتراكم السعي وإنما كان أيضاً للحوادث الجلل الأثر الأكبر فيه. ففي العام 2007 صدرت أول فتوى عن دار الإفتاء المصرية تدين إجراء الختان، وهو ما جاء كرد فعل يسعى للردع بعد أن كشفت وسائل الاعلام وفاة الطفلة الصعيدية "بدور" ابنة الإحدى عشر عاماً التي قضت في عيادة طبية خاصة. وفي العام 2008 صدر التشريع الأول، لكن الحكم الأول لم يصدر إلا في العام 2015 وكان بحق طبيب انتهت داخل عيادته حياة طفلة أخرى، فطاله حكم بالحبس لعامين وحبس والد الطفلة ثلاثة أشهر مع إيقاف التنفيذ. انطلقت موجة مجتمعية نسوية جديدة انتهت إلى إدخال تعديلات باتجاه تغليظ العقوبات، وأصبح النص المعتمد منذ عام 2016 هو السجن من خمس إلى سبع سنوات لمن يقوم بإجراء عملية ختان الأنثى. وتكون العقوبة بالسجن المشدد إذا نشأ عن هذا الفعل عاهة مستديمة أو أفضى إلى الموت، كما أضيفت مادة تعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات من يصطحب الأنثى لإجراء عملية ختان إذا ما تمّت. ويطال هذا النصّ بالتجريم الأب أو الأم أو القريب الذي يقتاد الفتاة. إلا أن هذا لم يمنع أن تنتهي المدة الزمنية المحددة بالاستراتيجية وهي العام 2020 بالإعلان عن حالة وفاة ثالثة بالملابسات نفسها.

إنها وفيات تخرج للسطح ومن داخل عيادات طبية لا لتوثق حقيقة، ولكن لتعطي مؤشراً عن عدد غير محدود من الوفيات والعاهات المستديمة التي شهدتها نجوع وقرى ومدن مصر على مدار المئة عام الفائتة بحق فتيات صغيرات ولم يتم الكشف عنها بعد.

لا زالت الجهود مستمرة ومتراكمة ومتطورة بلا شك. وعلى الرغم من هذا تبقى محدودة التأثير في ظل حجم امتداد ممارسة الختان. هذا ما يدركه الجميع الآن داخل ما يقارب مئتي مؤسسة مدنية إضافة إلى الجهات الرسمية، وهو يقول إنّ الطريق للوصول والدخول إلى كل بيت صعب، والأصعب منه هو إنارة العقول وترقيق القلوب.

ولعل واحدة من أهم تلك الحملات التي تضافرت بها جهود الجميع وحققت أثراً هي تلك الحملة الإعلامية التي شرحت في إعلان تلفزيوني غير قصير مخاطر ما تواجهه كل طفلة تمر بتلك التجربة الموجعة وأثرها على مستقبلها. كانت المرة الأولى التي يتم الدخول بوضوح وفي خطاب شعبي إلى الحديث عن زيف المعتقدات الشعبية حول تلك العادة، كما صدرت كتيبات صغيرة تشرح ذلك تفصيلاً وتمّ توزيعها على الوحدات الطبية والمكتبات المدرسية.

***

كان وجه طفلة الإعلان - ولا يزال - هو الأكثر تأثيراً وتعبيراً، وجهها يشبه وجه بدور، كل بدور، سواء مر من فوق عضوها التناسلي ذاك المشرط فأكملت حياتها أو قضى عليها، هو وجه يحمل كل معاني البراءة وأمارات الخوف في انتظار أن ينقشع يوماً هذا الكابوس وتنساه أجيال قادمة... كأنه لم يكن موجوداً من الأصل. 

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

1- وفق ما نشرته "جريدة الوطن" المصرية في 2015
https://www.elwatannews.com/news/details/656825
2- مي عجلان وحدة أبحاث مجلس الشباب المصري، مرصد ختان الإناث، القاهرة 22
مجلس الشباب المصري | Facebook  
3-Female Genital Mutilation (FGM) Statistics - UNICEF Data
4- -"المرأة والجنس"، نوال السعداوي، دار نشر ومطابع المستقبل، 1990
https://binged.it/3A2sHFj
5- ناهد قمصان https://youtu.be/CiwFa03Jb4k

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...