يمنيّات يخلقن واقعاً موازياً في ظلّ الحرب

بدأت "مَعين" بالاهتمام بالسجينات "العاديات"، وخلال الحرب أصبحت وسيطاً في نزاعات ومفاوضات كثيرة. أعادت "أشواق" بناء مدارس مقصوفة من العدم. تعمل "داليا" على توفير مهنٍ لنساء الحُديدة الفقيرات، بينما تطوعت شابات من عدن لتوفير الاكسيجين لمرضى كورونا. تقوم "قبول" وزميلاتها بالممكن من القاهرة حيث لجأن. وأما "مسك"، وهي من فئة "المهمشين"، فأصبحت رسمياً "عاقلة حارة". وتتصدى "مريم" مع أخريات لختان الإناث في حضرموت...
2022-03-31

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
| en
حفيدات بلقيس ملكة سبأ

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

في أمكنةٍ كاليمن وواقعٍ كالذي يمرّ به الآن، الموت هو القاعدة. يموت الناس من القصف، ومن الانفجارات والألغام والاعتقالات خارج القانون والاخفاء القسري، ويموتون من الجوع والعطش والمرض والفاقة، يموتون في الغربة ويموتون بسبب انعدام الفرص، كما يموتون كمداً وحزناً. وبالتالي تتركز جهود الناس "الطيبين" غالبا على "الحياة": أولويةٌ عادلةٌ وفي محلها.

تعيش اليمنيات في ظلّ ظروفٍ بالغة السوء، حيث إضافةً إلى ما سبق من حالةٍ عامة، ما زال لدى اليمنيات واحدة من أعلى معدلات الوفاة خلال الإنجاب التي يتسبب بها أحياناً تزويجهن وهنّ أطفال. ومع هذا، أثبتت النساء أنهن يتمتعن غالباً بـ "حساسية" عالية تجاه القضايا التي تخصّ الشأن اليومي للناس، ويجدن أسبابهن ودوافعهنّ للمبادرة ومواجهة الظروف القاسية والاستجابة لحاجات ومسؤوليات المجتمع من حولهنّ.

"مَعين" لا تنضب

التقيت "مَعين" في الصيف الماضي. شابة متيقظة، قيل لي قبل مقابلتها: مَعين لا تحب الكلام الكثير، إنها تعمل! وهذا ما تأكد لي، فخريجة كلية القانون تطوعت منذ تخرجها في عام 2004 لتكون نصيرة للنساء، للأكثر ضعفاً من بينهن والأكثر نبذاً: السجينات. قالت لي أن البداية كانت مع "اتحاد نساء اليمن"، الذي كانت إحدى سيداته تقود حملة لمساعدة السجينات. بدأت معين حينها العمل مع فريق من المحاميات لا يحملن غير مؤهلهنّ وإيمانهنّ بقضايا النساء ومحاولة منحهنّ محاكماتٍ عادلةٍ لقضايا غالباً ما كان الرجال المحامون والقضاة لا يولونها اهتماماً، وهي جرائم "القضايا الأخلاقية" مثل "الفعل الفاضح" و"الزنا" الخ. انتقلت بعدها مع الفريق من التخصص في قضايا السجينات فقط إلى تمثيل النساء الفقيرات وقضاياهنّ، مثل العنف الأسري والطلاق وغيرها مما يمس الحياة اليومية للنساء. وقد اهتمت معين بشكل خاص بالنساء من فئة المهمشين (1) المنبوذة، اللواتي قد يكنّ أكثر تهميشاً من الرجال من الفئة نفسها، ولن يبالي أحد بقضاياهن أياً كانت، لأن لا مبالاة بحياتهن من الأساس. وبعد مشوارٍ طويل من العمل، أخذت الهيئة القضائية مَعين وزميلاتها على محمل الجد وتجاوبت معهن. قالت لي أن هذا كان ثمرة إصرارٍ وكفاح، في جوٍّ من تسطيح وتسخيف عمل النساء وقضاياهنّ.

