موت التعليم في اليمن: مدارس للبيع وأخرى للإيجار

في اليمن، دولة تتصرف كمليشيا ومليشيا تتصرف كدولة، وما بينهما يتسرب البلد في مسارب المجهول. ومع إعلان حالة الطوارئ العالمية لمواجهة فيروس كورونا وتعليق الكثير من الدول العملية التعليمية وتأجيل الدراسة ضمن الإجراءات الاحترازية، بدا أن وزارة الصحة في الحكومة "الشرعية" لم تسمع أيضاً بهذه القضية العالمية.
2020-04-17

عبد الرزاق الحطامي

كاتب من اليمن


شارك

حادثتان شهدتهما أمانة العاصمة صنعاء، مطلع آذار/ مارس الفائت دقّتا آخر مسمار في نعش العملية التعليمية، لتدخل اليمن عصر مابعد التعليم وتنحدر نحو الأمية الشاملة.

تماهت مدرسة "ثانوية الشعب" النموذجية مع سوق السلام التجاري في الجهة المقابلة، على الرغم من شارع عام يفصل بين المدرسة والسوق الذي يتسيده كبار تجار الجملة ووكلاء الوحيدون للبضائع المستوردة .

اعتلى ناصية سور ثانوية الشعب - وهي من كبريات المدارس الحكومية في صنعاء - مبنى مستطيل على امتداد مسافة السور الذي اختفى تماماً. هنا سينام العمال وتتكدس البضائع. وأسفل منه برزت واجهات محال تجارية تمتد داخلياً على مساحة من فناء المدرسة وساحة الطابور، فيما ضاعت البوابة الرئيسية لمدرسة الشعب في زحام الأبواب الطارئة.

تتحدث مصادر إعلامية عن صفقة ثلاثة مليار ريال حاز فيها وزير التربية والتعليم في "حكومة الإنقاذ" التي يديرها الحوثيون وحلفائهم، على نصيب الأسد ، والوزير هو شقيق زعيم الجماعة الحوثية عبد الملك بدر الدين الحوثي.

وتزامناً مع جريمة بيع "مدرسة الشعب"، كان محمد علي الحوثي ، عضو المجلس السياسي الأعلى في "حكومة الانقاذ" يدق النصف الأخير من مسمار النعش في مدرسة "كيان" الأهلية التي قُتل أحد معلميها (فيصل الريمي) على يد تاجر سيارات موالٍ للحوثيين في كانون الأول/ديسمبر 2019. صارت جريمة مقتل المعلم قضية رأي عام، وخرجت مظاهرات تضامنية واحتحاجية في صنعاء، كاسرة حاجز الخوف والقبضة البوليسية للمليشيات الحوثية التي بدأ إعلامها في تمييع القضية، رغم ثبوت القرائن الطبية والجنائية. ونفت القيادات الحوثية أن يكون الجاني موالياً لها. مورست ضغوط على عائلة المعلم التي أصرّت على القصاص وتم اعتقال أحد مشائخ ريمة، جنوب صنعاء، على خلفية رفضه تمييع القضية التي تم انهاؤها بصلح قبلي وبنادق تحكيم (عدال) برعاية ميدانية مباشرة من القيادات الحوثية، وهي الطريقة المعمولة في الأعراف القبلية في اليمن في حل الخلافات الشخصية، في ظل غياب الدولة .

الدولة.. المليشيا.. فما الفرق؟

في برنامجه الأسبوعي على قناة "يمن شباب" وهي قناة أهلية يقف خطابها الإعلامي في صف حكومة هادي المعترف بها دولياً، تأسف المذيع للمشاهدين على عدم عثوره على متحدث في وزارة التربية والتعليم في برنامجه التلفزيوني الذي يتناول مستجدات القضايا اليمنية ويثريها بتصريحات هاتفية لمعنيين رسميين وسياسيين، في كل فقرة من البرنامج .

