أحوال بلداننا ومجتمعاتنا على قدر من السوء متعدد الأشكال والمجالات، وقد وصلت إلى حدود لم تخطر على بال أحد، لا من بين عامة الناس ولا من قبل مثقفيهم. وأما القادة والساسة ومن شابههم فهم منفصلون تماماً عن الواقع، لا يرون ولا يشعرون، والمؤكد أنهم لا يأبهون! يتحركون في فقاعاتٍ عازلةٍ صنعوها حولهم، ويتعاملون مع مشكلاتهم وهواجسهم بوصفها هي الكون.
وهذا الانفصام هو أحد وجوه الحالة التعسة، ليس لأن هؤلاء مُهِمّون بل لأنهم - وبينما تلك هي حالهم -متسلطون على رقابنا.
لبنان ذاك لم يعد موجوداً
27-01-2022
ليس لبنان الصغير سوى عينة من البؤس العام للمنطقة، الممتزِج بمسخرةٍ لم يسبق لها مثيل. ولن نكرر، ولكن أحوال العراق ومصر وسوريا والجزائر، وهي بالتأكيد أركان هذه المنطقة – بينما تعبث "الأطراف" وكأنها بدائل - تكاد تتجاوز مظاهر سوء حال لبنان وانسداد الآفاق أمام أي حلول له، والافتقاد أصلاً لأي تصوراتٍ عن هذه الحلول، سواء أتت ممن يُعرّف نفسه كيسار، أو ممن يظن أنّ الليبرالية أو الاسلاموية منقِذتان. يفتقر الجميع – وإطلاقاً -إإلى الخيال السياسي، ويجترون ويلوكون كلاماً صار نكاتاً، أو ينزلقون الى مشاحناتٍ يُفترض أن تعوِّض فراغ تلك الثرثرة، وأن "تشدّ عصباً ما" بينما صارت هي نفسها خاوية.
وفي هذه الأثناء تتدهور أحوال الناس: الغذاء والتعليم والصحة والسكن والأمان... فيموت من يموت، ويتحول الباقون الى كائناتٍ تسعى زحفاً لتدبر الحياة اليومية بمعنى البقاء على قيد الحياة، ولو بأشد الشروط بؤساً. يا للهول!
هناك طبعاً من يتحدى، من يُبدِع في كافة المجالات ومن يقاوِم، وما يجري في فلسطين كل يوم، وفي السجون هنا وهناك، وفي أعمال فنية متفرقة، دليلٌ على قوة نبض الحياة لدى أبناء هذه المنطقة، وهو ما يستدعي التالي:
أبطال هذا الزمان ورموزه
17-03-2022
طالما أن الخطر الأكبر الذي يهدد مجتمعاتنا هو التحول إلى مكبّ نفاياتٍ هائل، تتقاتل حوله بضعة وحوش ضارية ونهّابة، فالمهمة الأكبر أمام كل من "يؤمن" أنها حال خطيرة ولكنها مهما دامت، لا يمكن أن تكون نهاية المطاف (نعم هو إيمان! وليس لنا سواه)، هي السعي لإنقاذ النسيج الاجتماعي المنتهك، المستهدف بآليات مرعبة من التفكيك. السياسة صارت شأناً غامضاً تماماً: فما الذي يفعله السيسي مع بن زايد وذاك الاسرائيلي في سيناء؟ وما لعبة مقتدى الصدر والمالكي وأقرانهما؟ ولمن سيوقع الأسد صكوكاً لبيع سوريا بالمفرق وكأجزاء؟ وما الذي ينويه قادة بلد "المليون شهيد"؟ وهي الأسئلة ذاتها عن غموض الحال في السودان وتونس وليبيا... وأما عند المستوى الذي يمس مباشرة الناس، فقد صارت السياسة اعتقالات مبرَمة على كلمة أو على موقف، وجز رقابٍ جماعيٍّ بسبب "قناعات"..
يقود هذا الوضع أو يراد منه أن يقود الى استنتاجٍ مفاده: "كل واحد يشوف شغله ويسعى إلى رغيف خبزه". بل يهندس ليكون التضامن بين الناس المظلومين جناية يعاقَب عليها بالسجن أو بالإخفاء القسري، وبأحسن الأحوال بمحاكماتٍ صورية بتهم من قبيل "توهين معنويات الامة" (مثلاً) مع تنويعاتٍ تشير الى الدولة او الجيش، أو "نشر أخبار كاذبة" (مثلاً)، وحبل التهم على هذه الشاكلة طويل، ويتعمّد في خاصيةٍ ذات مغزى أن تكون الملاحقات والاعتقالات اعتباطيةً وكيديةً، وأن تدفع بالمعتقَلين الى اليأس. إنّ إشاعة اليأس هو بيت القصيد، وحين يرفض واحدٌ مثل أحمد دومة أو علاء عبد الفتاح أو سيف ثابت الاستسلام (وهؤلاء صاروا وجوهاً وسمعنا عنهم، ولكن كم اغتيل أو صُفّي سواهم من دون ضجيج)، يُحشَرون في زنازين أضيق وأكثر ظلمة، وتهدَّد عائلاتهم، وتطال اليد القذرة أصدقاءهم...
كيف الخروج من استعصاء أوضاعنا؟
11-11-2021
وهكذا يبدو أنّ ما بيدنا اليوم ليس برامج تغيير واستراتيجيات كبرى. ما تبقّى لنا هو "التراحم" (كلمة دينية أخرى!). ومع التراحم - وهو شكل التضامن الممكن – تَبنّي مبادرات، مهما بدت صغيرة الشأن، للمساعدة، والإكثار منها، كلٌ في مكانه وبما يُمكنه. ألاّ تموت امرأةٌ أو كبيرُ سنٍّ أو طفلٌ أو شابٌ من الجوع أو البرد أو الخوف أو التشرد أو الوحدة... أو اليأس، ألا يحدث "التخلي" (كلمة ثالثة دينية).. وبعد ذلك ستولد احتمالاتٌ أخرى.