تضحك مَعين وهي تصف كيف كانت تتطوع بدون أن تتقاضى ريالاً واحداً، وتقطع أحياناً المسافات مشياً على الأقدام لأنها لا تملك قيمة بدل المواصلات، ولا ثمن قنينة ماء تسدّ بها عطشها. حين تترجع إلى المنزل منهكة القوى تعود والدتها إلى تأنيبها وسؤالها التوقف عمّا تفعله، كونها أولاً لا تتقاضى شيئاً، ثانياً لأنه عملٌ قاسٍ ويستهلك الكثير من مشاعرها ومن قواها: ومع هذا فقد استمرت.

اندلعت أحداث 2011، ومعين في الصفوف الأولى للثوار. خلال ذلك العام انتُخبت كمسؤولة عن دائرة الحقوق والحريات في نقابة المحامين. كانت أول امرأة تصعد إلى ذلك المنصب، وعن طريق الانتخابات. الشارع يغلي ومدينة تعز تقود الثورة وطنياً، بينما تقود مَعين اللجنة القانونية في ساحتها المسماة "الحرية". من خلال هذه اللجنة وثقت مَعين بشكل رسمي الانتهاكات التي تعرّض لها الثوار، من خلال تقديم طلبات للنيابة بفتح تحقيق بكافة قضايا العنف والانتهاك. وهي عملت ليس فقط على توثيق الانتهاكات وإنما وكذلك على الوقوف بجانب أسر من استشهد أبناؤها، حيث تستخرج تصاريح الدفن وشهادات الوفاة.

تتذكر مَعين قائلة: آمنا أن كل شيء في سبيله للتغيير وستصبح الحياة أفضل.

ولكن على الرغم من أن الحياة سارت للأسوأ، إلا أن مَعين واصلت دورها كامرأة مكافحة تعرف مسؤولياتها ناحية مجتمعها. فحين اندلعت الحرب، ونال مدينتها ما نالها من الدمار والحصار، نزحت عائلتها مع طفلتها هي الصغيرة إلى الريف، بينما بقيت مَعين في المدينة بسبب عملها. قالت: ليس هناك من طريق تمّ إغلاقها بسبب الحصار إلا واجتزتها في محاولاتي المستمرة زيارة طفلتي وعائلتي والعودة إلى عملي في رصد الانتهاكات. من تلك المعاناة التي تفوق الوصف، فكرت معين أنه يجب البدء بالحديث عن فتح ممرات في المدينة المحاصرة، وبدأت طوعياً ولوحدها أحياناً مسيرة شبه مستحيلة لفتح طرق وممرات يتقاسمها طرفي حرب: نجحت أحياناً في إقناعهم، على الرغم من أن تلك الطرق تعود مرات لتغلق بسبب مزاجهم ومصالحهم. وهي ما زالت تعمل على الأمر حتى لحظة الحديث معي. من ناحية أخرى، كان زملاء لها يعملون على تبادل جثث القتلى بين جهتي النزاع في المدينة أو الإفراج عن أسرى ومعتقلين. ولأنها محل ثقة وحازت سمعة جيدة في مجال الوساطة، يشترط الطرفان على الوسطاء وجود مَعين في فريقهم لتسليمها كشوف الأسرى على سبيل المثال. لا تشارك مَعين مباشرة في العمل ولا تنسب لنفسها فضل المبادرة، لكنها بطريقة ما جزءاً منها.

بالتوازي مع هذا، وفي مدينة عطشى مثل تعز، قررت مَعين مع زميلتها علا الأغبري المبادرة لطرح مسألة جفاف تعز، فخزاناتها المليئة بالماء تقع في الجزء الذي يسيطر عليه الحوثيون في المدينة التي يتقاسم النفوذ فيها ثلاث جهات. تقول مَعين: "لدي علاقات جيدة بالجميع، وأنا على مسافة واحدة من كل الأطراف، أنحاز لمصلحة الناس والمجتمع". ومثل مسألة فتح الطرق، تعاملت معين مع طرفي النزاع، وأقنعت جانب الحكومة المعترف بها دولياً ممثَلة ب"مؤسسة المياه"، وأقنعت الحوثيين بأن يبدأ ضخ الماء لخزانات مؤسسة المياه الواقعة تحت سيطرة الحكومة. قالت لي: لم تُضخ المياه بعد ولكن الصليب الأحمر الدولي يُصلح الأنابيب والخزانات، ولدينا اتفاق، وسيُضخ الماء قريباً كما نأمل!