أنهى المذيع قضية مقتل المعلم فيصل الريمي في صنعاء ثم الصلح القبلي الأخير على عنوان الفقرة التساؤلي الذي ظل عالقاً أسفل الشاشة دونما إجابة. قال المذيع أن وزارة التربية والتعليم في حكومة "الشرعية" (أي التي يرأسها عبد ربه هادي وتقيم في الرياض) ردت بعدم علمها بهذه القضية. أضاف معلقاً على الرد الرسمي وخاتماً الفقرة العزلاء من أي تصريح ومداخلة على الهواء: إنها قضية رأي عام وبإمكانك أن تسأل أي طفل يمني ليحدثك عنها.في اليمن، دولة تتصرف كمليشيا ومليشيا تتصرف كدولة، ومابينهما يتسرب البلد في مسارب المجهول. ومع إعلان حالة الطوارئ العالمية لمواجهة فيروس كورونا وإعلان الكثير من الدول تعليق العملية التعليمية وتأجيل الدراسة ضمن الإجراءات الاحترازية بدا أن وزارة الصحة في الحكومة الشرعية لم تسمع أيضاً بهذه القضية العالمية .

أحد أبرز عوامل الفشل الحكومي هو غياب الجهات الرسمية عن الأحداث وانشغالها بإطلاق حملات الكترونية، كأقصى مايمكن أن تقدمه لمواطنيها، وأخيرها هو "حملة الحوثي كورونا اليمن" كهاشتاغ على شبكات التواصل الإجتماعي.

في صنعاء استبقت المليشيات حكومة الشرعية في العاصمة السعودية الرياض بالاعلان عن تعليق الدراسة في كل مناطق سيطرتها مع تأجيل موعد اختبارات النقل للعام الدراسي 2019-2020 إلى أواخر آذار/مارس.

قفزت وزارة التربية والتعليم في الحكومة الحوثية على واقع التعليم الميت أساساً لتواكب قلق العالم، ثم جاء تالياً الاجتماع الطارئ لحكومة "الشرعية" مسفراً عن الاعلان بتعليق الدراسة في جميع المؤسسات التعليمية لمدة أسبوع وبشكل مبدئي، ومعرباً في الوقت نفسه عن حكومة مازالت تتصرف في حدود ردة الفعل ورَجْعِ الصدى لما تبتدره المليشيا في صنعاء.

وقبل عامين نجحت المليشيات الحوثية في سحب منحة الحوافز النقدية الخاصة بالمعلمين إلى مناطق سيطرتها، على الرغم من أن المنحة مقدمة من الامارات والسعودية اللتان تقودان تحالفاً عسكريا ً لدعم "الشرعية"، وتستفيد المليشيات الحوثية من هذه المنحة المقدمة بالعملة الصعبة (70مليون دولار ) بشكل مباشر بعد عملية إحلال وظيفي واداري- تعرف ب" استراتيجية الحوثنة" - لأتباعها في مدارس سيطرتها ومع نزوح عدد من المعلمين وانخراط عشرات المئات من المعلمين في مهن وأعمال أخرى، إثر انقطاع رواتب موظفي الدولة ايلول/سبتمبر 2016.

لايتجاوز عدد المعلمين النازحين من مناطق السيطرة الحوثية إلى مناطق الشرعية 20 ألف معلم وفق تقديرات نقابة المعلمين اليمنيين، وهم لا يتقاضون راتباً من الدولة ولايستفيدون من منحة الحوافز النقدية، لكن وزير التربية والتعليم في حكومة الشرعية أعاق قراراً من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بصرف رواتب للمعلمين النازحين في محافظات الشرعية على دفعات، واشترط في عملية الصرف ضرورة مباشرة المعلمين النازحين في عملهم الوظيفي، متجاهلاً الوضع الانساني الخاص لنازحي الحرب وقلة المدارس وفرص التغطية الوظيفية في مناطق النزوح.

