المنظومة الأربعينية التى عاشتها ليبيا تحت يد شفرة الدكتاتور، فقدت فيها الكثير من ثرواتها البشرية والمادية واختفت فيها بنية الإنسان الطيب المتسامح المشبعة برائحة البحر والملح ورمال الصحراء وسدر الجبال وسط تغلل الإرهاب وسطوة السلاح وسعير الحرب .
قبل تلك الأربعينية لم يكن في أجندة الاحتفالات الليبية بالأعياد والمناسبات الوطنية إلّا الاحتفال بذكرى استشهاد الشيخ عمر المختار. في العام 2011 بدأت منظومة الشهداء تزداد على امتداد المساحة الليبية الخالية من العمار والبنية التحتية، عدا قبور الشهداء. تشكلت أول حكومة جلس تحت مظلتها كل الليبيين ولم يخرج أيّ منهم خارج سرب الوطنية، لتعلن عن إنشاء وزارة لرعاية أسر الشهداء والمفقودين تكريما للشهيد ورعاية لأسرته وأبناءه الأيتام.
حكاية وزارة...
وزارة مستحدثة عُرفت فيها القرارات على الورق، سُيلت فى ميزانيتها الملايين فكانت هباء منثورا ما بين الأثاث المكتبي والسيارات التي سُلمت للمسئولين فباعوها وسرقوا ثمنها، وصفقات التأمين الطبي التي طالب بها أهالي الشهداء لحاجتهم لمن يساعدهم للعلاج وتكاليفه المرتفعة، فكانت البطاقة الطبية مدخلا سيَّل لُعاب اللصوص لنهب المزيد من ثروة هذه الوزارة التي تعاقب على رئاستها عدة وزراء كان لكلّ منهم طاقمُ وحاشية. أُهدرت ملايين بعد هذا الانقسام والشتات الذي بدأ في ليبيا بعد الحرب ما بين حكومتين شرعية ضعيفة، وحكومة أزمة بسطوة السلاح. في خضم هذا الصراع اتضحت ملامح التخاذل أكثر وظهر النهب في أبشع صوره - ليكتشف كل من يتعامل مع الوزارة أنّ الفساد كان يتغلغل فيها منذ البداية، فالأعمال التي من المفترض أن تقدّم كانت على الورق. وزارة زاولت عملها لأربعة أعوام دون أن تنجح في استحصال عوائد استثمارية ولا معامل لتحاليل العينات تليق بحفظ عينات بشرية. طالبتهم الكثير من منظمات المجتمع المدني وأهالي المفقودين بأن يلتفتوا إلى المقابر المترامية في المناطق التي طاولتها الحرب ومخلفاتها، فكانت كل الآذان صماء لجلب خبراء يقومون على تدريب كوادر ليبية - فليبيا ليس لديها خبرة في العناية بالمقابر وطرق فتحها وحفظ العينات.. تشبه خبرة البوسنة وكرواتيا وألمانيا وكوريا ولبنان، ولم تهتم بوضع خطة بعيدة المدى تخدم أبناء الشهيد، فجُلهم تركوا ليكملوا رحلة الحياة وحدهم، ومنهم من لم يعرف والده إلا من الصور على جدران بيوتهم. رجالٌ ذهبوا للحرب وبقيت زوجاتهم فأنجبن بعدهم. النساء أكثر من يتحمل ويلات الحرب الشرسة .
عمر المختار
وتمر ذكرى الشهيد كل عام في ليبيا ممزوجة بألم أكثر من السنوات التي مضت. انقسام ما بين حكومتين كلٌّ منهما توثق أسماء شهدائها، فبعد أن كانت منظومة الشهداء لا تحمل في ذاكرتها إلا شهداء فبراير ومجزرة بو سليم ومجزرة اليرموك وشهداء مقبرة بن جواد وأم القنديل. لن يستطيع أحد اليوم منعهم من إضافة أسماء من وافتهم المنية يوم حادثة غرغور الشهيرة في طرابلس بقيادة المليشيات المسلحة، ولن يستطيع أحدهم أن يمنع إضافة أسماء من سقطوا يوم حريق مطار طرابلس، هو وطائرته، والحرب في مدينة بنغازي لم تحسم بعد. كل يوم يسقط الكثيرون على المحاور. في المقابل، على الطرف الآخر، يسقط داخل منطقة الصابري وسوق الحوت ومنطقة الليثي داخل بنغازي الكثير من أبناء هذه المناطق الذين ينضوون تحت تنظيم أنصار الشريعة وما يسمى مجلس ثوار بنغازي.
الحقائق مؤلمة على أرض الواقع، فكيف تحيي ذكرى شهيد في وطن عاث فيه الفساد وبيعت الذمم ونصبت خيام التعنت والعناد على أعمدة الكراهية بين الشرق والغرب وزُيفت فيه حقائق لحقبة متعثرة من تاريخ ليبيا. ليتنا نعُيد إلى ذاكرتنا ذكرى الشهيد عمر المختار ونُسكِت صوت الانقسام وهو يحصد منا الرجال ويجتث منا الوطن، ونحن غافلون.