لا تتوقف همّة مَعين التي قالت لي أن مسيرتها لم تكن بالسهلة، ولم ولن تكون سهلة لأيّ امرأة يمنية تخوض هذا المجال أو تسعى لإثبات أنها خارج الأطر التقليدية وما هو متوقعٌ منها. امرأةٌ مثل مَعين تعرضت للترهيب الذي تتعرض له نساءٌ كثيرات، لدرجة أن أخيها أطلق النار في الهواء تهديداً لها، ولكنها ما زالت تخوض الحرب ذاتها! فمَن لمدينةٍ عطشى ومحاصرة ولنساءٍ يُظلمن عبر التاريخ غير نساءٍ مثل مَعين؟

معلّمة بطلة

.. وهذه قصة المعلمة "أشواق عبد الجليل" التي كانت وما زالت تعمل كأستاذة في مدرسة اسمها "الحياة" في مدينة تعز، وهي في الأساس كانت أستاذة في "مدرسة الميثاق" التي قُصفت بطيران "التحالف". "مدرسة الحياة" التي نزحت إليها، قصفها التحالف هي الأخرى، واحترق جزء منها ثم أحرق الحوثيون الجزء الآخر، ونُهبت محتوياتها من كراسٍ وأبواب وألواح (سبورات) وكل ما يمكن نهبه. ومع هذا، استمرت أشواق مع بقية الاساتذة في العمل. كان الطلبة يجلسون على الأرض في "بقايا المدرسة" التي اسوّدت جدرانها بسبب القصف. وجاهدت المعلمات لإيصال أصواتهنّ للتلاميذ بسبب الضجيج القادم من الفصول الأخرى كون لا أبواب تعزل الأصوات، كما يضرّ البرد والغبار بصحة الأولاد والأساتذة، ويصيبهم بالسعال والحساسية. لفت نظر أشواق كومة حديد ملقاةٍ بجانب المدرسة، وطرأت في بالها الفكرة: يمكن أن نصنع شيئاً! وعلى الفيسبوك كتبت أنها بحاجة إلى حدّاد ماهر يحوِّل كومة حديد إلى كراسي. وهكذا بدأت سلسلة من إصلاحات المدارس وترميمها.

المدرسة ذاتها التي قادت أشواق ترميمها، يُستخدم جزءٌ منها - مدمرٌ سابقاً – في عقد فصولٍ لمحو الأمية. قالت أشواق أنه على الرغم من أن الفصول معتمدة من وزارة التربية والتعليم، لكنه لم يكن يتوفر لديهم مبنى يباشرون التعليم فيه، فاضطروا لاستخدام فصول غير مؤثثة، ولا أبواب لها، تنطلق بعد أن تنتهي فصول التلاميذ. قامت أشواق بترميم الأبواب والكراسي للسيدات اللواتي كن غالباً أمهات يسعين لتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن، وبعضهن كنّ فعلاً يواصلن التعليم، حتى أن واحدة منهنّ وصلت الى الصف التاسع مع سائر تلاميذ أشواق، وتسعى للالتحاق بالجامعة. وعندما سألتُ أشواق إن كانت المعلمات يتقاضين أجوراً لقاء تعليم فصول محو الأمية، أخبرتني أنْ ليس كلهنّ، بل أن جزءاً منهنّ يتطوعن لتعليم السيدات.

قسمت أشواق العمل على مراحل: بدأت بالكراسي، النوافذ ثم الأبواب، بعد ذلك انتقلت إلى الجدران المحترقة و"السبورات". تُصوِّر المعلمة المكان المراد إصلاحه، وتحدد بدقة المبلغ الذي ستحتاجه، ثم تقسم المبلغ إلى أسهم بمبالغ أصغر كي يتاح للجميع المشاركة، تنشر الصور والخبر على فيسبوك، تتلقى الدعم. وإن لم يكن مكتملاً، للترميم، تكمل هي من لديها، تكتب أسماء المتبرعين وفواتير الشراء مع صور من العمل المُنجز، لأجل التوثيق ولأجل المصداقية والنزاهة.