ويتراوح الراتب الشهري للمعلمين مابين 60-80 ألف ريال يمني، مايعادل ( 100-130 ) دولار أمريكي ، ولايكاد يفي بأدنى احتياجاتهم المعيشية .

سور الرئيس هادي

بسقوط سور مؤسسة تعليمية في القطاع الحكومي تسقط الهوية العامة للتعليم والدولة وتتماهى حرمة المدرسة وحرية السوق ويغدو التعليم بضاعة مزجاة في السوق السوداء والمزادات السرية والعلنية. وهنا تتماهى الدولة والمليشيا أيضاً.

منتصف تسعينات القرن الماضي، رعى رئيس الجمهورية علي عبد الله صالح عبر نائبه عبد ربه منصور هادي، رئيس اليمن حالياً، مهرجاناً داعماً لدار رعاية الأيتام على خشبة مسرح الدار في صنعاء.

سور "مدرسة الشعب" في صنعاء.

حينها كان هادي نائباً لرئيس الجمهورية بدون قرار جمهوري، ويرأس في الوقت نفسه اللجنة العليا للاحتفالات. واتضح أن المهرجان حفلة أنخاب خاصة تمريراً لدعم رسمي في صفقة تأجير سور الدار، الممتد على مسافة ثلاثمئة متر، منتصف أكبر الشوارع الحيوية في أمانة العاصمة.

مقالات ذات صلة

تبرع رجل الأعمال سلطان الخامري - رست عليه الصفقة دون مناقصة- بمليون ريال لدار الأيتام وطابق ثالث في مبنى القسم الداخلي لمهاجع إيواء أيتام الدار. وقضت الصفقة المعلنة رسمياً على لسان المسؤول الثاني في الدولة، نائب الرئيس، أن يستثمر الخامري السور أفقياً وعمودياً ل 15 عاماً تذهب فيها إيجارات المحال والمخازن التجارية الى جيبه الخاص وبعد انتهاء المدة يتم تسليم الايجارات فقط للإدارة العامة لدار الأيتام، مع الإبقاء على المحال ملكيةً خاصة بالمستثمر.

بسقوط سور مؤسسة تعليمية في القطاع الحكومي، تسقط الهوية العامة للتعليم والدولة، وتتماهى حرمة المدرسة وحرية السوق، ويغدو التعليم بضاعة مزجاة في السوق السوداء والمزادات السرية والعلنية. وهنا أيضاً تتماهى الدولة والمليشيا.

غابت البوابة الكبيرة للدار الذي بني مطلع ثمانينات القرن الماضي بتمويل سعودي في زحام أبواب المحال الجديدة، واعتلى ناصية السور مبنى مستطيل لمخازن البضائع. وبعد انتهاء المدة انتقلت القضية إلى القضاء، إثر رفض المستثمر تسليم الايجارات إلى الدار بحسب العقد المتفق عليه.

اجتاح الحوثيون صنعاء في إيلول/ سبتمبر 2014 وتم تغيير إدارة الدار والزج بأيتام الدار إلى جبهات القتال. ولا داعي للتساؤل الآن: إلى أي مصب تذهب إيجارات السور؟

مقالات من اليمن

"الزامل"، ورقصة الحرب في اليمن

مثّلت معركة غزّة الجارية، التي انطلقت في السابع من أكتوبر/تشرين أول2023، مرحلةً جديدة في مسيرة الشعر الشعبي الحماسي أو "الزامل"، إذ تجاوز الفضاء المحلي باستيعابه مضامينها، ومواكبته لأحداثها، بدءاً من...

للكاتب نفسه

تزوير وتكفير الآثار اليمنية!

في منتصف آذار/ مارس الماضي 2021، وبالتزامن مع الذكرى السنوية السابعة لـ"عاصفة الحزم"، دعا محافظ ذمار إلى فتح باب المنافسة أمام المصممين الفنيين والنحاتين لتشييد نصب تذكاري وسط المدينة للملك...