تجوب أشواق المدينة المحاصرة، تشتري المواد التي تحتاجها وتفاوض على أسعارها وتنشر حكاياتها اليومية كأمٍ لثلاثة أولاد وكمعلمة وكزوجة لمغترب. اعتدتُ على متابعتها على فيسبوك ولها قرأت أحزن منشور: عن الخوف الذي سكنها بعد وفاة بطلٍ محلي (2). وصفت أشواق الحرب والحصار والألم، لكنّها أيضاً وثقت - ببساطة ودون تكلف - لحظة الانكسار والعجز، حين يصبح "العاديون" بدون بطل، بدون أمل، بدون حماية، تماماً مثلما توثق الآن رحلتها مع مسؤوليتها تجاه طلابها، ومهنتها، ومدينتها. أشواق على المقياس ذاته: بطلة!

"بنات"، اسمٌ وفعلٌ

مشغولات لنساء الحديدة

تدير "داليا" مؤسسةً ناجحةً سمتها "بنات الحُديدة". والحُديدة هي واحدة من أفقر المناطق في اليمن وأغناها في آنٍ واحد. تخبرني عن البدايات، حين انتبهت أن كل النساء حولها، بما فيهنّ هي ذاتها، يعتمدن اعتماداً كبيراً على الذكور، ويعود ذلك في أحيان كثيرة إلى الحاجة الاقتصادية. داليا مقتنعة بأن قوة النساء تكمن في استقلاليتهنّ المادية وفي تمكينهنّ الاقتصادي، خاصةً أنها كانت على اتصالٍ مباشرٍ بالعديد من النساء اللواتي كنّ يشكين لها ضيق حالهنّ وهوانهنّ.

في 2009 بدأت داليا مع فتياتٍ من عائلتها وصديقات لها في جمع مبالغ مالية ليكفلن في كل مرة سيدة (عائلة) ويمكنّها اقتصادياً. أولهنّ كانت سيدة تسعى لأن تفتح مشروع بيع وجبات منزلية، لكنها تفتقر للتموين. وبمساعدة المجموعة توفر لها ما تحتاجه من أدوات طهي وغاز طبخ ومؤونة، ثم انتقلت المبادرة إلى سيدتين أخريين ووفرت المجموعة لهن دورة تدريبية في الخياطة ثمّ ماكينات خياطة. انتقلت بعدها الفتيات إلى مستوى آخر، حيث نظمنَّ معارض لمنتجات النساء، ومن مدخولات المعارض كنّ يواصلن دعم مزيدٍ من النساء.

المبادرة التي استمرت على تلك الحال سنةً كاملةً، تحولت لتصبح مؤسسة باسم "بنات الحُديدة" وداعمها الرئيسي هو النساء أيضا: بنات رجال الأعمال وسيدات الأعمال. قبل الحرب كانت المؤسسة مهتمة بشكل خاص بالمرأة والطفل، وحين بدأت الحرب، فرّت أغلب المنظمات الدولية من المدينة المهمشة، وتدفق إليها النازحون من المناطق المنكوبة. حينها وقبل أن تتحول الحديدة نفسها إلى مكان منكوب، فكرت داليا ورفيقاتها بما وصفته حرفياً بأنه "مسؤوليتها الاجتماعية"، حيث أضفن إلى جدول أعمالهنّ قضايا اللاجئين والأعمال الإغاثية مع النازحين من الحرب.

في 2020 كان عدد المستفيدين من المؤسسة قد تجاوز مئة ألف بين مستفيدين - بالأخص مستفيدات - من التمكين الاقتصادي، والإغاثي ومساعدة النازحين واللاجئين. قصصٌ لسيداتٍ صارت لديهنّ أعمالهنّ الصغيرة الخاصة، ولشبانٍ لديهم أكشاك صغيرة للبيع. تحكي داليا كيف أنهنّ يتابعن حالات هؤلاء الذي يحظون بالدعم حتى يتأكدن من استقرارهم الكامل ومن جديتهم في انتشال ذويهم من الفقر والحاجة.

تقول داليا: حتى 2018 كان طاقم المؤسسة مؤلف كلياً من النساء، انتقدونا لذلك، بعدها أشركنا ذكوراً في الإدارة لكن ما زالت النساء يمثلن 60 في المئة على الأقل.

... وفي غير الحُديدة

ولا تكف نسوة مثل داليا عن التصدي لحاجاتهنّ وحاجات غيرهنّ في وضعٍ لا يمكن فيه إلا الاعتماد على الذات: من عدن في الجنوب، مبادرة "أنا إنسان" التي تسعى لتأهيل وتمكين أفراد المجتمع وبالذات النساء : تعليمهنّ حرفة، مهنة، خبرات معينة، من صناعة وتزيين "الكيك" والمخبوزات حتى الغرافيك والتصميمات. ومن عدن أيضاً مبادرات الشابات في مرحلة كورونا الأولية، وكنّ يجبنّ البيوت لإنقاذ الناس بأسطوانات الأكسجين وبالأدوية. ومبادرة أخرى حالياً تسعى لتتبع المرضى غير القادرين والتحقق من حالاتهم ثم التحرك لإيجاد المال الذي يمكن أن يسمح لهم بإجراء عملية أو الخضوع لفحوصات غالية أو السفر إن كان ذلك ضرورياً. هذا النوع من المبادرات الإغاثية التي تقودها نساء لا يُعد ولا يُحصى في جغرافيا هَمُّ ساكنيها الأول هو النجاة، النجاة من الجوع ومن المرض ومن الفاقة. وكما تصنع هذه الظروف مأساة فهي تلد "مبادِرات" للتصدي لها.

نساءٌ كوطنٍ خارج الوطن

ظلت مصر كما كانت سابقاً: أم اليمنيين قبل الدنيا. وحين اندلعت الحرب، وعلى الرغم من القيود المستحدثة على دخول اليمنيين إليها، إلا أن الكثيرين وجدوا طريقة للمساعدة. وكانت أحدهم الشابة "قَبول". وليس سهلاً أبداً أن تقول: "ذهبتُ إلى مفوضية اللاجئين ورأيت كم الهوان الذي يعانيه الناس".. هذا ما عاشته قَبول، التي كلاجئة يمنية لم تكن المنظمة تمنحها شيئاً غير مبرر بقائها في مصر.

قَبول، بحس مسؤولية المرأة تجاه العالم، ابتدأت مع زملاء لها بإنشاء منتدى على وسائل التواصل الاجتماعي يختص بهموم اللاجئين. تلقّف المنتدى هموم العشرات ممن كوتهم الحرب بنارها، ولم ترحمهم تعقيدات الحياة في بلدٍ آخر، ومنحهم استشاراتٍ عن كيفية التسجيل، الحصول على الدعم، الخ. بعدها تبين أن ذلك المنتدى قد يصبح أكثر من مجرد سؤال وجواب على الإنترنت، فتحول إلى مبادرةٍ ذات كيان قادتها قَبول لمدة ثلاث سنوات ونصف، استهدفتْ في البداية اليمنيين المبعثرين في مصر عبر تقديم المساعدات المالية كإيجار المنازل أو العلاج والطوارئ حين بدأت جائحة كوفيد. توسع العمل ليطال كل الجنسيات، وكبرت المبادرة لتضم أقساماً متخصصة: القانوني، الطبي، الإغاثي، التعليمي الخ.

مقالات ذات صلة

قالت قَبول أن المبادرة كانت مهتمة بالجميع على حد سواء، لكنها استهدفت النساء والجنسية اليمنية بشكل خاص، ولم تكن أحياناً قادرة على حل القضايا ضمن نطاق عملها وصلاحيتها، فكانت تحيلها إلى جهات مختصة، مثل الجهات القانونية التي تهتم بقضايا العنف ضد النساء المتزايدة منذ بدء الجائحة وفقاً لقَبول. وتصف قصة امرأة يمنية كان زوجها يضربها ضرباً مبرحاً، فتدخلت المبادرة لإنقاذها عن طريق وضعها على اتصال بمنظمة محلية متخصصة بقضايا العنف، التي تولت المهمة بعد ذلك قضائياً.

 وغير ذلك، هناك قصص اغتصاب، ونساء يمنيات بلا معين ولا مصدر دخل... وشاركتني كمثال قصة طفل اتهم بجريمة جنائية وتمّ وضعه في سجن الرجال، حتى استنجدت الأم بالمبادرة التي أوصلت القصة لمؤسسةٍ مختصة، ليتم نقل الطفل إلى سجن الأحداث وبعدها يُبرأ ويُفرج عنه بشكل نهائي.

تُحاول قَبول والمبادرة التي تشرف عليها تقديم ما استطاعوا إليه سبيلاً، فمن المساهمة في تعليم الأطفال إلى المساهمة في تمكين النساء، مروراً بتقديم دعم طبي ككراسي للمعاقين، تتحرك قَبول وزملاءها في مساحة مليئة بالتعقيدات، بالقلق، بالقصص الإنسانية المؤلمة، ولكن أيضاً بروح المبادرة والنضال.

نساءٌ أكبر من توقعات المجتمع وتابوهاته

مسك المقرمي

في مجتمعٍ مثل اليمن، لا يُتوقع من امرأة من فئة "المهمشين" أن تفض نزاعات الناس لأن الدولة غائبة، وأن تنشئ وتدير منظمة وتكون "عاقلة حارة"، وهو منصب رسمي ينفرد به الرجال. ومع هذ ف"مسك المقرمي" التي تنتمي لفئة "المهمشين" اجتازت حدود التوقعات وفرضت واقعاً مختلفاً.

مسك تقول إن تعليمها الجامعي كان مفتاح هذه التجربة - وقد كانت منشغلة بالتحضير للامتحانات حين تواصلتُ معها لأجل هذا التقرير، وهذا بحد ذاته أسعدني جداً: أن تواصل فتاة تعليمها العالي في ظل الحرب والمأساة. قالت إن وضع المهمشين في مدينة تعز صدمها وهي القادمة من الريف. فهذه الفئة كما هو معروف موضوعة في قاعدة الهرم الاجتماعي: "وجدتُ أن المهمشين في المدينة يأكلون الفتات من المطاعم، والبعض يأكل من براميل النفايات، ويعملون في تنظيف الشوارع، وأبناؤهم محرومون من التعليم، وتمارس بحقهم عنصرية مؤلمة" (3). قررت بعدها أن تؤسس جمعية "كفاية" في العام 2014 لتكون صوتاً للمهمشين ومنبراً للدفاع عنهم. تبنت الجمعية قضايا المهمشين "المهمشة"، واستهدفت بشكلٍ خاص النساء من خلال تمكينهنّ اقتصادياً ورفع مستوى وعيهنّ بحقوقهنّ، بالإضافة إلى اختيار شابات من المهمشات لتدريبهنّ ليكنّ ناشطاتٍ مجتمعيات (4).

ولا تقتصر مساعي مسك ومبادراتها على الجانب التوعوي بحقوق المهمشين وتمكينهم الاقتصادي، بل اتجهت أيضا للأعمال الإغاثية – وهو أمر يكاد يكون بديهياً في اليمن - حيث توفِّر "كفاية" المياه النظيفة والمساعدات الإنسانية، وتوثق صلاتها بالناس (5).

ولا ترفض "كفاية" مساعدة من يحتاج من غير الفئة سالفة الذكر، وبخاصة من الشرائح الهشة. ولأنها ضليعة في الوساطة وفض النزعات على مستوى محلي، صارت مسك "عاقلة" حارتها، بتوافق الجميع. وبالطبع لم يكن هذا سهلاً، فإن كان صعباً على النساء بشكل عام، فكيف سيكون على امرأة من "المهمشين"؟

علناً: عن ختان الاناث وأعضائهنّ التناسلية

وكما لا يتوقع من امرأةٍ مثل مسك أن تتولى مسؤوليةً قياديةً، لا يتوقع من امرأة "محترمة" أن تقول: "الأعضاء التناسلية للمرأة" في مكان عام، ولا أن تدق الشابات بيوت الناس لتخبرهم عن الختان وعن المعاناة التي ستعيشها بناتهم، ثم يأتين على سيرة الحياة الجنسية للنساء. لكن هذا سيحدث عندما تستدعيه الحاجة والمسؤولية.

تحدثتُ إلى الباحثة "مريم بن سمير"، القاطنة في حضرموت، في مجتمعٍ شديد المحافظة. مريم مع زميلات لها بدأن الحديث عن تابو مجتمعي: ختان الإناث، من خلال بحث أكاديمي قمن به، إضافة إلى استطلاع آراء الناس حول الموضوع. في الوقت الحالي، دائماً ما تسُخّف القضايا المتعلقة بالنساء، وتُزاح جانباً، فكيف مثلاً نتحدث عن الختان إن كان الناس يموتون جوعاً؟ ومن ذا أساساً الذي يريد أن يتحدث عن ختان الإناث، بين الذكور والإناث على السواء؟ تلك المسؤوليات عادة ما يضطلع بها من يؤمنون بقضية، ومريم وزميلاتها يؤمنَّ بتلك القضايا.

شاركتني مريم البحث، وصوراً لها وهي تدير ورش عمل وتقود فريقاً للتوعية، ولخصت لي النتائج: ما زال الكبار في السن يرفضون فكرة أن يتعرض أحد لهذا التقليد، وما زال الرجال يؤيدون بقوة تشويه أعضاء بناتهم التناسلية، بينما تَبين أنّ النساء صرن أقل دعماً لهذا العنف. وحين استفسرتُ منها إن كانت حملتها قد أثمرت عن نتائج إيجابية، أخبرتني أنْ نعم، وإن كانت قليلة.

وأنا الآن أعتذر عن ذلك السؤال: فإرث قرون لا يمكن لحملةٍ أن تغيِّره، والتغيير الحقيقي هو أن تتصدى مريم وزميلاتها لتحدٍ ومسؤولية يتخلى عنها ويهابها الكثيرون.

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

1 - هم ذوي البشرة السوداء في اليمن، ويشكلون شريحة اجتماعية منبوذة، وهذه المعضلة التمييزية لم تجد بعد حلاً مرضياً لها، لا على المستوى الرسمي ولا في المواقف العامة والمعتقدات السائدة. أنظر في السفير العربي:
- لطف الصراري، المهمشون في اليمن، اغتراب في أدنى الهامش /https://bit.ly/3qAyU5S
- أحمد الزكري، اليمن وطن أسود https://bit.ly/3qEuuLc
- ريم مجاهد، سلمى، فصل من كتاب حكايا من اليمن https://bit.ly/3Nmbr1Z   
2 -  أتحدث هنا عن الفترة التي اغتيل فيها العميد عدنان الحمادي الذي كان يقود المقاومة في تعز. 
3 -   مسك المقرمي، "تعليمي مكنني من عدم التسول والعيش في بيوت الصفيح"، معاذ ناصر، موقع "الحرف 28"، 20آذار/ مارس 2021 https://alharf28.com/p-56446
4 - مسك المقرمي .. ناشطة مجتمعية ورئيسة مؤسسة لتأهيل المرأة المهمشة، قناة سهيل التلفزيونية، 4 تموز /يوليو 2020 https://www.youtube.com/watch?v=Ng8qsZ022_8
5 - مسك المقرمي.. ناشطة حقوقية تتبنى فكرة الدفاع عن المهمشين ومساعدتهم في تعز. تقرير مها علي، 16 آب/اغسطس 2020، https://www.youtube.com/watch?v=9tIpsMYkqYM  

مقالات من اليمن

اليمن: كوارث السيول في "تهامة"

اتّسمت الاستجابة الرسمية في تعاطيها مع الكارثة، بمستوى متواضع، يتجلّى من خلاله الأثر البالغ للحرب والصراعات السياسية، في الوصول إلى هذه الحال البائسة التي ظهرت عليها الجهات المسؤولة في حكومتي...

للكاتب نفسه

رثاء...

ريم مجاهد 2023-07-06

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع...